وكــــورك فـــوق طـــويــل المطـــا
وســرجـــك فـــوق شـــديــد الــقــرا
وقــد يـفســد الـفــكــر في حــالـــة
فــيــوهـــمـك الـــدرّ قــطــر الــســرا
ســـقــــاك المنــى فــتـمــنّـيـــتــهـــا
وصــاغ لك الــطـيـف حـتـى انـبــــرا
المعري
في الأبيات المتقدمة التي هي من صياغة الشاعر الفلسفي السوري الخالد أبي العلاء المعري، وصفٌ شعري بديع لحالة من حالات فساد الفكر تشبه نوعاً الحالة التي سنعالجها في ما يلي. ولكي تكون الصورة التي صوّرها المعري واضحة لكل قارىء يجب تفسير البيت الأول. ففيه ألفاظ لا يمر بها نظر كل قارىء في مثل هذا الاستعمال. ومعناه مشهد رجل وضع الرحل على ظهر الفرس، ووضع السرج على ظهر البعير. ومن كان هذا شأنه لا يكون طويلاً شوطه، سواء أرَكِب الفرس أم ركب البعير. ولا حاجة لتفسير البيتين التاليين فمعناهما واضح.
بلغ رشيد سليم الخوري الملقب بالشاعر القروي من النظم مبلغاً أجاز نعته بالشاعر، بعد كدٍّ ونَصَب وعرق وتعب. فهو ليس شاعراً مفطوراً على الشعر، بل شاعرٌ، صار شاعراً بالاجتهاد والتحصيل. فهو كان في أول عهده بالقريض، وإلى مدة غير قصيرة، ينظم البيت والبيتين في أية فكرة عامية بسيطة عرضت له، أو القصيدة التقليدية في غزل مبتذل أو حماسة. ويحفظ ذلك كمن يحفظ درة ثمينة. وقد أخرج لنا من هذه الدرر الصدفية ديوانين جمعهما، تواضعاً منه، في ديوان واحد جعله جزئين. هذا الديوان هو الرشيديات، وتكلف الشعر تكلفاً ظاهر فيه. وإلى القارىء أمثال منه:
-في معبد-
أســــرّ لي الصـــديــق وقــد رآهـــا
جــثت في مــعــبــد هــذي «أنــيــسه»
فــقــلـت لـه وهــل أمــر غــريـــب
إذا صــلّـــى مـــلاك في كــنيـســه؟؟!
ظل هذا شأن الخوري إلى أن جاء البرازيل المغفور له العلاّمة الدكتور خليل سعاده، وأنشأ سنة 1920 الجريدة وأطلق بواسطتها من قلمه تياراً من الشعور الوطني الصحيح كهرب النفوس وأثار فيها الحمية. وكانت مقالات الدكتور سعاده الصاعقية التي حمل بها على الخمول والخيانة والتذبذب في الوطنية والخنوع والاستسلام للأجنبي، وناقش بها موقف المسيحيين من الاستقلال ومسألة لبنان، منذ عهد المجلة في الأرجنتين إلى عهد الجريدة في البرازيل، الصورة الأولى للأخلاق الوطنية الصحيحة المنزهة عن كل مأرب خصوصي التي عرفها المهاجرون، وكان من سوء حظ المقيمين ألا يعرفوها حتى سنوات قلائل مضت، والقوة الفكرية الموجهة للأدباء والشعراء والنور الذي قبسوا منه واستناروا به في أدبهم وشعرهم الوطنيين.
لا ينكر إلا كل مكابر أثر الدكتور خليل سعاده في تكوين النفسية الوطنية الجديدة وشق طريق الروحية الوطنية الصحيحة ووضع قواعد العقلية السياسية المتينة.
وقد أصاب رشيد سليم الخوري وإلياس فرحات نصيب وافـر من تأثير الدكتـور سعـاده. وهـذا ليـس قدحاً فيهما، بـل مدحاً لهمـا، إذ همـا شاعـران، كانـا ولا يـزالان يحتاجـان إلى قائـد للفكـر في الشؤون الاجتماعيـة والسياسيـة التي يطرقانهـا بشعرهمـا فضـلاً عـن أي شـأن مـن شؤون الفلسفـة.
جارى رشيد الخوري الحوادث الوطنية كما كان يرسمها قلم الدكتور سعاده. كما كان يجاري من قبل غير الدكتور سعاده، كما سيجيء ووضع نفسه في مجرى كل تيار عاطفي وطني ونشر الكثير من شعره في الجريدة. وشيئاً فشيئاً أخذت منظوماته تصير وطنية في معظمها ثم وطنية - سياسية. ويظهر في هذه المنظومات تأثره بشعراء العرب ولغتهم وطرقهم وأساليبهم ومناحي شعورهم.
