(من دائرة الإنشاء: لا نـجد بـمناسبة حلول الـميلاد الأربعين من حياة الزعيم، أفضل من الإدلاء بوصف موجز لأهم حدث جرى في سورية، منذ أجيال إلى اليوم، ألا وهو محاكمة زعيم الـحزب السوري القومي الاجتماعي ومعاونيه من أتباعه في الـمحكمة الفرنسية الـمسماة «الـمحكمة الـمختلطة»، وإثبات خطاب الزعيم الرائع الذي كان انتصاراً عظيماً ليقظة سورية وحياتها، وقال فيه الـمحامي يوسف السودا: «لو اجتمعت نقابة الـمحامين كلها لتضع دفاعاً عن الزعيم لـما تـمكنت من وضع مثل هذا الدفاع الـمجيد»، كما شهد الرفيق عبدالله جميل الذي سمع هذا الكلام من الأستاذ الـمذكور قبل أن يصير قومياً اجتماعياً، وكان تعليق الـمحامي مـما زاد يقينه بصحة رسالة الـحزب السوري القومي، وحمله على الانخراط في سلكه)».
في الثالث والعشرين من شهر يناير/كانون الثاني سنة 1936 وقفت سورية لأول مرة بعد نحو عشرين قرناً تـجاه الإرادات الـخارجية وأمام العالم الـمتمدن مثبتة شخصيتها الصريحة، وحقها الأصلي الأكيد في الـحياة والسيادة والاستقلال.
إنّ تشنجات وحوادث كثيرة حدثت في سورية في القرون التي عقبت زوال السيادة السورية في العهد السلوقي، أهمها حوادث العهد الأموي، وحوادث العهد الأيوبي، ولكن جميع تلك التشنجات والـحوادث كانت خالية من قضية قومية صريحة يصح أن تسمى قضية الأمة السورية وشخصيتها وحقوقها ومصالـحها.
كانت هنالك حوادث قضايا دينية وشخصية وقبائلية. وإذا كانت حقيقة الأمة السورية تطل في لـمحات من تلك القضايا، فلم يكن ذلك ظهوراً جلياً لشخصية الأمة وقضيتها القومية الصريحة. ولذلك لم توجد قضية قومية حقيقية للأمة السورية مستقرة في وجدانها، حيَّة في قلوب أبنائها ومتناقلة في أجيالها، فظلت عناصر هذه الـحقيقة الاجتماعية الكبرى يلوح بعضها في بعض الـحوادث ثم يختفي، ثم يلوح بعضها الآخر في بعض الـحوادث الأخرى ثم يختفي.
لم توجد قضية قومية صحيحة لسورية حتى كان نشوء الـحزب السوري القومي الاجتماعي، ولم يدرك العالم أنّ لسورية قضية قومية اجتماعية حتى كانت محاكمة الـحزب السوري القومي التاريخية في الثالث والعشرين من يناير/كانون الثاني سنة 1936، أو بالـحري محاكمة زعيم الـحزب وأعضاء مجلس عمده وعدد من موظفيه في الـمحكمة الأجنبية الـمسماة «الـمحكمة الـمختلطة».
كان يوماً عظيماً بزغت شمسه على محيط التفّ فيه الشك على اليقين حتى إذا بلغت الشمس رابعة النهار اضمحل الشك، وتأيّد اليقين، وزهق الباطل وفاز الـحق فوزه الـمبين.
وفي هذا اليوم وقف شاب اسمه أنطون سعاده ليقارع قوات عظيمة ويقاتل وحيداً الظلم والظالـمين، وليلقي على أتباعه دروساً في الإقدام والبطولة الـخالدة، ولينزع الـخوف من قلب شعبه ويعيد إليه ثقته بنفسه وبحقه في الـحياة الـمثلى والـخلود.
