إذا كان إلياس فرحات شاعراً بالفطرة منعته ظروف مشؤومة من الحصول على ثقافة عالية تفتح له ممراً إلى أسرار النفس الإنسانية، وحالات الاجتماع البشري، وألوان الفن الشعري، فإن لرشيد الخوري فطرة الإنشاد. فهو منشد، لا شاعر. أو إنّ شعره يتجه بكليته إلى الإنشاد والترنم. وهو كصديقه إلياس فرحات لم يحصل على ثقافة راسخة تكشف له قوة الفن الذي فطر عليه، ولكنه كان أسبق من فرحات وأعظم حظاً في حصوله على صناعة النظم قبله. فسلك طريق النظم وهو يحسبها طريق الشعر. وإنّ من يتتبع نشأته الشعرية يجد أنّ «شعره» كان مجرّد محاكاة وانعكاس من دواوين الشعر الابتدائي الذي لم يكن له غرض في الحياة أو معنى، غير التشبيب والغزل والمديح والهجو وشيء من الحماسة والفخر. وهكذا تراه في الرشيديات لا همّ له ولا دافع غير تقليد جماعة الشعراء الذين اقتصر شعرهم على ما تقدم ذكره، من أجل «الخلود على الأرض بواسطة المطابع» كما يقول في مقدمته: لـ الرشيديات.
لو أنّ رشيد الخوري تبع دوافع موهبته، بدلاً من الاجتهاد في اكتساب موهبة غيره، لخرج شاعراً منشداً يغني ويحمل الشعب كله على غناء جمال سورية وعظمة الشعب السوري. ولكن الإنشاد كان يحسب من سقط المتاع ولا يُعَدّ صاحبه من ذوي الشأن والمكانة. ولم يكن الخوري ذلك الواعي الخارج على التقليد الشاعر بحاجة الشعب إلى أناشيد حياته فلم يفرّق بين ما هو موهبي وما هو كسبي، بل اختلط عليه الأمران فضلّ وأخذ يخبط على غير هدى، حتى بلغ إلى الدعوى ووضع نفسه في غير ما يحتاج إليه وتلزمه موهبته.
في المقال الأول من هذه السلسلة أعطينا القارىء نموذجاً من بلادة التقليد المبتذل في نظم رشيد الخوري في أوائل عهده بالقريض (ص 4 أعلاه). والآن لا بد من تقديم مثال من شعره الحقيقي الموهوب له، وهو مما نظمه ووقّعه على العود لينشد وعنوانه «حنين إلى الأوطان»:
لــــــلــــــــه تـــــلك الجبــــــــــال
تــــــــــــــــلك الـــــــــــــــــذرى
ذاك المعين الـــــــــــــــــــــــــزلال
لـمّــــــــــــــــا جـــــــــــــــــــرى
تــــــلك الــــربـــــــى والـتــــــلال
تـــــــــــــلك الـــــــــقــــــــــــرى
«صـــــنين» «ضــهـــر الــقضـــيب»
تــــــــــــــــــلك الــــــــــــــــــقنن
«ســـهــــل الـــبــقــاع» الخصـــيب
«نــــــــبــــــــــــع الــــــــــــــلبن»
لــــــلــــــه ذاك الــــغــــديــــــــــر
مـــــــــــــــــــا أعـــــــــذبــــــــــا
لــــــلـــــه تـــــلك الــــــزهــــــور
مـــــــــــــا أطـــــــيــــــــبـــــــــــا
لـــــلــــــه تـــــلك الـــــطـــيــــور
مــــــــــــــا أطـــــــــــربـــــــــــــا
مــن كــــل شـــــاد عـــجــــــــيب
يــــــنــــــفــــــي الشـــــــجـــــــن
في شـــــــدوه لــــلـــقــــلـــــــوب
ســـــــــــلـــــــــــــوى ومـــــــــن
إيــــــاكِ يـــــهـــــوى الــــفـــــؤاد
يـــــــــــــــا أمّـــــــــــــنـــــــــــــا
مـــــــن دون كـــــل الـــــبــــــلاد
أنـــــــــــت المنــــــــــــــــــــــــى
هــــل يـــــاتــــرى مـن مــعــاد
يـــــــــــــومـــــــــــــــــاً لــــــنـــــــا
يــــا حســــن يـــــوم تـــــؤوب
فــــــيـــــــنـــــــا الســـــــــفــــــــــن
نشـــتــــمّ قــبــــل الــــغــروب
ريــــــــــــح الـــــــــــــوطـــــــــــن
في هذه المقاطع تحس موهبة رشيد سليم الخوري الجميلة التي كان يجب أن تسد فراغاً عظيماً في حياتنا. فأي سوري رأى النور في سورية وترعرع فيها ثم نأى عنها ويسمع هذه المقاطع تنشد ولا تهتز نفسه من أعماقها؟
إنّ المقطعين الأولين من هذا النشيد، ولم نثبتهما هنا، ليسا في هذه الدرجة من صدق الشعور وتحرره من التكلف. ولكن هذه المقاطع الثلاثة فيها كل الصدق في الشعور والإحساس بالحياة والجمال.
