رفيقي العزيز وديع،
وردني كتاباك الـمؤرخان 28 و29 نوفمبر/تشرين الثاني الـماضي، ووقفت منهما على تفاصيل موقف السيدين فؤاد وتوفيق بندقي، وأنهما بعد أن كانا أقرّا تـحويل الـجريدة بكلّيتها، على أن يدفع لهما ما يقبض من الاشتراكات الـمتأخرة حتى آخر هذه السنة، عادا فغيَّرا موقفهما بعد وصول كتاب الرفيق جبران [مسوح] إليهما.
إنّ الإنسان البصير ليحار في نفسية عدد كبير من السورييـن الذين يريدون شيئاً ولا يعرفون ما يريدون ولـماذا يريدون. هم يريدون نظاماً، فإذا جاءهم النظام أرادوا أن يسري على غيرهم لا عليهم، والتجأوا إلى الفوضى.
وبعد فلماذا يجب أن يتكدر هذان السيدان من جواب الرفيق مسوح إليهما، وكيف يطلبان من الغير أن يراعي شعورهما بينما هما لا يراعيان شعور أحد، حتى ولا شعور الزعيم ومركزه؟ قد يكون بلغك أني أرسلت إلى إدارة الـجريدة مقالاً متسلسلاً للنشر، فأجاز السيدان فؤاد وتوفيق لنفسيهما القبض على الـمقال ومنع نشره، فمن هو الزعيم إذن أنا أم هما؟ قد يقولان إنهما يريان أنّ نشر الـمقالات يحدث كذا وكذا، ولكن الواجب يقضي عليهما أن يبديا رأيهما رأساً إليّ وألا يـمنعا النشر، فإذا استصوبت رأيهما أرسل أنا وأمنعه، وإذا لم أستصوبه وجب عدم عرقلة تعليمات الزعيم. وإذا كانا لا يريدان حسبان نفسيهما عضوين خاضعين لسلطة زعيم، يجب على الأقل احترام الاتفاق بيني وبينهما على أن تكون جميع الشؤون الكتابية وسياسة الـجريدة خاضعة كل [الـخضوع] لـمطلق إرادتي والدوائر التي أكلفها التنفيذ.
لكنهما تدخّلا في سياسة الـجريدة، وشيئاً فشيئاً صار الرفيق فؤاد يعدّ نفسه صاحب الأمر والنهي فيها، وخالف جميع التعليمات التي أرسلتها إلى «مجلس إدارة سورية الـجديدة»، وبدت الـجريدة منحازة بسياستها إلى جانب دولتي الـمحور تـحبّذ جميع انتصاراتهما بدون تـحفظ، ونشر لسياستهما وجيوشهما الـمقالات الإذاعية والشروح الصورية، ولم يراعِ موقف الـحزب وسياسته الـمستقلة، ولم يكلف نفسه مراجعتي في ما عزم عليه، فألـحق بالـحزب أضراراً جمة معنوية ومادية، وأضرّ بالقضية القومية التي أوجدها الـحزب وقام عليها. وقد شكا إليّ الرفيق جبران مسوح من اللهجة القاسية التي استعملها السيدان فؤاد وتوفيق بندقي معه، وهو كان كتب إليهما عندما عرف بأنهما حالا دون نشر ما أمرت بنشره ولم أطّلع على كتابه ذاك، فكتبا إليه بلهجة الآمر إلى الـمأمور، أو بلهجة من يحسب مركزه أعلى من مركز من يكتب هو إليه، وقالا له في ختام الكتاب إنهما لم يكونا ينتظران مثل موقفه، وإنهما يسامحانه لأنه أخطأ تـجاه مقامهما. وقد أرسل كتابهما الـمذكور إليّ الرفيق مسوح، وفيه خبط في مبادىء الـحركة القومية وخلط بيـن نظرياتهما السطحية وغاية الـحزب، وكلام لا يجوز قبوله بدون حساب مقام الزعيم وسلطته صفراً على الشمال. وجبران مسوح تأثر كثيراً من موقفهما وكلامهما، وبرأيي أرسل إليهما الكتاب الذي تشير إليه، وهو ليس سوى جواب على كتابهما. فهل يظن السيدان فؤاد وتوفيق بندقي أنهما وحدهما لهما شعور، وأنّ الزعيم وجبران مسوح وغيرهما لا شعور لهم. وكيف يجيزان لنفسيهما مس كرامة جميع القومييـن بالتجاسر على مركز الزعيم وسلطته، ثم يطلبان من الزعيم ومن القومييـن ألا يوجهوا إليهم كلاماً صريحاً يضعون فيه كل شيء في محله؟ ولـماذا يتكدر هذان السيدان من وضع كل شيء في محله؟ ولـماذا لا يحسبان حساب كدر مراجع الـحركة وكدر القومييـن الغيورين من جعل أشياء كثيرة في غير موضعها؟ أليس تكدرهما هذا تـجاسراً جديداً على مقام الزعامة القومية.
