لم يكن تهذيب تفكير جبران مسوح ورفع مستواه أمراً هيناً. فهذا الشخص لم يكن له استعداد عقلي للدخول في أية قضية كلية، ونوع تفكيره لا يصلح إلا للمسائل الـجزئية، كما يظهر، من غير معاناة تنقيب، وبحث، من كتاباته.
وقد تـحقق الزعيم عجزه عن إدراك النقاط الـجوهرية في القضايا الاجتماعية - السياسية الكبرى من عدّة امتحانات: في سنة 1940 زار الزعيم مدينة سانتياغو دل أستيرو لدعوة الـمواطنين إلى النهضة القومية، وصحبه في هذه الرحلة جبران مسوح. فألقى الزعيم محاضرة اشتملت على نظرية من أروع النظريات الاجتماعية - السياسية ويصح أن تسمى هذه النظرية «نظرية الديـموقراطية التعبيرية»، خلافاً «للديـموقراطية التمثيلية» الشائعة في العالم. وكلّف جبران مسوح، تدوين ما سيقوله وتلخيص الـمحاضرة لترسل إلى سورية الـجديدة ففعل هذا كما أشار الزعيم. ولـما عرض تلخيصه عليه وجد الزعيم أنه أغفل بالكلية شأن النظرية الـخطيرة التي أعلنها، والتي هي أهم ما في تلك الـمحاضرة، لأنه لم يفقه لها معنى ولم يعرف لها قيمة. فاضطر الزعيم إلى تعديل التلخيص وإكماله بنفسه. ولـما ظهرت نظرية الزعيم في سورية الـجديدة ووصلت إلى الدارس والـمفكر القومي الكبير الأمين الدكتور فخري معلوف، وهو بعد طالب فلسفة في جامعة ميشغن، في أميركانية، أدرك حالاً خطورتها ورأى أنها تصح مستند ثقة لرأي خاص كان قد توصل إليه بتفكيره الـخاص في معالـجة القضايا الاجتماعية - السياسية في أساسها الفلسفي من وجهة نظر عقيدتنا ومبادئنا، فكتب ونشر في جريدة السمير مقالتين في الديـموقراطية الـجديدة ذكر فيهما نظرية الزعيم (وإن تكن السمير حذفت إسم صاحب النظرية لسبب من خصوصياتها) فكانت تانك الـمقالتان من أنفس الكتابات في هذه الموضوعات الجليلة التي يعجز تفكير أمثال جبران مسوح عن إدراكها وتناولها بكتاباتهم.
كان ما لـخصه جبران مسوح من محاضرة الزعيم الـمذكورة مقتصراً على حدود تفكير الـملخص، وهي حدود البسائط كالقول إنّ الـمحاضرة كانت عظيمة، وإنّ الناس أصغوا إليها بإعجاب، وإنّ الزعيم ذكر فيها فضل سورية في الشرائع وغيرها، وما هو من هذا النوع البسيط الـمحدود الذي لم يتجاوز جبران مسوح حدوده قط، لا حين كتب للعامة ولا حين كتب للخاصة. والـحقيقة أنه ليس في كتاباته كلها ما هو صالح لأن يتناوله تفكير الـخاصة.
كان عجز جبران مسوح عن إدراك خطورة نظرية الزعيم الـمذكورة آنفاً دالاً، ليس فقط على نقص قوّته الفكرية، بل على فقره العلمي أيضاً. فأخذ الزعيم يعالج ذهن جبران مسوح بالشروح الـمسهبة، وصار يكرر عليه وجوب قراءة كتابه نشوء الأمـم ليكتسب منه أساساً علمياً - فلسفياً يـمكّنه من فهم الأبحاث الاجتماعية والسياسية الهامّة للمجتمع الإنساني ومصيره. ولكن الـمصيبة كانت أنّ جبران مسوح كان يحتاج إلى علوم استعدادية سابقة تساعده على فهم الـمسائل التي يعرض لها كتاب الزعيم نشوء الأمـم وإلى مقدرة عقلية لإدراك هذه الـمسائل وخطورتها. فحاول أن يقرأ في كتاب الزعيم ولكنه توقف في الصفحات الأولى. وبعد جهد جهيد قرأ شيئاً في ذلك الكتاب ولكنه لم يتمكن من أن يقول فيه غير إنه «كتاب عظيم».