لم يكن لهذا الـموقف سابقة في كل تاريخ سورية منذ نحو عشرين قرناً. إنه ليس مواجهة مشنقة بعد حكم لم يبقَ مفر منه، بل هو موقف صراع رهيب بين قوتين غير متكافئتين مادياً، وأبواب الرجوع والهرب لا تزال مفتوحة ومجال التملص من الـمسؤوليات واسعاً. وجميع الأمثلة السابقة من تاريخ سورية في الأزمنة الأخيرة تدل على شيء واحد وخطة وحيدة: محاولة التملص والهرب. بل إنّ حوادث متأخرة عن زمن محاكمة الـحزب السوري القومي، أثبتت أنّ محاولة التملص والهرب لا تزال الـخطة الـمتبعة في جميع الأعمال السياسية خارج نطاق الـحركة السورية القومية الاجتماعية، كما جرى حين تخلّى رجال «الكتلة الوطنية» الشامية عن الـمعركة بعد نزول الـجيش الفرنسي إلى أسواق دمشق في مسألة الاعتصابات في أوائل سنة 1936 وبعد محاكمة الـحزب السوري القومي، وكما جرى حين تخلّى أولئك الرجال عينهم عن طلب الوحدة الشاملة لبنان بسبب ضغط الفرنسيين في مفاوضات «الـمعاهدة» السيئة الطالع، وحين تخلّوا بعد ذلك عن لواء الإسكندرونة وعن الوحدة التامة مع الـمناطق كجبل حوران ومنطقة اللاذقية ولواء الـجزيرة وغيرها، وكما حدث للرجال الذين حاولوا تقليد الـحزب السوري القومي في تشكيلاته وأعلنوا ما سموه «الشباب الوطني» ذا فِرَق «القمصان الـحديدية» فإن الذين قبض عليهم منهم استعطفوا الدولة الـمحتلة، وأرسلوا من سجنهم كتباً إلى أصدقائهم يوصونهم أن يكونوا مع فرنسة!
كل هذه الأمثلة الـمعوجة التي لم يـمكن أن تنشىء لسورية قضية، سقطت في الثالث والعشرين من يناير/كانون الثاني سنة 1936 وقام على أنقاضها مثال عظيم للاستقامة والثقة بالنفس والبطولة الـخالدة.
كانت الـحكومة قد أخذت استعداداتها لهذا اليوم، فحظّرت الدخول إلى دار القضاء على كل من لا يحمل وثيقة أو إذناً خاصاً يخوّله ذلك. ووزعت فرق الدرك والشرطة في مركز الـمدينة وحول دار القضاء. وكل الذين رغبوا في حضور الـمحاكمة، ولم تكن لهم في دار القضاء قضية يتخذونها حجة للدخول اضطروا لطلب مأذونية خاصة. ومع ذلك فقد غصّت الـمحكمة الـمختلطة بالناس. فكان عدد الـمحامين من أعضاء نقابتهم كبيراً، وحضر عدد من رجال القانون والسياسة وجمهور كبير من الطبقات العليا وأفراد من جميع أوساط الشعب. وكان بين الـحاضرين عدد قليل، نسبة، من السيدات بعضهن كن يتهامسن بالفرنسية. ولـما صارت الساعة التاسعة والنصف كانت الأروقة والـممرات الـملاصقة لقاعة الـمحكمة الـمختلطة، قد صارت جسماً واحداً مرصوصاً من الناس.
لم يكن الازدحام في الـخارج حول دار القضاء أقلّ منه داخلها مع أنّ الـمجال أوسع كثيراً. هناك كانت جماهير من الشباب الآتين من كل حدب وجهة يدفعهم دافع يعونه ولا يعونه!
كانت أشكال الناس الـمتجمهرين، حسب روحيتهم، كثيرة. كان هنالك كثيرون جاؤوا ليحضروا مشهداً قد يكون في غرابته لذة. وبعضهم جاؤوا لينظروا إلى فئة من «الأغرار» تـحاول القيام بأمور لا تعرف عواقبها الوخيمة عليها، وهي تـمثل الآن أمام الـمحكمة لتنال جزاء جهلها وغرورها وغلطها في تقدير قوّتها وقوة السلطة القائمة في البلاد! والبعض الآخر من الناس جاؤوا لأنه لم يكن لهم عمل هام يقومون به. ولم يكن قليلاً عدد الطفيليين.