وليس للخوري أية معرفة حقيقية أو ثابتة بأدب غير عربي، فهو لا يعرف لغات أجنبية، غير البرتغالية التي اكتسبها في البرازيل، معرفة تخوّله قراءة آدابها ودراسة فنونها. وإذا كان قد بلغه شيء من هذه الآداب والفنون بطريق النقل إلى العربية فهو ليس إلا وشلاً من بحر وأكثره ممسوخ أو مجتزأ بصورة لا تظهر كل حقيقته وقوّته.
ليس قصدنا هنا إعطاء ترجمة كاملة لحياة رشيد سليم الخوري وشعره. ولكننا رأينا إيراد هذه اللمحة لما لها من العلاقة الوثيقة بالطور الجديد الذي يدخله في نظمه ونثره.
إرتقى رشيد الخوري من ناظم أبيات متفرقة مبعثرة يتخذ جوهراً لها بعض أفكار عامية أو اعتيادية أو عارضة، إلى درجة ناظم قصائد وطنية. فصار ينظم في كل حادثة وكل أمر ويؤيد ويمدح كل حركة تنشر الصحف عنها أنها وطنية بدون تحيّز، مقتنعاً بأن يكون هدفه تأييد الأعمال الوطنية بلا فارق بين جماعة وجماعة أو بين حزب وحزب إلا حين يستشعر في الصحف نعت «خونة» أو تشهير «خارجين على الوطنية». وكان إلى هذا الحد ناظماً لا بأس بسماع شعره مع الإغضاء عن عواهنه.
ولكنه ما كاد يستشعر تحبيذاً «لوطنية» قصائده حتى أخذت نفسه تحدثه «بالخلود» وأصبح في المدة الأخيرة يكاد لا يكون له همّ آخر في أدبه أو شعره غير طلب الخلود بكل وسيلة. وصار يرى نفسه جديراً جداً بالخلود، خصوصاً بعد أن سمع مديحاً وإطناباً دبلوماسيَّيْن من أمثال المير شكيب أرسلان. وسمع العامة تمدح «الشاعر القروي» ومنظوماته «الوطنية»، حتى أنه خرج إلى الدعوى الصريحة فقال: «وكرّست نفسي لتحرير شعبي»! مُظهراً جهلاً فاضحاً لما تكون مهمة تحرير الشعب وكيف يكون تكريس النفس لهذه المهمة العظيمة التي ينزلها بهذه العبارة الاعتباطية منزلة شيء عادي بسيط.
كان التعبير المذكور أول خروج الخوري إلى الدعوى الطويلة العريضة في استحقاق «الخلود» بصفة «مكرّس نفسه لتحرير شعبه». وإذا كان الخلود يأتي بمجرّد القول، فقد أصبح رشيد الخوري خالداً الخلود المنطبق عليه.
الولع بالخلود يصير نوعاً من الهوس أو مرضاً نفسياً كمرض جنون العظمة الذي يصيب المولعين بها وبالظهور بمظاهرها. ومما لا شكّ فيه أنّ هذا الهوس جعل الخوري يمعن في الدعوى ويطلب المواقف التي يرى فيها ما قد يبرر دعواه. فهو اليوم لا يريد أن يقف عند حد ناظم ينشىء القصائد في الأعمال والحوادث الوطنية الجارية، بل يريد أن يظهر أمام الرأي العام بمظهر صاحب دعوة، أو على الأقل بمظهر أرخون من أراخنة «القضية الوطنية» أو من أركان «العروبة» فلا يكون من أتباع سعاده مؤسس النهضة السورية القومية. وإرادته هذه تظهر بوضوح في «محاضرته» التي أعدَّها لمولد النبي محمد ونشرتها جريدة الرابطة ابتداءً من العدد 527 الصادر في 8 يونيو/حزيران 1940.
في هذه «المحاضرة» خرج رشيد سليم الخوري من دائرة الإذاعة السرية ضد الحزب السوري القومي، وضد زعيم الحركة السورية القومية إلى الجهر بعداوته والإذاعة علناً طمعاً بالخلود كمدافع عن «العروبة والإسلام» عند الأكثرية المسلمين. ولكي لا يتوهم القارىء أنّ تشخيصنا مرض الولع بالخلود المصاب به رشيد الخوري مبني على استنتاجات بعيدة مأخوذة من دليـل واحد مؤوَّل علـى هذا الوجـه نورد هـذه الحقيقة:
تحدث رشيد الخوري أكثر من مرة ومرتين، لعدد من أصدقائه، عن خلوده ببيت من الشعر قاله في العَلَم السوري وهو:
إن كنت للحق فلتخضع لك الأمم
أو كنت للظلم لا حُيّيت، يا عَلَم
فلننظر في هذا البيت الذي يجعله الخوري أساساً يبني عليه مجد خلوده: ليس في هذا البيت شعر أو معنى شعري. فهو كلام بسيط لا يختلف عن كل كلام آخر إلا في أنه منظوم. أما فكرته فليست فكرة شعرية. وهي فكرة قديمة وردت في أشكال كثيرة كقولك «العدل أساس الملك».
