الشمس، بيروت،العدد 302، 23-24/11/1947
تـجتاح البلاد السورية كلها، من جبال طورس والبختياري إلى السويس والبحر الأحمر ومن خليج العجم إلى البحر السوري، موجة طامية من التحكم وعدم الـمشروعية الـحقوقية وعدم الاكتراث بالإرادة القومية العامة - موجة من التحكم الشخصي أو الفئوي بالـمقدّرات القومية وبإرادة الأمة العامة تـجري نحو الطغيان الفردي أو الفئوي الـمقنّع، الطغيان الفردي أو الفئوي الذي لا يـمثّل غير مصلحة الفرد أو الفئة ولا عقيدة غير عقيدة التحكم والاستثمار.
ويـمكننا أن ندرس طبيعة هذه الـموجة ومبلغ تهديدها الـمصير القومي العام وتصديها للوعي القومي وصدمها للنهضة القومية الاجتماعية في أساليب الإدارة الـحكومية والتشبث بالـمصالح والـمراكز الـحكومية، في لبنان والشام. فالانتخابات النيابية التي جرت هذه السنة في جمهوريتي لبنان والشام، حيث الـحياة والـحقوق السياسية مكبوتة والإرادة معطّلة هي من الـمواضيع الهامّة التي يجب على الدارس الاجتماعي السياسي العناية بتقصي عواملها وأهدافها ليدرك منها حالة هاتين الـمنطقتين السياسية والـحقوقية.
جـرت الـمعـركتـان الانتخابيتـان في لبنـان والشـام على أسـاس الـمصالح الـخصوصية، مصالح الطامعين في الـحكم وفي منافع الـحكم وكون مركز الثقل في الـمعركتين رئاسة الـجمهورية. فكانت الـمعركتان معركتي تكتل حول مركز رئاسة الـجمهورية ومن يرشّح لها.
واليوم نشهد استمرار الـمعركة في الشام التي يقترب موعد انتهاء مدة الرئاسة فيها وانتخاب رئيس للمدة التالية. الـمدة تنتهي في ربيع السنة الـمقبلة. فيجب على متولّي الرئاسة الـحاضرة والفئة الـمتحالفة مصالـحها مع مصالـحه أن يفعلوا شيئاً لتغيير النظام الذي وصلوا به إلى القبض على الزمام، إذا كانوا يريدون الاحتفاظ به.
الدستور الذي جرت بـموجبه الانتخابات السابقة، الانتخابات الأخيرة، ينص على أنه لا يجوز تـجديد انتخاب شخص للرئاسة إلا بعد مضي مدة رئاسة لغيره، أي أنه لا يـمكن تـجديد الـمدة لـمن يتولى الرئاسة. وهذا التدبير الدستوري هو لـمنع استخدام نفوذ الرئاسة ومركزها لـمصلحة الشخص الذي يتولاها، الذي إذا لم يـمنع عرّض الإرادة العامة لتعطيل حريتها وتسخير جهاز الدولة ومصالـحها لـخدمة فرد متنفذ وفئة تلتف حوله بعامل تـحالف الـمصالح الـخصوصية. فإذا كان متولّي الرئاسة الـحاضرة والفئة الـموالية له يريدون الاحتفاظ بالـمصالح والـمنافع التي أمّنها لهم تكتلهم وتألّبهم عليها وجب أن يسعوا لتعديل الدستور بـما يوافق الإبقاء على الـمركز الأول في الـجمورية لهم.
الظاهر أنّ الفئة الـمتكتلة حول رئيس جمهورية الشام الـحاضر تدرك جيداً وجوب القيام بـمحاولة تعديل الدستور لتأمين استمرار السيد شكري القوتلي في الرئاسة. ويظهر أيضاً أنّ هذه الفئة ترمي إلى أوسع من ذلك بكثير، إلى: 1 - تأمين إعادة انتخاب السيد قوتلي. 2 - توسيع سلطته وصلاحياته. 3 - الانفلات من ضغط الـمجلس وخطر تكتلاته السياسية. فقد ابتدأ النشاط بين النواب الراغبين في الـمحافظة على الـحالة الراهنة وتقويتها لاكتساب أكبر عدد مـمكن من نواب الـمجلس الـحالي وموافقتهم على تعديل الدستور بحيث يشمل التعديل النقاط الرئيسية التالية: 1 - إعادة انتخاب رئيس الـجمهورية على التوالي بلا مدة فاصلة. 2 - جعل انتخابه رأساً من الشعب. 3 - عدم تـحديد عدد الوزراء لتشكيل الوزارة. فإذا تـم لهم ذلك استفحلت سلطتهم واشتدت قبضتهم على الـمنطقة ومصالـحها وأمّنوا لأنفسهم الاستمرار.
تعديل الدستور في النقطة الأولى يزيد حالاً في نفوذ السيد شكري قوتلي ونفوذ الفئة الـمتكتلة حوله ويرجّح كفّتهم على مزاحميهم. وتعديله في النقطة الثانية، يكسب السيد قوتلي سلطة واسعة عليا تصبح فوق سلطة الـمجلس، لأنه يكون في حالة موكل ومفوض من الشعب رأساً من غير واسطة الـمجلس، فتكون سلطته التنفيذية قوية متمكنة ويصير له الـحق في التدخل مباشرة في الـحكم والإدارة وتنفيذ التشريع. وتعديله في النقطة الثالثة يؤمن لوزارته التفلّت من ضغط الـمجلس وتكتلاته، فيستطيع رئيس الوزارة إرضاء بعض الناقمين بإدخالهم في وزارته وإن لم تكن هنالك مصالح وزارية تـحتاج إلى وزراء جدد فتقوى كتلة الرئاسة ويتاح لها الاستظهار، بهذه الأساليب، على الكتل الأخرى.
هذه هي الـمواضيع والأغراض الهامّة التي تشغل عقول الفئة القابضة على زمام الأمور في الشام. وهي كلها مواضيع وأغراض شخصية خصوصية، خالية من أي غرض أو موضوع عام. فإذا نـجحت محاولة تعديل الدستور أصبح السيد شكري قوتلي ملك جمهورية الشام غير الـمتوّج، وصار قادراً على منافسة ملك شرق الأردن وملك العراق في ألقاب التفخيم والتعظيم، وصارت كتلته صاحبة حول وطول وجاه طويل عريض.
الذي نراه أنّ محاولة تعديل الدستور للأغراض الـمذكورة وبالأساليب الـموصوفة هي محاولة غير حقوقية من أساسها. هي لعبة سياسية للقفز فوق الأساس الـحقوقي الدستوري. فالـمجلس الذي انتخب نوابه وفاقاً لدستور معمول به وللعمل بهذا الدستور ليسوا مخوّلين حق تعديل الدستور وتغيير مواد أساسية فيه تغيّر وضعها السلطة.
إنّ دساتير البلاد السورية كلها ليست ذات أساس حقوقي دستوري صحيح فكيف بالـمجالس الـمتألفة لتطبيقها؟
وإنّ الدولة التي تقوم على السلطة الـحكومية فيها مصالح خصوصية تـمنع الأحزاب وتـحدّ من الـحريات السياسية بلا مبرر عام لا يـمكن أن يؤمن الـحكم فيها تنفيذ إرادة الشعب. إنّ إرادة الشعب فيها تضحّى على مذبح إرادة الـخصوصيات والـمصالح الـخصوصية.
إنّ محاولة تعديل الدستور فـي الشـام محاولـة معوجـة وأغراضهـا لا تـمـتّ إلى إرادة الشعب والـمصلحة العامة بقربى.