هذه المقاطع الثلاثة هي كل الشعر الذي يقع عليه متحسس الجمال في الجزء الأول من الرشيديات، وهو كتاب غير صغير، من شعور الناظم. وهنالك شعر آخر في هذا الكتاب ولكنه نظم شعور إنسان آخر هو الشاعر البرازيلي «كازميرو دي أبريو» عنوانه: «سنواتي الثماني الأولى» وما تبقّى فهو ترديد مملّ لمنظومات زمن عتيق واستمرار لمثله الدنيا.
الاستمرار في مُثُل الزمن العتيق الدنيا وتكلف نظم القصائد هما الصفتان الثابتتان في منظومات رشيد الخوري. وشذ عنها في أناشيده فقط. وليس أدل على ذلك الاستمرار وذاك التكلف من سلوكه مسلك الغزل والتشبيب، نسجاً على منوال شعراء العرب المتغزلين. والغزل والتشبيب هما مدار شعور الشعوب غير المثقفة ويغلب فيهما الاحساس المادي على الشعور الروحي. وإذا درسنا جيداً بعض منظومات رشيد الخوري في هذا الباب وجدنا أنه أغرق في المادية وقصّر عن الشعراء الذين حاول تقليدهم وإليك هذا المثال:
ثـــم ارتمـيــنا فوق أغصان الربى
ثملين في الغض الــنــدي كجسمك
وغدوت كالعقـد النثير على الثرى
أعجـزت ألــبـــق شـاعر عن نظمك
البيت الثاني، الذي كان ينتظر، بعد التمهيد في البيت الأول وما قبله، أن يكون غاية في المثالية وتفوّق الروحية، ليس سوى مادية مجرّدة نظمت فهوت بالشعر إلى الحضيض. فيه ترى الحيوانية المادية مجرّدة حتى من روعة الوحشية. أو قل هي وحشية منحطة، ممسوخة، خلت من سذاجة الوحشية الأصلية وسحرها الطبيعي الرائع فأصبحت حيوانية.
وانظر قوله في القصيدة عينها:
يـــا نحلــةً دون الأزاهــر هجتها
من ذاق شهدك لم يخفْ من سُمّك
أي أنه ما رام منها غير قضاء وطره فإذا قضاه فلا يهمه غضبها. وهذا واضح ليس بتفسير هذا البيت فقط بل بقوله الصريح في البيت الذي قبله:
فــرنــوتِ مُــغضِبــةً إليَّ فصابني
سهمٌ فـــوا شــوق الفـــؤاد لسهمك
وكل همّ الناظم من الفتاة هو أن تكون قد جددت صباه ليشتهيها من غير أن يراعي شعورها بدليل قوله في البيت الأخير:
لا بدع أن جددت لي عهد الصبا
بـــرضـــاك عــنــي تــارة وبرغمك
والقصيدة كلها تصور شخصي لحالة خصوصية تتعلق بالناظم وحده. وكان يجب أن تبقى من خصوصياته الداخلية التي لا لزوم لإطلاع غيره عليها، لأنها لا تمثل شيئاً يهم غيره من الحادثة التي يصفها.
وإنك إذا حلّلت القصائد التي أراد رشيد الخوري أن يجعلها روحية شعورية وجدت أنّ فكرتها وصورها مادية، إلا ما كان منها مترجماً أو مأخوذاً معناه عن آخرين. وقد عوّدنا رشيد الخوري اقتباس كل فكرة أو خاطر لغيره سمعه في مجمع ونظمه، حتى بتنا نشك كثيراً في أنّ له هو معاني شعرية، يساعدنا على هذا الشك تبلبل أفكار منظوماته وتضاربها وسطحية معظمها. وإذا كان له معانٍ شعرية فهي نادرة في غير الإنشاد.