أما من حيث أنه قيل في عَلَم الشعب الذي ينتمي إليه الناظم فهو إهانة لهذا العلم ولشعور الشعب الذي يمثله. ذلك أنه يوحي الشك بروح الشعب الرافع العَلَم وبالحق الذي يمثله العَلَم.
إنّ النفسية العتيقة الرازحة التي يمثّلها رشيد الخوري في أدبه، والتي تظهر في هذا البيت الحقير من نظمه ليس لها وعي يدفعها إلى رفضه وازدراء أدب صاحبه. ولكن النفسية الجديدة القومية الواعية ترى أنه لو قيل هذا البيت في عَلَم النهضة القومية لاستحق صاحبه أن يُجلد علناً في الساحات العمومية، ليتعلم احترام إرادة الأمة وتقديس رمز وحدتها وقوّتها ومجدها وحقها في الحياة.
وإنّ أدباً بهذا المقدار من الذلة والشك والحقارة يراه «الأديب من إخواننا في البرازيل»، المرجح أنه رشيد الخوري وصاحبه وزميله زكي قنصل، أدباً خالداً يعلو على المعتقدات البشرية. أما الحزب السوري القومي فيراه أدباً سخيفاً يمثل عقلية صبيانية ويرى أنه عبء ثقيل على كواهلنا يجب أن نطرحه إلى الأرض لنسير بقوة نحو مثل حياتنا الجديدة العليا. وأصحاب هذا الأدب أصبحوا يدركون أنّ نفسيتهم عتيقة، جامدة، لا قبل لها بالتجانس مع النفسية الجديدة والسير معها، ويوقنون أنّ الصراع الذي أعلنه سعاده، وأشارت إليه سورية الجديدة في افتتاحيتها «الصراع بين جيلين، جيل يريد مقوياً ينعش قواه المنهوكة ويساعده على الاستمرار في خصوصياته، وجيل يريد سحق الخصوصيات ويشعر في قوّته القدرة على تنفيذ ما يريد» (أنظر ج 3 ص 285) ليس شيئاً خيالياً غيبياً، بل أمراً حسياً واقعياً. وشيئاً آخر أدركه أصحاب هذا الأدب المائت هو أنّ الحرب بين النهضة القومية والرجعة الدينية - الإقطاعية هي حرب حقيقية لها معاركها وأبطالها وانتصاراتها ولها أيضاً - وهو الشيء المخيف لهم - قتلاها وجرحاها وانكساراتها. فعمدوا إلى مباشرة أسباب الدفاع وإعداد السلاح لصد الهجوم.
الحرب بين النهضة القومية ونفسيتها ومناقبها من جهة، والرجعة ونفسيتها وخصوصياتها من جهة أخرى كانت أمراً متوقعاً عند سعاده، لأنه يعرف طبيعة الرجعة ونفسيتها، ويعلم أنّ أصحاب المكانة المبنية على أساس المناقب التقليدية الفاسدة لن يلقوا سلاحهم ويسلّموا الأمر إلى القيادة القومية. وهو يعلم ويقول إنه لا فائدة من التوفيق بين النفسية الجديدة والنفسية العتيقة، وإنّ الحرب شرط للنصر. وقد أعلن في خطابه إلى الجالية السورية في البرازيل المنشور في العدد 16 من سورية الجديدة أنه لا يريد «انتصاراً بارداً هيناً بدون حرب»!
ولـمّا كانت الحرب بين النهضة القومية وأعدائها، أصحاب الخصوصيات والرجعة، واقعة، فلا بد أن تشمل الأدب أيضاً، لأنها حرب كلّية بين نفسيتين وما فيهما من قوى وعناصر. وقد أيقن بذلك أصحاب خصوصيات الخلود كما أيقن به أصحاب خصوصيات الشهرة والعظمة والمآرب النفعية. وشعروا بالخطر العظيم على خصوصياتهم منذ ظهور أول عدد من سورية الجديدة حاملاً الافتتاحية المذكورة آنفاً التي يعلن سعاده فيها الموقف الصريح الحاسم الذي ستقفه النهضة القومية من أصحاب الخصوصيات ومن الروحية العتيقة.