أما القوميون الاجتماعيون فكثيرون منهم أتوا ليكونوا قرب زعيمهم في هذا الـموقف الرهيب، جاؤوا ليهتفوا له وللقضية التي أوجدها، مهما كان من أمر الـمحكمة ومن نتيجة الـمحاكمة. ومنهم من أتى «ليرى ما سيحدث». والذين أيقنوا منهم بوخامة العاقبة والهلاك لم يأتوا، بل ذهبوا في وجهات أخرى يطلبون الـخمول والسلامة. وعدد قليل من الرفقاء مدرك، واعٍ أتى يـملأ نفسه إيـمان عظيم بزعيمه وقضيته، هذا العدد أتى دار القضاء، كما كان يأتي قبل السجن إلى مقر الزعيم، يطلب تعليم زعيمه وحكمته. هذا الفريق أتى واثقاً أنّ زعيمه في الـمحكمة لن يكون غير زعيمه في الـمجامع الأخرى.
وباكراً في صباح هذا اليوم التاريخي جيء بالزعيم من السجن في سيارة نقل الأشقياء والـمجرمين، وجيء معه بالرفيقين الوحيدين اللذين أبقيا موقوفين معه وهما رئيس مجلس العمد وعميد الداخلية نعمة ثابت وعميد الدفاع زكي النقاش، ناظر كلية الـمقاصد الـخيرية الإسلامية وأستاذ التاريخ فيها. وكان الثلاثة محلوقي شعر الرؤوس على عادة سجن الـمجرمين. وأدخلوا قاعة الـمحكمة حالـما فتحت أبوابها فكانوا أول الداخلين إليها بعد الـمستخدمين البسطاء الـمنوط بهم ترتيب القاعة. وأخذت لهم صورة وقد وقف خلفهم جنديان من جنود الـمحافظة في السجن. وكانت الـمراكز التي اتخذوها على مقاعد خاصة بالـمتهمين الـموقوفين.
ثم أخذ الناس يتواردون وحداناً ثم زرافات. وبين القادمين كان رفقاء متهمون أطلق سراحهم بكفالة مالية، ورفقاء غير متهمين أتوا ليكونوا «حاضرين»، وبسرعة امتلأ الـمكان وصار الوقوف أكثر من القعود. وكثيرون لم يكونوا يعرفون الزعيم صاروا يجيلون عيونهم في الـمكان لعلهم يتمكنون من معرفة أي هو الزعيم، وكثر الهمس بينهم على من يكون الزعيم. وكثيرون بقوا في حيرتهم وتساؤلهم، إلى أن أطلت هيئة الـمحكمة بـملابسها الـمهيبة فوقف الناس جميعهم إجلالاً للقضاء.
الهيئة ثلاثة قضاة: الرئيس، فرنسي اسمه روساه وعضو اليمين، فرنسي أيضاً وعضو اليسار، سوري، لبناني الـمنطقة من بيت رعد. واتخذ الـمدَّعي العام الفرنسي موقفه مقابل جانب الـمتهمين. واسم الـمدَّعي العام هذا فورنياه وهو أيضاً فرنسي. وأمام هيئة الـمحكمة وفي الصفوف الأمامية من جهة الناس وإلى جانب الـمتهمين اتخذ الـمحامون الـمتطوعون للدفاع عن الـمتهمين مواقفهم، وفي طليعتهم الأستاذان حبيب أبو شهلا وحميد فرنجية الـمختصان بالدفاع عن الزعيم، ومن جملتهم الأساتذة شارل عمون، الذي اختص بالدفاع عن الأستاذ صلاح لبكي، وإميل لـحود الذي أخذ وجهة الدفاع العام من الناحية الـجزائية، وشفيق ناصيف، الذي اختص بالدفاع عن رئيس مجلس العمد نعمة ثابت وعبدالله اليافي مدافعاً عن عميد الدفاع ورفقاء آخرين، ومحامون آخرون غير قليلين منهم من آل ذوق ومنهم من آل غطاس وآل مارون وغيرهم.
أمام رئيس الـمحكمة صحائف مكدسة من أوراق الـحزب الـمصادرة بينها نسخة من خطاب الزعيم في أول يونيو/حزيران 1935، ومن تقارير قاضي التحقيق والـمدَّعي العام.