إذاً لم يكن جبران مسوح مؤهلاً للاستفادة في القضايا والـمسائل الكلية ذات الطبيعة الفلسفية، ولذلك لم يتمكن من إنشاء بحث واحد في قضية أو مسألة كلية، فإن له استعداداً جيداً لإدراك الـجزئيات الـمتعلقة ببسائط الاحتياجات العمومية. ولـما كانت القضية السورية القومية الإصلاحية، ككل قضية شاملة أخرى، ذات شعب جزئية عديدة، وكل قاعدة عامة من قواعدها لها فروعها العملية والتطبيقية، فقد غرف جبران مسوح من سيل هذه الـجزئيات كل الـمعاني والتعابير والآراء التي أكسبته، أو أكسبت كتاباته، تلك الـمنزلة التي تـمتّع بها في الأوساط القومية الاجتماعية حيناً من غير أن يعرف قيمتها الصحيحة.
الـحقيقة أنه إذا كان قد صار لـجبران مسوح شخصية، فهي شخصية كتابية وكلها مكونة من تعاليم سعاده وإرشاداته وعباراته وأقواله. ولذلك كان قولنا في ما سبق إنّ الزعيم أنقذ شخصية جبران مسوح من باب التساهل الكبير في مجاراة غرور هذا الشخص. فالواقع أنه لم تكن لـجبران مسوح، قبل اعتناقه الـمبادىء السورية القومية، شخصية واضحة، اللهم إلا إذا كان ما كتبه بالأجرة لـمصلحة فرنسة في وطننا، وما أجهد دماغه في إثباته بالسفسطة من عدم إمكان اتـحادنا القومي من مزايا تلك «الشخصية» الباهرة التي تستفيق الآن عوامل نفسه الـمريضة للندم على فقدها.
ما هي تلك الشخصية التي أراد جبران مسوح نبشها الآن ليوهم الناس أنها كانت شيئاً خطيراً؟ ومن هو «أحد حملة الأقلام في هذه البلاد» الذي يقول جبران مسوح في نشرة دفاعه إنه قال عنه إنه خسر «شخصيته» بانضمامه إلى الـحزب السوري القومي؟
الشخصية هي التي يضعها جبران مسوح نفسه! هي شخصية الكاتب الـمسلّي الذي يجتهد في صف كلمات وعبارات جميلة تسلّي الناس وتعجبهم وتلهيهم، كما يقول هو في مقالة أخيرة له صدرت منذ بضعة أشهر في هذه الـجريدة. وهي الشخصية عينها، التي، مع اعتراف جبران مسوح بها، كان، لغروره وولعه بالعظمة، يكره من ينعته بها ويحقد عليه. ولذلك حقد هو على الكاتب عينه الذي نعى له «شخصيته» لأنه وصفها بحقيقتها وحمل عليه حملة اندلعت من نيرانها ألسنة الـحقد اندلاعاً. ذاك «الـحامل القلم» الذي عناه جبران مسوح هو عبدالـمسيح حداد صاحب جريدة السائح التي تصدر في أميركانية، وهو الذي قال عن جبران مسوح إنه «خسر شخصيته» وهو الذي نعت جبران مسوح «بالكاتب الظريف» واغتاظ جبران مسوح لأنه لم يطلق عليه من قاموس اللغة نعتاً غير هذا النعت!
تلك هي «الشخصية» العظيمة التي «خسرها» جبران مسوح وذاك هو «حامل القلم في هذه البلاد» الذي نعاها إلى الأكوان!
تلك هي «الشخصية» الـمنكوبة في صورتها الأقل قبحاً، أما في صورتها الأكثر قبحاً فهي شخصية الـمأجور للاستعمار الفرنسي. شخصية صاحب الـمسيحي والـمسلم الذي حاول أن يدّعي لنفسه بعض تعاليم النهضة القومية، ولـما لم يكن إبن بجدتها مسخها ووصل بها إلى ضدها، فقال باستحالة اتـحاد السوريين من مسيحيين ومحمديين، وطعن في زعيم الـحزب السوري القومي طعناً خفياً لأنه قال بالوحدة السورية، وحارب في الـمسيحي والـمسلم هذه الفكرة بكل قوّته خدمة للمصالح الاستعمارية في بلادنا.
تلك هي «الشخصية» الـملعونة التي يقول جبران مسوح الآن في «إخائه»، بلهجة من يشعر بتضحية عظيمة، إنّ واحداً من الناس يحمل قلماً في أميركانية، وليس «في هذه البلاد» قال إنه خسرها بانضمامه إلى الـحزب السوري القومي!! فما أعظم تواضع جبران مسوح ويا لفداحة ما تـحمّل من الـخسائر، وما أعظم الصعوبات التي قاسى آلامها ليصير «جندياً في القضية»، حسب تعبيره، وليس جندياً لها كما كان يجب أن يكون!!