كان رشيد الخوري في عداد أصحاب الخصوصيات الأُوَل الذين شعروا بهذا الخطر على «خلودهم» وقد بلغ الزعيم، حين كان في سان باولو، شيء مما يقوله الخوري في بعض المجتمعات ولبعض إخوانه ضد الحركة القومية والزعيم. ثم جاء خبر ما كتبه الخوري إلى أحد أصدقائه في الوطن بشأن توقيف الزعيم هنا، فاكتفى بتكذيبه لـ سورية الجديدة فقط مع أنّ الواجب كان يقضي عليه بتكذيبه لصحف الوطن أيضاً. وسواء أكان صحيحاً ما كذبه الخوري أم لم يكن، ففي الاكتفاء بتكذيبه لـِ سورية الجديدة فقط دبلوماسية يعدّها أصحاب النفسية العتيقة «دهاء» وتعدّها النفسية الجديدة رياءً وغشاً. والنتيجة التي تتوخاها هذه الدبلوماسية هي:
1 - إكتساب رضى الفئات القوية التي تقاوم هجوم الحركة القومية.
2 - إكتساب رضى القوميين بنشر كلمة تُسْكِنُ غضبهم في صحيفة قومية.
3 - حفظ خط الرجعة في كلتا الحالتين.
هذه هي خطط تفكير دبلوماسية النفسية العتيقة وهذا هو مبلغ دهائها.
إستمر رشيد الخوري يغتاب الحركة القومية والزعيم على الصورة الموصوفة آنفاً، طول المدة السابقة «لمحاضرته» التي خرج بها إلى الجهر. وإليك، أيها القارىء، نسخة من بعض أقوال الخوري:
«ما معنى هجر سوري بلاده، تاركاً وراءه امرأته وأولاده؟ أليس هذا شأن أنطون سعاده، وقد ترك رفقاءه يتحملون ويلات الحالة الحاضرة في الوطن وجاء يتنقل سليماً(!) في المهاجر الأميركية؟» (وقد أخذ هذه الفكرة عن رشيد الخوري الخائن خالد أديب، من غير أن يعترف بحقوق النقل أو يراعيها).
«إذا كان سعاده لا يؤمن بأعمال الأحزاب السورية الأخرى ورجالها (يعني أصحابه «الدهاقنة» من «الكتلة الوطنية» التي سقطت سقوطاً معيباً في عين الشعب أو غيرهم من النفسية عينها) فنحن أيضاً لا نؤمن بأعماله.»
«لماذا هذه الضجة القوية في صحافة الأرجنتين وفي سورية الجديدة من أجل تقديم كتاب جبران مسوح إلى الزعيم في حين أنّ أحد الشعراء في الأرجنتين (يعني صديقه وزميله زكي قنصل) قدم ديوانه إليَّ ولم تشر إلى ذلك صحيفة واحدة؟»
«من أين للقوميين هذا المال الكثير؟» (ولم يبيّن الخوري مقدار هذا المال الكثير. ولم يكلف نفسه سؤال دائرة التحقيق في سان باولو عن مصدر «المال الكثير»).
«إنّ رشيد شكور ترك الجريدة أولاً ثم ترك المنظمة» (هنا صار رشيد شكور «وطنياً» عظيماً عند رشيد الخوري، بعد أن كان يطعن فيه عند الزعيم ويقول عنه إنه سخيف وإنه كان يحاول بلع أموال «كتلة الدفاع الوطني» المرحومة، وإنه كاد ينجح في ذلك لولا تدارك الخوري المال وإرساله إياه إلى نبيه العظمة في دمشق).
«إنّ ماضي أنطون سعاده معروف. وماذا تنتظر من رجل كان يضرب أباه؟..»
هذا قليل من كثير كان يدسّه رشيد الخوري في أحاديثه الخصوصية عن الزعيم.
أما سبب هذا الدسّ فكان ما رآه من عدم وجود محل «لشعره» في النهضة القومية وإظهار الزعيم عدم رضاه عنه. وقد يكون بلغ الخوري أنّ الزعيم أمر، في اجتماع قومي في برمانا، بمنع قراءة الأعاصير. أو قد يكون هنالك سبب آخر سينجلي.
وأما سبب خروجه إلى الجهر ضد الحركة القومية فالأرجح أنه خبر من صديقه زكي قنصل يقول له فيه إنّ الزعيم استشهد ببعض قصائده على الأدب الذي يراه ضاراً بالروحية القومية.
هاني بعل
للبحث استئناف