رفع الرئيس رأسه عن الأوراق، وقد أمسك بيده بعضها، ونادى: أنطوان سعاده!
لم يجب أحد. فكرر الـمناداة: أنطوان سعاده! فلم يكن جواب. وصار الناس يتلفتون ويتساءلون، والذين كانوا يعرفون الزعيم صاروا يوجهون إليه نظراً فاحصاً أو حائراً. ولعل البعض ظن أنّ الوجل أحاق بقلب الزعيم فخارت عزيـمته وعقل لسانه. والتفت الـمحاميان فرنـجية وأبو شهلا إلى الزعيم وقالا له: الرئيس يناديك. فأجابهما الزعيم بهدوء تام: لم أسمع الرئيس يذكر اسمي. ولاحظ الرئيس حديث الأستاذين مع الزعيم فسأل مستوضحاً فأجابه الأستاذ أبو شهلا: إنّ الـمقصود بالـمناداة حاضر ولكنه لا يجيب لأنه يقول إنه لم ينادَ باسمه.
فسأل الرئيس: ما اسمه؟
فقال الزعيم لـمحامييه ليبلّغا الرئيس: إسمي أنطون سعاده.
فنظر الرئيس في وجه الزعيم الهادىء ثم أمر الكاتب بتصحيح الإسم وصدرت الـمناداة من جديد: أنطون سعاده!
فنهض الزعيم وأجاب: حاضر!
وشخصت الأبصار إلى هذا الفتى الذي فرض شخصيته وطريقة تفكيره على الـمحكمة منذ أول احتكاك بينه وبينها.
فسأل الرئيس الزعيم: هل تفهم الفرنسية فأجاب الزعيم نعم. فأخذ الرئيس يشرح قضية الـحزب بالاستناد إلى التقارير والوثائق التي بين يديه.
خلاصة شرح الرئيس أنه قد اكتُشف أمر الـحزب السوري القومي وتبيّن أنه يعمل سراً لأمور ثوروية ولتغيير شكل الـحكم في البلاد، وتعريض سلامة الوطن ولـمنع أعضاء الدولة في لبنان من مـمارسة حقوقهم الـمدنية، وأنه يحرّض على كره الفرنسيين مستشهداً على ذلك، بكتاب مرسل من الرفيق جورج حريكة الذي كان طالباً في الهندسة الزراعية في كلية طولوز، فرنسة، إلى الزعيم. وزاد الرئيس إنّ الثورة كانت تتهيأ بدليل الـخرائط وتدابير التشكيلات الـحزبية البديعة التنظيم، ولكن أعوز الـحزب الـمال لتحقيق أغراضه، ولسدّ هذه الـحاجة قرر الزعيم إنشاء «الشركة التجارية السورية» التي صودرت أوراقها من مكتبها الكبير في شارع «فوش».
وخص الرئيس نظام الـحزب وتشكيلاته بدراسة مستفيضة. فقال إنّ ترتيب التدرج من الـمديريات إلى الـمنفذيات إلى العمد إلى الزعيم هو ترتيب هرمي الشكل، وإنه مبني على رأي الـمفكر السياسي الفرنسي سياس، وبهذا التحليل أراد الرئيس أن يزيل عن الـحزب كل فكرة ابتكار أصلي، وأن يردّ أصول تفكيره إلى مصدر فرنسي. أما تشكيلاته وطريقة التنفيذ الـحزبية فقال إنها من أدق وأكمل ما عرف حتى اليوم. ورجّح الرئيس أنها منقولة أو مستمدة من أنظمة نشأت حديثاً في أوروبة.
وختم الرئيس شرحه بتوكيد التّهم على الزعيم بتأسيس الـحزب والعمل سراً ضد القوانين النافذة. وبإلقائه الـخطب وعقده الاجتماعات السرية. وبأنه الباعث والـمحرك الأول الـمسؤول عن جميع هذه الاتـجاهات الرامية إلى توليد كره للمفوضين الفرنسيين، وتغيير شكل الـحكم، وتعريض وحدة الأرض، وتعطيل حقوق أعضاء الدولة الـمدنية وغير ذلك. ثم قال إنّ للزعيم الآن حق الكلام والدفاع عن نفسه ولكنه يرغب إليه وإلى جميع الـمتهمين أن لا يحوّلوا الـمحكمة إلى منصة خطب إهاجة وتـحريض، وأن يحصروا كلامهم في الوجهة القانونية الـمشتملة عليها الدعوى.