إذا لم يكن جبران مسوح قادراً، أصلاً، على فهم عمق فلسفة النهضة السورية القومية وتعاليمها، فقد كان قادراً على إدراك الشرف والشهرة وعلو الـمنزلة التي تصيبه من الاتصال بـمؤسسها والإغتراف من فيض علمه وغزارة شروحه، ومن نسج الكثير من تلك الشروح التي كان الزعيم يلقيها في الاجتماعات العامة والـخاصة، مقالات يرتِّبها جبران مسوح بأسلوبه العامي ويضع في ختامها إسمه، كما كانت تفعل بعض شركات التجارة بأقراص الغرامفون، التي كانت تكتفي بطبع إسم الـمغني على القرص وتغفل إسم صاحب اللحن الـموسيقي وإسم الشاعر الذي ابتدع الأنشودة ونظمها! ومع أنّ جبران مسوح رأى أنّ الـحرص على منزلة اكتسبها من إذاعة تعاليم سعاده ودروسه بقلمه وأسلوبه، يوجب الإقرار بالـحقيقة بطريقة من الطرق، فإنه لم يتمكن من ترك عادة الاحتيال على أفكار الغير التي كان يـمارسها، والتي اعترف للزعيم أنه كان من أهلها بقوله، جواباً على نقد الزعيم عادة كتّاب كثيرين في سورية ومصر يظنون النبوغ والـمهارة في أخذ أفكار غيرهم وسكبها من جديد بأساليبهم إيهاماً للناس أنّ ما يكتبونه هو بنات أفكارهم «يا معالي الزعيم، كلنا كنا هكذا وأنا كنت مـمن يظنون أنّ إتيان هذا الفعل هو عمل عظيم يرفع الكاتب»! فكان يقرّ بالـحقيقة إقراراً إجمالياً ناقصاً تضيع فيه حقوق كثيرة، كقوله إنّ الزعيم «رفع تفكيري» وإنّ النهضة «مديونة لأنطون سعاده» بتعاليمه وبـما غذاها من دماغه. وهذا الإقرار هو من باب الاحتيال اللطيف، الدقيق الذي لا يلاحظه إلا من كان كثير الروية والـمعرفة، حاد النظر واسع الإدراك.
إنّ الأمانة الصحيحة لـحقوق الفكر والـمفكرين توجب الاعتراف بأكثر من هذه الإجماليات التي يضيع فيها حق الفكر في أسلوب الكاتب الـمحتال. إنّ الأمانة توجب أن يشير الكاتب إلى كل فكر وكل قول وكل تعبير ليس له وإلى صاحبه. والزعيم يقدّم أعظم مثال على هذه الأمانة في كتاباته وأبحاثه العلمية والأدبية. فمن يقرأ نشوء الأمـم يرَ أنّ الزعيم لم يكتفِ بإيراد عبارات إجمالية تفيد أنّ بعض خطط التفكير التي يوافق عليها هي لعلماء آخرين من غير الدلالة على أية خطة من تلك الـخطط هي لغيره وأيّ من الـمفكرين هو صاحبها أو صاحب قول كذا ونظرية كيت، بل إنه وقف عند كل قول أو فكر أو تعبير ليس له ووضع عنده علامة وأشار في الهامش إلى صاحبه وفي أي كتاب من كتبه ورد. وفي مقالات الزعيم وأبحاثه كلها نراه لا يـمر بفكر أو قول جليل لسواه إلا ويشير إلى صاحبه.
من الدروس الكثيرة التي ألقاها الزعيم على جبران مسوح صار هذا الشخص يرى أنّ الـمصلحة، على الأقل، تقضي بالتظاهر بالأمانة. كان، كما في كتابه الـمسيحي والـمسلم وكتاباته السابقة، يأخذ أفكار غيره ويدّعيها لنفسه ويـمزجها بتفكيره السخيف ويخرج منها تلك الأخلاط الكتابية الغربية، الـمتنافرة التي تظهر جيداً في كتابه الـمسيحي والـمسلم الذي أنشأه وطبعه نحو أواخر سنة 1936، أو في أثناء سنة 1937 أو بعدها (إنّ الكتاب لا يحمل تاريخ صدوره ولكنه يذكر حوادث كحوادث بيروت التي جرت في نوفمبر/تشرين الثاني 1936، ويذكر انتخابات الـمجلس النيابي الشامي، فنقدّر أنّ الكتاب أنشىء بعد هذه الـحوادث وبعد مرور الوقت الكافي لورود بريد الوطن الـحامل أخبارها)، إذ انتحل فيه دعوة الـحزب السوري القومي إلى فصل الدين عن السياسة والإدارة، وتـجاهل وجود هذا الـحزب ودعوته، ثم أثبت فيه من مناقضات هذه الدعوة، كقوله باستحالة التفاهم بين أبناء الوطن، واستحالة تطور نفسية الـمحمديين، وفساد الدعوة إلى الوحدة السورية، ما يجعل اجتهاده في انتحال بعض الدعوة التي أعلنها سعاده باطلاً ولغواً!
