قال مندوب الـحياة الـخاص:
منذ عدة أسابيع، والصحف تلهج بذكر الأستاذ أنطون سعاده، مؤسس الـحزب القومي السوري - أو الاجتماعي كما يسمى الآن - في مناسبات مختلفة يـمكنني حصرها في ثلاث نقاط:
أولاً - إستبقاء مذكرة التوقيف الصادرة في حقه.
ثانياً - رحلته الـمزعومة إلى عمّان.
ثالثاً - عزمه على إعلان الثورة.
أما مذكرة التوقيف فقد صدرت بحقه منذ ثلاثة أشهر، على أثر ذلك الـخطاب الذي تناول فيه الكيان اللبناني بعبارات مبهمة. ولم تـحاول الـحكومة تنفيذ تلك الـمذكرة في أثناء الانتخابات، بل كان رجال الـحكم يجتمعون إلى الأستاذ سعاده علناً، في مقره العلني في ضهور الشوير يومئذ، ولكن ما كادت تنتهي الانتخابات حتى تبدّل موقف الـحكومة فجأة، فإذا بها تسيّر قوى الدرك لتنفيذ الـمذكرة وتبث رجال التحري هنا وهناك لتنسم أخبار الأستاذ سعاده، وإرشاد الدرك إليه. وكانت آخر محاولة في هذا السبيل «كبس» ضهور الشوير في الصباح الباكر من يوم 27 حزيران/يونيو، بأكثر من مئة دركي.
ولم تقع منذ ذلك اليوم محاولة جديدة لاعتقاله، بل قيل إنه جرت مساعٍ لإلغاء مذكرة التوقيف هذه. وقيل أيضاً إنّ هذه الـمساعي كانت سائرة في طريق النجاح عندما طلعت الزميلة الهدف في 2 الـجاري بنبأ مفاجىء، ذكرت فيه أنّ الأستاذ سعاده وأعوانه كانوا عازمين على إعلان الثورة لـما داهمهم الدرك في ضهور الشوير، وأكدت أنّ القوميين يتأهبون فعلاً لقلب الـحكم بالقوة. ثم نقلت الزميلة البيرق هذا النبأ، فاهتمت له الـحكومة، واستدعى الأمن العام الـمدير الـمسؤول عن كل من الزميلتين للتحقيق معه عن مصدر ذلك الـخبر، فلم يسفر التحقيق عن نتيجة، وتبيّن أنّ الـخيال الصحفي مثّل دوره في هذه الـحكاية.
رحلة عمّان
أما رحلة الأستاذ سعاده إلى عمّان فقد لهجت بها الألسن بضعة أيام منذ ثلاثة أسابيع، ثم تناولتها الزميلة الأسبوعية كل شيء بـمقال طويل، أكدت فيه أنه زار عمّان مرتين، وأنه اجتمع فعلاً إلى الأمير عبدالله، وروت خلاصة الأحاديث التي دارت فيما بينهما.
ثم تطورت الشائعات على الأثر. فقيل إنّ الأستاذ سعاده أعرب عن استعداده للتعاون مع الـملك عبدالله في سبيل سورية الكبرى، ولكنه طلب مساعدته على قلب الـحكم في سورية ولبنان بالقوة، فأجاب الـملك أنه مستعد لـمدّه بالـمال ووسائل الدعاية. بيْد أنّ الأستاذ سعاده طلب سلاحاً وذخائر، فأحاله الـملك عندئذٍ على رئيس أركان حرب الـجيش العربي الـجنرال كلوب باشا الإنكليزي، الـمعروف عند البدو بأبي حنيك.
وتقول الروايات هنا إنّ سعاده لم يتفق مع كلوب باشا، فغادر عمّان على خلاف مع الـملك عبدالله ومع الإنكليز. ثم عاد إلى عمّان مرة أخرى وحلّ ضيفاً على الـجنرال كلوب ولكن الزيارة الثانية انتهت أيضاً إلى خلاف شديد وكان الـخلاف هذه الـمرة سبباً في بداية النزاع بين القوميين والإنكليز، إذ اعتبر هؤلاء أنّ سعاده لن يكون عاملاً إيجابياً في تـحقيق سورية الكبرى على الشكل الـمرغوب، فأوعزوا إلى من أوعزوا بـمحاربته، وكانت النتيجة أَنْ عادت الـحكومة اللبنانية تـحاول تنفيذ مذكّرة التوقيف بعد أن نامت عليها شهوراً.
تـمسؤُل سعاده
هذه هي خلاصة مجملة للشائعات الـمتضاربة التي انتشرت في الصحف وفي الأوساط السياسية عن قضية الأستاذ سعاده، ولا تزال إلى الآن موضع التأويل والتعليق. وقد سمعنا فيها رأي الـجميع، إلا رأي الأستاذ سعاده نفسه!