كان الرئيس في أثناء شرحه الطويل يسأل الزعيم بين الفينة والفينة هل يتبع الشرح، وكان الزعيم يجيب بالإيجاب. ولـما رأى الزعيم أنّ الشرح يطول ويتناول نقاطاً متعددة أشار إلى الأستاذ حميد فرنـجية، الذي كان واقفاً بالقرب منه إلى جانب الـحظار، أن يعطيه ورقة فلم يفهم الـمحامي إشارته فأكبّ الزعيم بسرعة من فوق الـحظار ومد يده وانتزع من دفتر الأستاذ فرنـجية عدة أوراق أخذ يدوّن عليها ملاحظاته على شرح رئيس الـمحكمة.
لـما فرغ الرئيس من شرحه وتهمه وجاء دور دفاع الزعيم عن نفسه وحزبه، سأل الرئيس الزعيم هل يريد التكلم بالفرنسية فأجاب الزعيم إنه سيتكلم باللغة القومية. فطلب إليه الرئيس أن يتكلم باللغة الفرنسية لأنه يحسنها. فقال الزعيم إنّ الـموضوع دقيق وتـمكّنه من لغته القومية يجعله أقدر على التعبير عن رأيه بدقة ارتـجالاً، فألحّ الرئيس على الزعيم أن يتكلم بالفرنسية، فأجابه الزعيم ذلك الـجواب الذي هز الـمحكمة والـجمهور وتـجاوب صداه في طول سورية وعرضها.
«حضرة الرئيس، إني سوري وفي بلادي، وإني أقود حركة تـحريرية ترمي إلى إقامة السيادة القومية وجعلها مطلقة، فلست أقبل أن أُحمل على الكلام في بلادي بغير لغتي!»
كانت عبارة الزعيم صريحة، قاطعة فلم يسع الرئيس إلا القبول. وعلى الأثر جرى شبه مفاوضة بين الزعيم والرئيس كان الأستاذ أبي شهلا الـمترجم فيها للاتفاق على كيفية ترجمة كلام الزعيم إلى الفرنسية. وفي الأخير تقرر أن يتكلم الزعيم وأن يتولى الترجمة كاتب الـمحكمة، وأن تكون الترجمة بعد كل جملة أو عبارة تامة الـمعنى. إنها طريقة سقيمة تعرقل الـخطاب ولكن لم يكن بد منها إذا كان يجب إظهار قضية الـحزب السوري القومي الاجتماعي تـجاه التّهم وشروح القضاء الأجنبي.
إبتدأ الزعيم خطابه الـمحكم:
حضرة الرئيس،
إنّ الكلام الذي سأقوله الآن سيكون ضمن الـحدود التي تكرّمتم بالإشارة إليها. إنّ كلامي لن يكون وسيلة دعاوة للحزب، ولكنه سيكون كلاماً يتناول نظريات لا بد من تفصيلها لإيضاح العمل الذي قمت به. وإذا اتفق أن ورد في كلامي ما يتعلق بالعاطفة والشعور أكثر من تعلقه بالعلم والعقل، فإني موقن أنكم ستقدّرون الدافع إليه تقديراً صحيحاً وأرجو أن تـجدوا لي العذر فيه.