بعد دخول جبران مسوح في الـحزب السوري القومي الاجتماعي وسيره فيه مدة وجد أنه يستحيل عليه إخفاء انتحالاته الفكرية كلها. فرأى أن يفكر في إقرار يجمع بين مظهر الأمانة لـحقوق الفكر، والاستمرار في انتحال ما يحتاج إليه من أفكار غيره ليبني به منزلة كتابية تكسبه الشهرة. فاعترف اعترافاته الإجمالية الـمشار إليها، ولكنه أبقى لنفسه انتحال طائفة كبيرة من الـمعاني والشروح التفصيلية تـحت ستار أنها تفكير خاص له تولّد بفضل الـمبادىء القومية وتوجيهات سعاده الفكرية. والواقع أنّ معظم التفاصيل الفكرية الهامّة التي شحن بها جبران مسوح مقالاته القومية، هي أفكار وشروح اقتبسها من أحاديث الزعيم ومحاضراته غير الـمنشورة والـمنشورة من غير إشارة إلى الـمصدر الذي اقتبس عنه. فكان في حين يتظاهر أنه من تلاميذ سعاده يهضم حق الأمانة للتلمذة التي لا بد منها لإقامة البناء الفكري على أساس متين. فلولا أمانة تلاميذ الـمسيح لكل قول من أقواله وكل فكر من أفكاره، لكانت تضعضعت الـمسيحية بين ما ينتحله متى ويوحنا وبطرس وبولس ومرقس ولوقا. تـحت ستار القول «إنّ سعاده رفع تفكيري» وإنّ سعاده هو «مصدر التعاليم القومية كلها» صار يجيز لنفسه إنشاء مقالات كثيرة ينسجها بأفكار الزعيم وأقواله، ويظهرها كأنها من تفكيره الـخاص بعد أن رماه الزعيم!
لا متسع لنا من الوقت لـمراجعة جميع ما كتبه جبران مسوح وتعيين كل فكر وكل قول من الأفكار والأقوال التي هي للزعيم أو لغيره، واستعملها من غير أن يشير إلى صاحبها، ولكننا نضرب أمثلة قليلة تكفي للدلالة على غيرها:
كان الزعيم أول من أشار إلى فساد مبدأ الوطنين، وهو مبدأ تـمسك به عدد من الصحافيين والأدباء السوريين الـمهاجرين، لأنهم وجدوا فيه مبرّراً لانفلاتهم من قضية أمتهم ووطنهم الـحقيقيين وتخلّيهم عن الـمواقف الـجهادية التي لا وطنية ولا قومية بدونها، وعلّم الزعيم أنه لا يـمكن أن يكون للإنسان إلا وطن واحد يشغل قلبه وقومية واحدة تـملأ نفسيته. وألقى على جبران مسوح من الدروس والشروح في هذا الـمعنى شيئاً كثيراً. فكتب جبران مسوح مقالات في انتقاد فكرة «الوطنين» وأصحابها كأن الفكر له. ويترجح عندنا أنه سبق الزعيم إلى الكتابة في هذا الـموضوع، ولكنه أغفل شروط أمانة التلمذة التي توجب إسناد التعليم إلى الـمعلم، فلم يقل «كنت عند الزعيم يوماً وكان يقرأ بعض أعداد جريدة السمير وغيرها ويستاء جداً مـما يقرأ. فالتفت إليّ وقال: ما أسوأ هذه الكتابة القاتلة للروح القومية والشعور الوطني، وما أشد ما تـحمل من الإثم بإنزالها معنى الوطنية إلى حضيض فكرة السكنى. وما أغرب أمر هؤلاء الكتّاب الذين يطالبون الشعب بنهضة قومية وأعمال وطنية، بينما هم يعلّمونه أنّ الإنسان يقدر أن يجد وطناً آخر يستعيض به عن وطنه وقومية أخرى ينتسب إليها، ويستغني بها عن قوميته! ما أشد خطأهم! إنّ الوطني الـحقيقي يقدر أن يرى جمال وطن مضيفه وخيره ولكنه لا يقدر أن يجعله في مقام وطنه هو وأن يساوي بين الوطنين في الـمنزلة من قلبه وفي الـمعنى الوجودي والارتباط الـمعنوي والفيزيائي. ولا يقدر القومي الـحقيقي على قبول مبدأ القوميتين الذي يجيز له الانشغال بالثانية عن الأولى مرة، وبالأولى عن الثانية مرة أخرى.» كلا، لم يقل جبران مسوح شيئاً من ذلك بل أخذ يحمل على دعاة فكرة الوطنين كأن ذلك كل واجبه.