الرفيق جورج بندقي يعلم جيداً، مـما كتبت إليه منذ نحو سنة، أني أوقفت مشروع إنشاء جريدة في الأرجنتيـن من أجل سورية الـجديدة، ولكي أبقي لها امتياز كونها الـجريدة شبه الرسمية إذا حصلت على التأمينات الكافية التي طلبتها، والتي كان الرفيق توما توما ساعياً للحصول عليها. وفي ذلك الوقت خاطبت أصحاب الـمشروع، وفي رأسهم الأديب القومي الكبير جبران مسوح، قائلاً: «إني لا أتخلى عن جعل الأولية للرفيقيـن فؤاد وتوفيق بندقي اللذين أقدما على تأميـن صدور أول جريدة قومية في الـمهجر، ولا أسمح بإنشاء جريدة أخرى حتى تكون سورية الـجديدة قد وصلت إلى ما أريدها أن تصل إليه.» وكنت عازماً على جعل إسمي هذين الرفيقيـن منارة في صفوف القومييـن. ولم أكن أتصور قط أنه بعد أن تصير سورية الـجديدة في هذا المقام بفضل كتاباتي، وكتابات القومييـن العامليـن بتأثيري، وبفضل نفوذ الـحركة السورية القومية أنّ الرفيق فؤاد بندقي يستعمل كل ذلك ليسيِّر سياسته هو الـخصوصية، ويوقع الـحزب في ورطة أمام الرأي العام، ويعرقل حركاتي وخططي السياسية ويعطل إمكانيات سياسية كثيرة كانت تعود بالفائدة على الـحركة القومية.
وكان قد جاءني تأكيد خطي من السيد فؤاد بندقي مكتوب بخط الرفيق توما، وموقّع باسم مستعار لفؤاد وبخط يده، يؤكد فيه أنّ الـجريدة تكون خاضعة بكليّتها لأوامر الـمراجع الـحزبية العليا. فطلبت كتاباً بخط فؤاد نفسه وبتوقيع إسمه الواضح الـحقيقي فأخذ ينتحل الأعذار. وأنا لست في مقام الزعامة لأني قليل الـحنكة أو لأني أحسن أن أكون مطية. ولكني فضلت الانتظار ومعاملة الرفيقيـن بندقي بـمنتهى التساهل لعلهما يدركان حقيقة الـموقف ويعملان بـمقتضيات الواجب القومي، فكانت النتيجة أني بعد أن عطّلت مشروع الـجريدة في الأرجنتيـن وفاتت الفرصة السانحة آنئذٍ وبعد التأكيد أنّ الـجريدة سورية الـجديدة تكون حسب الاتفاق الإنشائي خاضعة للتوجيهات والتعليمات الصادرة من الـمراجع الـحزبية ذات الصلاحية، وجدت سياسة الـجريدة تسير ضد تعليماتي الصريحة الـمكررة التي أرسلتها إلى مجلس إدارة الـجريدة والتي أرسلتها إلى مدير شؤون الـجريدة. وأنت وغيرك تقولون إنّ السيدين بندقي ضحّيا ويضحيان، وأنا أقول إنه لو سئل أحد الـخبراء كم يجب أن تتقاضى جريدة ذات مركز مـمتاز لتقوم بالدعاوة التي قامت بها سورية الـجديدة وفي هذه الظروف لكان جوابه: لا أقلّ من مئتي كنط.