بيد أنّ الأستاذ سعاده ليس موجوداً في الصين. إنه في لبنان، فلا يجوز للصحافة أن تسكت عن استطلاع رأيه في هذه الشائعات كلها. هذا هو الشعور الذي ساورني عندما عهد إليَّ قلم التحرير بهذه الـمهمة.
ولكن أين أجد أنطون سعاده؟
أأسأل الأمن العام عن مقره؟ أأسأل رجال الدرك الذين يطاردونه؟
واتصلت فعلاً بأحدهم، وألقيت عليه السؤال، فأجابني:
- نحن نعلـم أنه موجود في الـمنطقة الفلانية، ولكنه كثير التنقل، يختفي في النهار ويظهر في الليل...
- ألا تستطيع أن تفيدني بأكثر من ذلك؟
فضحك محدّثي وأجاب:
- لو كنا نعرف أكثر من ذلك لاعتقلناه...!
- إذن أين أجده؟
رحت أسأل أنصاره عنه، فقال لي الأول: - إنه في منطقة عاليه!
وقال الثاني: كلا، إنه في الـمتن!
وقال ثالث: مش صحيح، إنه في الشوف!
وكان الرابع نابغاً، في التعبير، فأجابني:
- إنه في «مكان ما» من «سورية الكبرى»!
وأدركت أنّ هذه الوسيلة أيضاً لن تـجدي نفعاً، فعمدت إلى وسيلة أخرى وليعذرني القُراء إذا لم أبح بسرّ هذه الوسيلة، محافظة على وعد قطعته. والـمهم أنني توصلت إلى ما أشاء، وإذا بي أجد نفسي وجهاً لوجه مع أنطون سعاده، وإذا بي أسأله:
- هل كنت حقاً في عمّان؟
الساعة الواحدة بعد منتصف الليل.
هاأنذا وجهاً لوجه أمام الرجل الذي يريدون توقيفه.
الـجو هادىء ساكن، والطبيعة فاتنة. أشعة القمر تغمر كل شيء، وتضفي على الأرض مسحة فضية، فتزيد في بهاء هذه الليلة البديعة.
نحن في وسط غابـة يفوح منها أريج الصنوبـر الزكـي، فيبعث في النفس لذة ومتعة. كل ما حولنا يهـز العواطف، ويحمل الإنسان من هذا العالم الـمضطرب الصاخب إلى عالم مطمئن وديع!
ولكن أين الهدوء في قلب هذه الغابة؟
إنني لأسمع ورائي همساً، وألـمح أشباحاً تروح وتغدو، فيجرح وطءُ الأقدام على الهشيم هدوء الليل. إنهم الـحراس الذين يسهرون على سلامة زعيمهم، ليدفعوا عنه شر الـمفاجآت.
في هذا الـجو الـخيالي الروائي، رحنا نتحدث عن السياسة. والسياسة كريهة إذا كانت في محلها، فكيف بها إذا لم تكن في غير محلها؟
قلت: وما رأيك في مذكرة التوقيف الصادرة بحقك؟
فأجاب: الـموضوع ذو شطرين. هناك الـمذكرة نفسها، وهناك السعي الـجديد لتنفيذ الـمذكرة. ولا أدري إذا كانت الـحكومة كلها تريد فعلاً اعتقالي أم أنّ «بعض الـحكومة» يريد ذلك لأسباب لا تـمتُّ إلى الـحكم والـحكومة بصلة وثيقة.
- وما هي غايتهم من ذلك؟
- قد تكون لهم غايات شخصيةٌ لا علاقة لها بالـمبادىء. وقد تكون الغاية الـحدّ من نشاط الـحزب ومحاربته بالتضييق على زعيمه، إذ أضافوا إليها قضية جديدة تسمى جرم وجود أشخاص مسلحين حولي، والـمقصود على ما يظهر من هذه الإشاعة زيادة الأمور تعقيداً، وتـحويل الـمسألة إلى مواقف عنيفة وغايات غامضة ليست في مصلحة الشعب.
- ولكن ما هي الغاية من هؤلاء الأشخاص الـمسلحين؟ أتريدون حقاً إعلان الثورة وقلب الـحكم بالقوة، كما زعمت بعض الزميلات في الأيام الأخيرة؟
- إنني أترك الـجواب على هذا السؤال لأرباب الـحكم، فقد أذاعوا هم أنفسهم بلاغاً يكذّبـون فيه تلك الروايـات، أو بالأحرى التكهنـات الصحفية. ولعل هذه التكهنات تعبّر عن أشواق شعبية لـحوادث من هذا النوع مستوحاة من موقف الـحزب الـحازم مـما يجري الآن. وقد تكون الغاية من ذلك الدّس على الـحزب ووضع سلاح في يد خصومه، يتخذونه ذريعة لتبرير الـحملات العسكرية التي يشنونها على مقرّي.