ليس تعليم الزعيم بفساد مبدأ الوطنين والقوميتين للإنسان الواحد أمراً شكلياً يختص بظاهر الأمور، بل من التعاليم القومية الأساسية، ولذلك يجب على التلامذة إثباته في صلب تعاليم الزعيم التي لم يتمكن من تدوينها بنفسه. أما جبران مسوح، الذي اعترف للزعيم على حدة أنه كان يجد استعمال أفكار الآخرين بلباقة تخفي الـمصدر الـحقيقي فناً عالياً في الأدب، لم يكن يرى شيئاً أهم من مقاتلة من كان هو في صفوفهم بسلاح الفكر القومي الـمنبثق من دماغ سعاده، فتختلط كتاباته بكتابات الزعيم ويجاري قلمه قلمه ويسير «فكره» هو إلى جنب فكر الزعيم فيظهر أمام الناس ليس بـمظهر من يأخذ أفكار الزعيم التي كان يعلنها له في صحباته، بل بـمظهر من رقّى الزعيم تفكيره فصار يستنبط من تلقاء نفسه تعاليم ومعاني هي في منزلة تعاليم الزعيم ومعانيه. وهذه هي الروحية اللاقومية الـممقوتة عينها التي تفتك بـمعنويات الأمة وتلغي القيم الـحقيقية التي يجب أن تتمسك بها نفوس الشعب الـحي.
وقبل أن يصل الزعيم إلى الـموقف الفاصل مع جبران مسوح كان يوم أحد في الـمحل التجاري ينظر في بعض الأمور. وبعد الفراغ من الـمسائل التجارية سأله جبران مسوح رأيه في بعض القضايا الإنترناسيونية ومرامي ألـمانية وغيرها فأجابه الزعيم، على عادته، وأخذ يشرح له وجوه الـمسائل السياسية الإنترناسيونية ويحلِّل موقف بعض الأمـم البارزة في هذه الـحرب، فأظهر نظرة الألـمان في قضايا العالم من وجهة نظر ألـمانية، ونظرة الإنكليز في هذه القضايا من وجهة نظر إنكلترة، وتطرّق إلى تـحليل نفسية الإنكليز وأساليب عملهم بنظرتهم والأمور التي يرمون إليها وهي متسترة بستار تقواهم. فأخذ جبران مسوح أفكار الزعيم ونسج بها مقالته الأخيرة التي نشرتها له الزوبعة التي عنوانها «صلاة إنكليزي». ولـما أكملها عرضها في صباح اليوم التالي على الزعيم ليمرّ عليها نظره قائلاً: «إنّ التفكير في هذه الـمقالة هو كله لـمعاليكم فليس لي فيها إلا الأسلوب.» فمدح الزعيم أسلوبه الـحسن في إظهار الفكرة، وأشار بإرسال الـمقالة إلى الزوبعة. وقد ظن جبران مسوح، على جاري عادته، أنه قد نـجح هذه الـمرة أيضاً بستر غايته، بإعلان الـحقيقة حيث لا يجب إعلانها وإخفائها حيث يجب إظهارها!
إنّ الزعيم يقدر أن يعرف أفكاره من غير أن يقدِّمها إليه مقدم معرّف. أما الذين لا يقدرون على معرفة ذلك دائماً فهم عامة الناس غير الـمطلعين. هؤلاء يجب أن تقال لهم الـحقيقة كلها كما هي تـماماً لا نصفها ولا ثلاثة أرباعها. ولكن الـمصلحة الـخاصة لم تكن ترى وجوباً لذلك!
حوالي الوقت الذي كتب فيه جبران مسوح مقالته «صلاة إنكليزي» مرّ بالـمحل التجاري الرفيق عباس الـمجاور ومعه أحد الأعضاء غير الـمحمودي السيرة القومية إسمه إدوار نـمر، فشاهدا الزعيم في الشارع فحيياه ثم عطفا ودخلا الـمحل ليسلّما عليه.