ومع كل ذلك لم أوجه إلى الرفيقيـن بندقي أية كلمة، وكل ما فعلته أني أرسلت أطلب الـمقال الـمتسلسل الذي يظهر الآن في الزوبعة، وكتبت إلى الرفيق جورج أقول له إني أجد عمل إبني عمه خرقاً لشروط الاتفاق الأوّلي وخروجاً على النظام، ولذلك ليس في إمكاني الاستمرار في حمل مسؤولية أعمالهما، وإنهما يجب أن يحملا مسؤولية ما ينشر في الـجريدة، وإني بعد ذلك الوقت أعدّ سورية الـجديدة جريدة قومية شخصية، أي أنها تعبّر عن آراء شخصية لا قيمة لها من حيث التعبير عن الـحركة القومية وسياستها، وإني مستعد لتقديـم كل مساعدة أتـمكن منها لها بهذه الصفة. وكنت قد أوعزت بإصدار الزوبعة هنا لأسباب محلية مستعجلة، فصدرت بشكل غير حسن وصفحات قليلة وصغيرة. فلما رأيت موقف الرفيقيـن بندقي استدعيت الرفيق جبران مسوح وأمرته بأخذ امتياز رسمي بـ الزوبعة وتـحسيـن طبعها وزيادة صفحاتها. ففعل. وبعد مدة وجيزة جاءني كتاب من الرفيق جورج بندقي يقول إنه الآن، أي بعد مدة غير قليلة، أطلع إبني عمه على الصفة التي أعطيها لـِ سورية الـجديدة وإنهما قالا إنهما لا يريدان إلا أن تكون سورية الـجديدة للغرض الذي أنشئت من أجله، وإنهما لذلك يتنازلان عن شراكتهما قابليـن بتحمل نفقاتها حتى آخر هذه السنة، على أن تتولاها الإدارة الـحزبية برمّتها. فقبلت ما عرضاه وأرسلت تعييـن اللجنة وكان ما كان.
وكان وردني قبل كتاب الرفيق جورج كتاب من الرفيق [إلياس] بخعازي يشير به أن أكتـب بنفسـي إلى الرفيقيـن بندقـي وأبيـّن لهمـا ضـرورة نشر الـمقـال الـمتسلسـل، إذ إنـه يرجّح أنهما يقبلان بهذه الوسيلة بنشره. وقد رأيت هذا الرأي أخرقاً، فالواجب إذا كنا نريد الـمحافظة على النظام القومي الذي لا نهضة بدونه، يقضي بأن يكتب السيدان بندقي إليّ وينتظران أمري، لا أن أكتب أنا إليهما وأنتظر قرارهما. وإني لو فعلت لـما كنت جديراً بـمركز الزعامة، إذ أكون قد فرّطت بحقوقها ولغمت أساس النظام الذي تقوم عليه دولتنـا الناشئـة.
ولعلك لا تعلم أني، عندما بلغني خبر وفاة والدة السيدين بندقي منذ نحو سنة ونيف، كتبت إليهما معزياً فلم يردني منهما جواب، وحتى الآن لم يكتبا إليّ كتاباً واحداً لا حزبياً ولا شخصياً. وبعد ذلك يريد الرفيق بخعازي أن أكتب إليهما، أي أن أصير أنا الزعيم في مقامهما ويصيران هما في مقامي!