تأسيس الـحزب وصفته السرية
قد اعترفت، في جميع أدوار التحقيق ومن بادىء الأمر، وأكرر الاعتراف الآن بأني وضعت مبادىء الـحزب السوري القومي ودعوت إلى تأسيس الـحزب عليها. وقد أسسته بالفعل وقمت على إدارته بـمساعدة معاونيّ الذين اشتركوا معي في العمل كل حسب صلاحيته. ومع أني أسست الـحزب سراً، واتخذت جميع التدابير والاحتياطات لإبقائه سرياً ما أمكن، فصفته السرية كانت موقتة كما تنص على ذلك إحدى مواد دستوره (الشائع الـمحقق أنّ الـحزب السوري القومي نشأ سراً وبقي سرياً يـمتد وينمو بالدعاوة السرية. وقد اتخذ القضاء الأجنبي هذه الصفة الـموقتة حجة لتأييد تهمته أنّ غاية الـحزب ومراميه غامضة، ومتجهة إلى الـمؤامرة والإخلال بالأمن. فكان جواب الزعيم فاصلاً. فلم يقتصر على ردّ تلك التهمة الباطلة بل تعدَّى ذلك إلى الإشارة إلى مرمى الـحزب الـخطير ونزعته الصريحة وهي: إنّ الصفة السرية للحزب هي وقتية فقط، إلى أن يقصد الـحزب أن يعلن نفسه في الوقت الـمناسب لأن غايته الأولية هي أن يكون حركة الشعب السوري العامة. وهذه غاية واضحة عظيمة تشهد بسمو نظرة الـحركة السورية القومية الاجتماعية وخطورة مطامحها).
وبـما أنه لا يـمكن الفصل تـماماً بين النظرة العامة على الـحزب والنقاط الـخاصة التي ذكرت على منبر رئاسة الـمحكمة فسأتناول الـموضوع في مجموعه ومفصلاً بالنسبة إلى التّهم الـموجهة إليّ:
تعطيل وحدة سورية الـجغرافية
إني متهم بخرق وحدة البلاد الـجغرافية وانتهاك حرمة الأرض.
فأراني مضطراً، علمياً لا بالعاطفة، للقول: إنّ خرق وحدة وطننا الـجغرافية وانتهاك حرمة أرضنا قد تـمّا بالفعل في سان ريـمو وسيفر ولوزان. والـمسؤولون عن ذلك هم غير الـحزب السوري القومي.
(إنقض هذا التصريح الـخطير على الـمحكمة الـمتزعزعة الـموقف انقضاض الصاعقة. ولو أنّ قنبلة انفجرت في قاعة الـمحكمة لـما أحدثت التشنج والاضطراب اللذين أحدثهما. إنقلبت الأمور كما بسحر ساحر. صار الـمدافع مهاجماً والـمتهَم (بفتح الهاء) متهِماً (بكسر الهاء) وصار الـمهاجم مدافعاً والـمدعي مدَّعى عليه! فانتفض الـمدَّعي العام الأستاذ فورنياه كمن مسّته الكهرباء، حين سمع ترجمة تصريح الزعيم الـجريء، وقام يتعرض باعتباط ويقول إنّ الـمدّعى عليه قد تـجاوز حدود الدفاع إلى أمور سياسية لا ينبغي سماعها ولا دخل لها في الدعوى. وأيَّد رئيس الـمحكمة قول الـمدعي العام. فردّ الزعيم على موقف الادعاء العام ورئاسة الـمحكمة قائلاً: «إنّ قضيتنا، يا حضرة الرئيس ويا حضرة الـمدّعي العام، هي كلها سياسية. فنحن لسنا هنا لأننا لصوص أو قطاع طرق. بل لأننا حركة سياسية - اجتماعية! وهذه التّهم الـموجهة إليّ أليست كلها تهماً سياسية فكيف لا يجوز لي أن أتناول نقاطاً سياسية وأردّ على تهم سياسية. وبعد فإن ما أقوله هو حقيقة تاريخية ففي مؤتـمر سان ريـمو الـمشهور تـم اقتسام بلادنا وتـمزيق وحدة وطننا، وفي معاهدة سيفر ومعاهدة لوزان أنزلت بقية الضربات على وحدتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وإيضاح هذه الـحقيقة هو من حقي ومن واجبي ليس فقط دفاعاً عن