وتذكرت في تلك اللحظة أنّ أحد الـحراس حدثني قبيل وصول الأستاذ سعاده، عن حملة الدرك على ضهور الشوير في 27 حزيران/يونيو الـماضي، فقال إنّ أحد عيون الأمن العام لاحظ نوراً في بيت كان يأوي إليه الأستاذ سعاده، فتوهم أنه نازل فيه تلك الليلة، وأرسل النبأ بعيد منتصف الليل، وإذا بحملة الدرك تصل إلى ضهور الشوير مع الفجر، فلا تـجد في ذلك البيت أحداً.
قلت له: وهل كان الأستاذ سعاده في الضهور تلك الليلة؟
فأجابني الرجل: ربـما... وعلى كل فإنه لم يكن في الضهور عندما أطل الدرك عليها. إنه ليس وحده، فهناك من يسهر على سلامته كما يسهر الغير على مطاردته!
تذكرت هذا الـحديث عندما أتى الأستاذ سعاده على ذكر الـحملات العسكرية فقلت له:
- إنهم يقولون إنّ الـحكومة تتشدد في مطاردتك لأنك تعتزم فعلاً إشعال نار الثورة، فهل هذا صحيح؟ إني أطلب جواباً مباشراً على هذا السؤال: أيعتزم حزبكم إعلان الثورة الـمسلحة كما يقال؟
قلت له: أريد جواباً صريحاً مباشراً على سؤالي عن قضية الثورة!
فحدجني بنظرة حادة، وراح يتأمل، فاستطردت قائلاً:
- لا أريد إحراج موقفك في هذا السؤال، ولكن الأنباء التي نشرتها بعض الزميلات في الأسبوع الـماضي لا تزال موضع الشك رغم تكذيبها، كما أنّ تصريحات بعض أعضاء الـحزب في أحاديثهم الـخاصة في هذا الصدد، تستدعي جواباً صريحاً.
وظل محدثي يفكر، ثم قال:
- إنني أعتقد أنّ الـحزب قد بدّل كثيراً في نفسية الشعب واستعداده للثبات في معترك الـحياة القومية، وهو سائر إلى تـحقيق الأقسام الباقية من منهاجه بالـخطة التي اتبعها حتى اليوم!
- ولكن «الـخطة التي اتبعها حتى اليوم» عبارة مبهمة لا توضح شيئاً. ألا تستطيع أن تـحددها بعبارة أوضح؟ هناك من يقول إنّ حزبكم قطع أمله من السياسة الإيجابية، وإنه قرر الآن انتهاج سياسة سلبية، بصرف النظر عن الـمجاري التي قد تسيّره السياسة السلبية فيها. وهناك من يقول إنكم أعجز من أن تقوموا بحركة مسلحة، وعلى كل فإن موقفكم من هذه الروايات يثير الاهتمـام، بدليل التحقيق الذي أجرته السلطة مع الصحف التي نشرت إشاعات الثورة في الأسبوع الـماضي، فما قولكم؟
- وهنا صمـت الأستـاذ سعـاده مرة أخرى وفي تلك اللحظة سمعنا الهمسات تتزايد حولنا، وإذا بلمعان معيّن يتردد: إنه شارة الإنذار بالـخطر الـمتفق عليها.
ما الـخبر؟
وقفنا صامتين متأهبين في انتظار الشارة التالية. وكنت أرى أشباحاً سوداء تروح وتـجيء بين الأشجار، وساد سكون رهيب حقاً. وبعد دقائق تـجدد لـمعان آخر. إنه بشير بزوال الـخطر، فاستقبلته بعاطفة يتنازعها عاملان: عامل الرغبة في الطمأنينة، وعامل الرغبة في أن تتحول هذه الـمقابلة إلى مغامرة، ولكن القدر شاء الطمأنينة، فعدنا إلى وسط الساحة الصغيرة في الغابة نستأنف الـحديث.
وقبل أن نتابعه علمنا أنّ الـحرس سمعوا وطءَ أقدام حول «منطقة السلامة» فأعطوا إشارة الـخطر، ثم راحوا يستكشفون فتبيّن لهم أنّ الصوت صادر عن «مكاري» تائه!
عدنا إلى سؤالي عن الثورة، فابتسم محدثي وقال:
- هو ذا جوابي، أو بالأحرى الـجواب الذي تطلب، نحن نتجنب الاصطدامات الـمسلحة لأنها تكلّف البلاد ما قد لا تتحمل. وإنني شخصياً أبذل جهدي لكي أثبت عواطف أنصاري إزاء هذه الـحملات العسكرية علينا، وأتـمنى كثيراً ألاّ تكون الـحكومة ملحّة في إثارة أسباب تؤدي إلى إراقة الدماء!