فبدأ إدوار نـمر بتحية سورية ومد يده ليصافح الزعيم من غير أن يتروى في ما يصح أن يفعله أو لا يصح بعدما ظهر من تخاذله ومن تصرفاته الأخرى غير اللائقة بالقومي. فاستنكر الزعيم مدّه يده بكل جرأة، ولم يـمد يده بل قال له «ماذا تقصد بقولك لي تـحيا سورية؟ ولـماذا لا تقول تـحيا الفوضى ويحيا الـخلط؟» فاندهش ذاك الشخص من صراحة الزعيم وارتبك وسأل عما أتاه متجاهلاً أو غافلاً فأظهر له الزعيم عدم انطباق أعماله على الروحية القومية والواجب الـمناقبي والنظامي. فلم يكن من ذاك الرجل إلا أن أخذ يبرر موقفه بحجج وأعذار متنوعة. فسأله الزعيم هل يرى موقفه الأخير جيداً وأعماله صالـحة، فأجاب بالإيجاب. حينئذٍ خاطبه الزعيم قائلاً: «إذا كنت أنت تعيّن صلاحك بنفسك فما حاجتك إليّ وإلى الـحزب السوري القومي؟ إنّ هذا الـحزب هو حزب من يطلبون الهداية والإصلاح، فشأنك هو غير شأننا فدعنا وشأننا، وسر في طريقك فهي غير طريقنا. إنّ طريقينا مختلفتان فإذا كانت طريقك إلى السماء فطريقنا إلى جهنم، وإذا كانت طريقنا إلى السماء فطريقك إلى جهنم.» وكان جبران مسوح واقفاً يسمع فقال لنمر: «إنّ كلام الزعيم هو الـحق، ونحن كلنا كنا لئاماً في حادث الكردي» ولكن التصرف الأشد لؤماً هو أن يأخذ جبران مسوح عبارة الزعيم بعينها، ويختم بها دفاعه الأثيم موجهاً إياها إلى الزعيم نفسه كأنه هو صاحب هذا القول الذي تتمثل فيه عزيـمة الزعيم النافذة وليس عزيـمة جبران مسوح الـمطاوعة. فالزعيم هو الذي أطلق جبران مسوح فانطلق وليس جبران مسوح هو الذي أطلق الزعيم. وجبران مسوح نفسه يشهد بذلك في دفاعه كما يشهد الذين حضروا طرد الزعيم إياه من حضرته. فالعبارة ليست له بل للزعيم، ولكنه انتهز فرصة عدم نشرها فأسرع إلى إعلانها كما لو كانت له، ولم يكن له حياء أو خجل يردعه عن انتحالها!
هذه كانت دائماً طريقة جبران مسوح في «اكتساب الفكر». وفي بادىء أمر استعماله الـمعاني والتعابير القومية الاجتماعية كان ينتحل الفكر انتحالاً من غير إشارة على الإطلاق إلى مصدره، إلى أن أخذ الزعيم يضع له الـملاحظات على مقالاته، ويوجب الإشارة إلى مصادر بعض الفكر، فحينئذٍ رأى مسوح أنه لا مناص من الاعتراف ببعض الـحقيقة فجعل يشير تلك الإشارات الإجمالية، التعميمية التي كانت شيئاً وسطاً بين إظهار مصدر الفكر وانتحاله.
مع ذلك كان الزعيم يرفق به ويجد له بعض العذر في ما اكتسبه من الأساليب اللاقومية التي جرى عليها عدد غير قليل من كتّاب الصحف في سورية ومصر. وكان الزعيم يتوقع أن يتدرج مسوح في الروحية القومية ومناقبها ويكتسب ثقة بالـحق وبالنفس، تـجعله يرى إعلان الـحقيقة وإعطاء كل ذي حق حقه منقبة تشهد لصاحبها بسمو النفس ومتانة الأخلاق فيكتسب، بهذه الطريقة، منزلة هيهات أن يكتسبها بالانتحالات والـمواربات وضروب الرياء. فأخذ يضع له في مقالاته بعض الإشارات الواجب وضعها، ثم جعل يشجعه بإبراز أقواله وتعابيره كلما سنحت الفرصة، بل إنّ الزعيم ذهب إلى أبعد من ذلك فعزا إلى جبران مسوح ما ليس له في الأصل، كما فعل حين ذكر في كتابه الصراع الفكري في الأدب السوري جبران مسوح ونسب إليه القول: «لم نكن نعلم أي درك من الانحطاط الأخلاقي وضعف الـمناقب بلغ شعبنا، إلى أن دخلنا في الـحزب السوري القومي الاجتماعي. الآن أصبحنا ندرك الفساد الـمتفشي في أمتنا وخطره على حياتها.» فكل متأمل في هذه العبارة يجد فيها انتظام تعابير الزعيم نفسه. والـحقيقة أنّ جبران مسوح صار يردد شيئاً من هذا القول، ولكن ذلك كان على أثر حديث للزعيم معه أظهر فيه سعاده كم كشفت مبادىء النهضة القومية الاجتماعية ومناقبها من تدهور الـمناقب والأخلاق في شعبنا، فقال مسوح: «صحيح، يا معالي الزعيم، فالـحقيقة أننا لم نكن نعرف إلى أية حالة من الانحطاط وصلنا إلى أن دخلنا في الـحزب» ثم رأى مسوح أن يستعمل هذا التعبير فاستعمله ورأى الزعيم أن ينشطه ويزيد له ليدرك أنه إذا كان يُعطى أكثر مـما له، فكم يجب عليه أن يكون أميناً على ما لغيره. ولكن جبران مسوح، على ما ظهر أخيراً، لم يقدر أن يتجاوز حد الاعتراف الإجمالي الـمبهم. وهو ظن أنه أظهر من الـمهارة في بلوغ الشهرة غير الـمستحقة ما لم يبلغه غيره وكان سعيداً بهذه النتيجة الباهرة!