إني أفضّل أن تزول الـجريدة وأن يزول الـحزب كله على أن يقوم أحدهما أو كلاهما على أساس الفوضى أو الامتيازات الشخصية غير الـمستحقة. فأنا قد جئت لأنشىء شيئاً جديداً لا لأسير حسب النظام أو الوضع القديـم. والآن، إذا شاء السيدان بندقي أن يعودا إلى الـحق، فأنا أعرف كيف أقدّر جهودهما. وإذا شاءا العمل حسب الاتفاق الأولي في اللجنة، أي بترك كل حق ومسؤولية لهما في الـجريدة ابتداء من السنة الـمقبلة، على أن يُعاد إليهما كل اشتراك يقبض لـمدة قبل هذا التاريخ فإني أوافق. وإذا شاءا غير ذلك فالـحزب بريء مـما يعملان، كما أنه بريء مـما فعلا حتى الآن. أنا لست طامعاً في شيء شخصي، وإني أقوم بتأدية رسالتي كما يليق بي وبها، ولن أرضى خطة غير ذلك. وكل من يعدّ نفسه سورياً قومياً صحيحاً له حق إبداء الرأي من غير أن يوقف أو يـمتنع عن تنفيذ أمر صدر. وإبداء الرأي يجب أن يكون لدى الـمراجع الـمختصة، فإذا صدر الأمر فيجب عليه التنفيذ بدون تردد أو إضاعة وقت. فمن لا يقدر على ذلك فالأوفق له ألا يضع نفسه تـحت هذا الـحمل.
يـمكن أن تطلع لـجنة الـمخابرة كلها على هذا الكتاب. وبعد ذلك ليسلّم إلى الرفيق فاخوري لـمدة ثلاثة أيام فقط لغرض خاص ثم يعيده إليك فتكتب عليه بخطك هذه العبارة: «أشهد أني تسلمت هذا الكتاب في حينه وقرأته وأطلعت اللجنة عليه وأعدته إلى مكتب الزعيم حسب التعليمات الواردة فيه» وتضع إمضاءك. ولك أن تبقيه عندك على أن تنسخه بخط يدك وتشهد أنها نسخة الكتاب الوارد إليك مني تنسخه وترسل النسخة لتبقى في مكتب الزعيم حسب الأمر، أو أن تبقي النسخة عندك وترسل هذا الكتاب. سلامي لك وللعائلة. وأثني على جهودك. ولتحيى سورية.
بعد: كتبت لك كل ما تقدم لكي تطّلع على ما في داخل الـموقف مـما له علاقة بالـمسلك الذي يسلكه السيدان فؤاد وتوفيق بندقي. ومتى قابلت هذين السيدين إستعمل بصيرتك النيِّرة ولا تخبرهما بهذا الكتاب، ويـمكنك أن تقول لهما إنك علمت أنّ الزعيم أرسل يعزيهما وأنهما لم يجيبا على كتابه. وتسألهما أما كان من الأفضل أن يخابرا الزعيم رأساً بدلاً من الالتجاء إلى إقامة سفراء بينهما وبينه، وإنك ترى أنّ ذلك كان يكون ألْيق وأقرب إلى الصحيح. وتخبرهما عما تعلمه عن التقدير الذي قدرته لهما، وإنهما قصّرا تـجاه الزعيم، وغير ذلك ولا تتجاوز هذه الناحية.
وقد رأيت الأفضل أن تعيد إليّ هذا الكتاب عينه، وعليه شهادتك بتسلمه وإعادته مع وضع تاريخ الإعادة والإمضاء. ويـمكنك أن تحتفظ بنسخة عنه.
بعد أيضاً: ولكي تعلم خطورة الضرر الذي لـحق بالـحزب من السياسة التي سلكها فؤاد بندقي، أخبرك أنّ أخباراً وردتني من مركز الـحزب في بيروت منذ مدة تفيد أنّ التحقيق العسكري تناول مسألة سورية الـجديدة وموقفها من ألـمانية وإيطالية، ويظهر أنّ موقفها أوغر صدور الفرنسييـن على الـموقوفيـن القومييـن. والأحكام القاسية التي أصدرتها الـمحكمة الفرنسية يعود قسم هام من أسبابه إلى شذوذ سورية الـجديدة عن الـخطة التي رسمتها لها، والتعليمات التي أصدرتها إلى مجلسها وإدارتها.
1941/1/7
[كتب وديع عبد الـمسيح في نهاية الرسالة: «أشهد أني تسلمت هذا الكتاب في حينه وقرأته وأطلعت اللجنة عليه وأعدته إلى مكتب الزعيم حسب التعليمات الواردة فيه.»
وديع عبدالمسيح]