وكان رشيد الخوري، في بادىء أمره وقبل أن يأخذه هوس «الخلود»، إذا ترجم شعراً لأحد الشعراء الغربيين لزم الأمانة وذكر الترجمة والمترجم عنه. ولكنه بعد أن أصبح في عرف الصحف، التي لا نقّاد للأدب عندها يصح أن تطلق عليهم هذه التسمية، «الشاعر النابغ» الذي يشير إليه صديق له وللدكتور جورج صوايا في بشمزين، اسمه سليم غازي على هذه الكيفية: «إبتهجت للحفلات النادرة المثال التي أوجدتها لصديقنا «الشاعر القروي» والحق يقال قد سما وحلق وربح الخلود(!!) وكم أبتهج عندما أراك تعزز حلقتنا القديمة المتينة كداود وفلكس وماري ورشيد، الخ.» (من رسالة الكاتب المذكور إلى الدكتور صوايا) - نقول إنه عندما أصبح رشيد الخوري في هذه الحالة رأى أنّ شهرته قد أغنته عن أمانة النقل فصار يقتبس ويترجم وينقل بلا حساب. وقد كشف لنا محرر الجامعة السريانية في الأرجنتين الذي يطعن فيه الخوري في «محاضرته» المشار إليها لهذا السبب، عن اقتباس أصبح يُعدُّ سرقة بعد أن سكت المقتبس على اقتباسه وادعى الابتكار. هو قصيدة رشيد الخوري بعنوان: «الشاعر المبتلى والطبيب» وفيما يلي القصيدة من نظم «القروي» مع القصيدة الأصلية التي اقتبس رشيد الخوري معانيها وبعض عباراتها وهي بالإسبانية للشاعر المكسيكي المعروف خوان دي ديوس بيسا:
«الشاعر المبتلى والطبيب» - لرشيد سليم الخوري - الشاعر القروي
يـــا طـبـيـب الخير يـا خير طبيب
يــتــداوى عــنــده الـقلـب الحزيــن
أومــا عـنـدك لـلصب الـكئيــب
ظــامـىء الأحشــاء ريــان الجفــون
من دواء؟
أيــهــا الــعـاني تـنـقّـل في البلاد
فــمريــر العيـش يــحــلــو بــالنقــل
إنّ في الأسـفــار سـلـوى للفؤاد
وشـــفــا لــلصــدر مــن داء الملــــل
شرّ داء
يــا طــبيب الخير قــد عـزّ الدواء
فــلأدع أمــري لأحــكــام الــقــدر
كـيـف بالأسفـار يـرجـى لي شفـاء
وأنــا قضّيت عمـري في الســفــر
والتنائي
يـــا غــريبــاً يشتـكـي مــر الـنـوى
سـوف يشفيـك التدانـي يا غريب
في ربــى لـبـنــان لـــلمضنـــى دوا
ورجــا إن فـرغـت كفّ الطبيـب
من رجاء
يــا طبيبـي اليـوم قـد جـف السراج
وانـطـفــا كــــل رجــاء بــالـبقـــا
فــالـــذي تحسبـــه خــيـر عــــلاج
لشقــائــي هــو لـي أصـل الـشقــا
والبلاء
بـهــت الآســي وقــد بــلّ زنـــــاد
فــكــره بـالــدمـع حتـى لا شـرر
ومـضـى عـنـي كـئـيبـاً ثـم عـــــاد
مشـــرق الـوجـه رجــاء كــالقمر
في السماء
قــال يــا ابنـي إنّ لــلصوت عجب
فـهـو كــالبلسـم لــلقلب الجـريـح
رُبَّ لحن هـــــز مــيـتـــاً فــوثـــب
مـثـلـمـا تـلمســـه كــف المسيــح
بالشفاء
ولـقــد تــلقــى بسـنبـولـــو فتــــى
شـاعــراً ينفـي عن القلـب الهمـوم
وإذا غـنــى عــلــى الـعـــود فتـــن
وجـــلا عن أفـــق الصــدر غيـوم
بالغناء
أومـــــا لــي مـــن دواء آخـــــر
غــيـــر ذا، إن لـم يــزل عنّي العنــا؟
قــال كـلا! قلت ما اسم الشاعر
قــال يـدعـى «المبتلـى»! ويلـي أنــــا؟
واشقائي
أوأنــت «المبتلــى» أنـت؟ أجـــل
أنــــا مـن تــرجــو لإبــراء السقـــــم
فبكــى الآســي معي ميت الأمل
ربّ عيـــن خــفـفـت عـنــا الألــــــم
بالبكاء
هاني بعل
للبحث استئناف
(1) هذا العنوان الفرعي ورد في الزوبعة، العدد 7، 31/10/1940، ولم يرد في سورية الجديدة