من جهة أخرى صار جبران مسوح يهتم بالكتابة عن الزعيم أكثر كثيراً مـما يهتم بالكتابة عن النظام، والسبب واضح: إنه فهم الزعيم وأدرك من عمله ومقاصده أكثر مـما فهم نظام الـحركة السورية القومية الاجتماعية وأدرك مـما عملها وفلسفتها. ومقالاته كلها تشهد بذلك وهذه الشهادة تكذّب ما ادعاه في «إخائه» أنه لم يقبل بزعامة سعاده إلا من أجل النظام وحاجة الأمَّة إليه. وأول مقالة كتبها بعد تعرّفه إلى الزعيم بعنوان «كيف عرفت الزعيم» كانت شهادة في الزعيم لا في نظام الـحزب السوري القومي الاجتماعي، وهو كتبها باختياره الشخصي لا بأمر النظام ولا عملاً بواجب النظام. فالنظام السوري القومي الاجتماعي لا يكلف أحداً أن يقول في أنطون سعاده ما لا يعتقده ويراه فيه.
أما في ما يختص بالنظام الذي يحاول جبران مسوح الآن أن يتمسك بفكرته ويبرر رياءه القومي فلم يكن أبعد من جبران مسوح عن فهمه والتقيد به:
عندما أنشأ الزعيم أول مديرية للحزب السوري القومي الاجتماعي في توكومان عيّن جبران مسوح أحد أعضاء لـجنة الإدخال فيها، وكان ذلك قبل تعيينه مشارفاً على مديريتي توكومان وسانتياغو دل إستيرو، وشرح للجنة الـمذكورة صلاحياتها الـمنحصرة في إدخال وتسجيل طالبي الانضمام بعد أن توافق هيئة الـمديرية على إدخالهم. فلم يـمضِ غير وقت قصير حتى كثرت شكاوى الـمدير من خروج جبران مسوح على النظام وإدخاله أشخاصاً بطرق غير قانونية. والـمشاكل النظامية والإدارية التي أوجدها جبران مسوح كثيرة جداً ولكنه كان ينقذ نفسه في أكثر الـحالات بالتعلق بسعاده والـمبالغة في إظهار الأمانة له!
في توكومان تعرف الزعيم إلى عائلة جبران مسوح. وما كان أشد دهشته عندما رأى الشعور الوطني السوري مفقوداً بالكلية منها. لم يكن مسوح يقول لعائلته شيئاً عن سورية إلا ما كان يقوله في كتاباته السابقة مثل الـمسيحي والـمسلم. وأول قول فاهت به زوجته في حضرة الزعيم كان إنها لا تفكر بسورية ولا تريد العودة إلى تلك البلاد، وإنها لا تشعر أنّ سورية وطنها، لأنها لم تذق فيها غير العذاب، وكان جبران حاضراً فقال: «إنّ ما تقوله بلوميا هو صحيح فنحن لم نكن نشعر أنّ لنا وطناً.» وبهذا الشعور نـما جميع أولاد جبران مسوح جاهلين لغة آبائهم وأجدادهم، حتى الـمولودون منهم في سورية. السعيد السعيد فيهم من يقدر أن يرد ببضع عبارات عامية. ولعل الوحيد فيهم الذي له قدرة على شيء من ذلك ابنته الكبرى الـمتزوجة. أما بقية أولاده فقد يفهمون بعض جمل ولكنهم لا يقدرون على الكلام والتحدث بالعربية.
ولكن الزعيم تـمكن، من أول حديث فاه به لفئة من الشبان أبناء الـمواطنين في توكومان، من إضرام شعلة القومية والوطنية في صدورهم. وكان بين الذين اتقدت نفوسهم بهذه النار الـمقدسة إبن جبران مسوح أمين. وأخذت أحاديث الزعيم توضِّح القضية السورية القومية الاجتماعية ومراميها وكان من وراء ذلك التفاف كتلة من الشبان كان يـمكن أن يرجى منها خير للقضية.