وتذكرت وأنا أسمع هذا الـجواب أنّ أحد أتباع الأستاذ سعاده قال لي إنّ «كبسة ضهور الشوير في 27 يونيو/حزيران كادت تؤدي إلى اصطدام دامٍ مع الدرك، إذ كاد الدرك يلتقون صدفة بالـحرس الـمسلح قرب رابية ما في الضهور، فيقع عندئذٍ ما لا مناص من وقوعه، ولكن الأقدار شاءت أن تـحجب الأشجار كل جانب عن الآخر، على مسافة لا تزيد عن بضعة أمتار فقط. ورويت هذه الرواية للأستاذ سعاده، فأكدها لي، واستطرد قائلاً:
- أما إذا كان في نيّة بعض رجال الـحكومة إثارة مشاكل دموية، فالـحزب يكون براء منها!
هذا القول عينه سمعته لأسبوع خلا من أحد الوزراء، إذ قال لي إنّ الـحكومة لا تريد إثارة مشاكل دموية، فإذا وقعت مشاكل، فالـمسؤولية تقع على الـحزب وحده. وما دام الطرفان راغبين في تـجنب تلك الـمشاكل، فلا مجال للقلق!
إذا كان حديث الثورة الـمزعومة نقطة حساسة في حديثي مع الأستاذ سعاده فإن حديث سورية الكبرى هو أشد حساسية وأوسع مدى. ولقد بسطت في بدء هذه السلسلة خلاصة ما أشيع عن رحلة الأستاذ سعاده إلى عمّان، وكانت هذه الرحلة بيت القصيد من الـمقابلة كلها، فألقيت عليه السؤال التالي:
- ماذا فعلت في عمّان؟
فضحك وقال:
- ومن قال لك إنني كنت في عمّان؟
فأجبت: الناس يقولون ذلك، وقد جئت أسألك أنت ما تقول!
فتنحنح الأستاذ سعاده ثم قال:
- لقد أذاعت عمدة الإذاعة للحزب تصريحاً رسمياً نفت فيه ذلك الـخبر نفياً باتاً، كما نفت جميع الإشاعات التي تدور حوله. فأنا لم أذهب إلى عمّان، ولم أقابل الـملك عبدالله ولا أبا حنيك.
«وفي الوقت الذي كانت تنشر فيه الصحف أنني ذهبت إلى عمّان، وأني مقيم فيها، كنت أستقبل مـمثلي الصحف في لبنان وأدلي إليهم بتصريحـات نشروها في حينها. وكانت الوفود الزائرة لا تنقطع، وقد رأتني كلها كل يوم!»
- إذن فالـخبر مختلق من أساسه!
- تستطيع أن تكتب ذلك وأنت مطمئن!
وهل ستسافر إلى عمّان؟
لا أرى محظوراً من السفر إليها، فلنا فيها أنصار كثر، وقد أسافر يوماً لزيارتهم!
أتعتبر الـملك عبدالله منهم؟
- أنا أتكلم عن أعضاء الـحزب!
- ولكن الـملك عبدالله يقول مثلكم بسوريـة الكبرى، كما يقول بها أيضاً الأستـاذ جميل مردم رئيس الوزارة السورية، أفتتعاونون فيما بينكم على تـحقيقها؟
- لقد كنا البادئين في الدعوة إلى سورية الكبرى على الشكل الذي يتحدثون عنه الآن، ثم اقتبس عنا الآخرون الدعوة وتبنّوها. ولكنني أعتقد أنها لن تتحقق فعلاً إلا على يد حزبنا، فهو وحده القادر على تـحقيقها وفقاً لـمنهاج معين، لا لـخدمة مصالح فردية.
- هل اقترح عليكم أحد التعاون من أجل سورية الكبرى؟
- نحن ننفذ منهاج حزبنا!
ولكن ما هو موقفك من سورية الكبرى؟ أتستطيع أن تـحدده لي؟
- إنّ القضية القومية في مبادئنا سابقة لـجميع الـمشاريع السياسية التي جاءت اليوم تتبنى فكرتنا الأساسية. بيد أنّ موقفنا من هذه القضية ما يزال مستقلاً عن موقف أي جانب آخر، مستنداً إلى نهج معين، غايته إيجاد الوعي القومي على أساس اجتماعي اقتصادي تنفصل فيه الدولة عن الـمؤسسات الـحزبية والطائفية، وتوليد تيار من إرادة قومية موحدة تقرر هي الـمصير الأخير!
إلى هنا انتهى الـحديث، أو ما ينبغي نشره الآن من الـحديث. وكانت الساعة قد تـجاوزت الثانية والنصف، فودّعت محدثي شاكراً له لطفه وحفاوته، ورافقني بعض رجاله في مسالك وعرة خرجت بي من الغابة إلى الطريق الـحر إلى حيث أكتب للقُراء هذا الـحديث!