أصاب عائلة جبران مسوح نصيب كبير من أحاديث الزعيم التي تناولت كل ناحية من نواحي الفكر والشعور والأدب. فتكلم على الأمة السورية والوطن السوري وماضيهما وحاضرهما، وتكلم على الـمسيح وجبران خليل جبران ومحمد. وتكلم على التعصبات الدينية وعلى وحدة العائلة. وفي هذا الـموضوع الأخير وعظ الزعيم عائلة جبران مسوح وعظات خصوصية لأنه رآها متفسخة الروحية تفسيخاً كبيراً.
إذا كان جبران مسوح قد حسّن كتاباته في صدد الـمسيح ومحمد والأديان الراقية جميعها، فالفضل في ذلك لأحاديث الزعيم ومواعظه. فقد كان جبران مسوح يحارب الدِّين كله حرباً عمياء جاهلة، وكانت أحاديثه وكتاباته في هذا الصدد فوضوية، مهدِّمة. فأخذ يصلح له تفكيره ويبيّن له ما كان للدين من فضل. فصار مسوح أخيراً يرى الـمسيح ومحمداً جديرين بالاعتبار وكتب لعيد أول مارس/آذار سنة 1943 مقالته «سعاده والـمسيح ومحمد» التي قال فيها إنّ سعاده جمع بين الـمسيح ومحمد لـخير الإنسانية، الخ.
وصار جبران مسوح، كلما رأى كتاباته ترتقي ومركزه يتحسن ونطاق قرائه يتسع بفضل إرشادات أنطون سعاده ومبادىء النهضة السورية القومية، يزداد تـحمساً للزعيم وتأييداً له. وكانت حدَّته في هذا السبيل بارزة. ولكنَّ الزعيم كان يظن ويقدّر أنها ناتـجة، بالأكثر، عن إيـمانه الـجديد واهتدائه بعد أن كان ضالاً بلا قومية ولا وطن ولا أدب صحيح ولا عقيدة دينية أو اجتماعية. ولذلك كان الزعيم يدافع عن حدّته الظاهرة في كتاباته السياسية والاجتماعية التي أوجدت نفرة منه عند كثيرين وأثارت عداوات في بعض أوساط الـمواطنين لا حاجة إليها ولا مبرر لها.
قلنا إنّ عائلة جبران مسوح كانت مفسخة تفسخاً روحياً عظيماً. وعدا عن ذلك كان هنالك انقسام اجتماعي واضح: كانت زوجته تشكو كثيراً للزعيم من تصرفات جبران وشذوذه وعدم شعوره بالـمسؤولية نحو عائلته. وكانت تلك السيدة تقول إنه لولا ابنها أمين لـما كان قام للعائلة قائم. وكانت هذه الشكاوى تشمل حياة جبران مسوح قبل دخوله في الـحزب السوري القومي. كان جبران مسوح مهملاً وعديـم التدبير ومبذراً. هذه خلاصة الشكوى، فأخذ الزعيم يهوّن على زوجته ويوجد لها أعذاراً متعددة لسلوك جبران، أكثرها يستند إلى تعليل الـحالة باشتغال جبران في الأدب.
إنّ جبران مسوح لكاذب في قوله في الإخاء إنه سلّم ابنه أميناً مصير العائلة والـمال الذي أصابه من الشركة التي كانت معقودة بينه وبين أخيه أديب والتي كان لإبنه أمين ضلع صغيرة فيها «بسبب مرضه». والـحقيقة هي أنّ عائلته لم تقبل بتسلمه هو ذاك الـمصير لأنها عرفت من الاختبارات السابقة أنه يكون إلى الـخراب. فلما تسلّم أمين الـمال والتجارة دخل أبوه جبران في محله مستخدماً تـجارياً بأجرة معينة. وصار يعمل لـمحل ابنه بهذه الصفة، فلم يكن قاعداً لـمرض، كما يدّعي بهتاناً لستر عجزه. والذي لا يقدر أن يقوم بعمل تـجاري وهو سيد محله بسبب مرضه، كيف يقدر أن يعمل العمل التجاري، على الرغم من مرضه، وهو مستخدم بالأجرة؟ وسفرات جبران مسوح الـمتواصلة إلى بوينُس آيرس ووجوده في محل إبنه يومياً، إلا حين يصاب بألم أو حالة مرضية مقعدة، لا تدل على أنه كان عاجزاً عن العمل أو متقاعداً. ولكنه كان يعمل على مسؤولية إبنه وليس على مسؤوليته هو. وكان عليه أن يعمل بأوامر إبنه وتوصياته. فلم يكن له من الأمر شيء. فالأدلة متوفرة على كذبه في القول إنه سلّم إبنه رأسماله لأن مرضه أوجب عليه ترك العمل التجاري.
وكان بين جبران مسوح وعائلته خلاف آخر خفي بقي مستوراً إلى أن انكشف بفضيحته الأخيرة في اشتراكه التجاري مع الزعيم وخيانته له.
للبحث استئناف