نفسي تـجاه التّهم الـموجهة إليّ، بل دفاعاً عن وحدة وطني وحق أمتي!» فلمَّا سمع الـمدعي العام هذا القول إزداد توتر أعصابه واشتد هياجه. وظهر أنّ رئيس الـمحكمة أيضاً خرج عن هدوئه. وكثر اللغط بين الـحاضرين وكثيرون كانوا قاعدين فوقفوا. وتدخّل الرئيس في هذا الـجدال وصار يلح على الزعيم ويرجوه أن يغيّر الـموضوع. وأخذ جانبه أيضاً الـمحاميان عن الزعيم الأستاذان حميد فرنـجية وحبيب أبو شهلا، وصارا ينصحان الزعيم بالعدول عن هذه النقطة من أجل سير الدعوى بهدوء ومنعاً لإغضاب الفرنسيين وإلـجائهم إلى الشدة!! وبعد أخذ وردّ أدلى أثناءه الزعيم بوجهة نظره وموقف حزبه في هذه الـمسألة أعلن أنه اكتفى بـما قال، وأنه ينتقل إلى الـمسائل الأخرى، ولكنه أظهر عدم رضاه عن الترجمة وعن كيفية إجرائها بصورة تقاطعه في خطابه. والصحيح أنّ الترجمة كانت تأتي سقيمة ومشوَّهة. وأيّد الأستاذ أبو شهلا شكوى الزعيم وقال عن الترجمة إنها «فرنكو - شنواز» أي فرنسية - صينية. وبعد مداولة جديدة تقرر أن يخطب الزعيم بلا مقاطعة، وأن يدوّن الكاتب كلامه ثم يترجمه بتأنٍ ويلقي ترجمته بعد إعدادها كلها. فعاد الزعيم إلى الكلام).
تغيير شكل الـحكم
أنتقل، بناءً على رغبة الرئيس، إلى نقطة جديدة، أعني قصد تغيير شكل الـحكم.
إن تغيير شكل الـحكم الـحاضر قد يكون واجباً وضرورياً لـمصلحة البلاد. فرغبات كل جماعة وحاجاتها تتطور مع الزمن. وهذه القضية التي تشغل عقولنا كثيراً لم يقرر الـحزب شيئاً نهائياً في صددها. فلا يـمكن أخذ الـحزب بشيء من هذه الناحية.
(هذا التصريح هو من أجرأ الأقوال وأقواها في القضايا السياسية الكبرى في العالم. فالزعيم لم يفشل تـجاه التهمة الـخطيرة الـموجهة إليه ولم يتراجع قيد حبة في عزيـمته. إنه اكتفى بتجريد هيئة الـمحكمة من كل حجة قانونية على الـحزب، ولكنه أثبت عدم رضى الـحزب السوري القومي عن النظام القائم في البلاد الـمضيّع حقوق الأمة وعن أشكال الـحكم الطائفي غير الـمستند إلى سيادة الأمة وإرادتها الـمطلقة. فأطلق الزعيم بتصريحه قول الـحزب وعقد لسان الـمحكمة).
إستقلال التفكير القومي
فيما يختص بالاستنتاج الذي ينسب إلى الـحركة التي أقوم بها تقليد حركات أوروبية، أقول: أن لا تقليد عندنا مطلقاً ولسنا مـمن يتبعون إشارات وإرشادات الغير. وبعبارة أوضح، لسنا تـحت تأثيرات عامل أجنبي. ومن الوثائق التي صارت في حوزة الـمحكمة يتضح أننا نقاوم التأثيرات والدعاوات الأجنبية.
(من أهم الوثائق التي يشير إليها الزعيم خطابه في أول يونيو/حزيران سنة 1935
قبل اكتشاف القوة الـمتسلطة في البلاد أمره بـما يزيد على ستة أشهر. وقد صودرت نسخ من هذا الكتاب وضمت إلى أوراق الدعوى).
أمَّا ما يظهر في قوانين الـحزب من دلائل الروح الهجومية فقد قلت في استنطاقي إنّ الـمبادىء الأساسية، التي تشكّل التعاليم الرئيسية للحزب، هي الشيء الثابت، الراهن، الراسخ. وما بقية مواد القوانين إلا وسائل علمية قابلة للتغيير والتحوير. وفي يد الـمحكمة الآن أدلة تثبت أننا كنا على وشك تعديل هذه القوانين.
وأما ما يتعلق بـمسألة كثرة أعضاء الـحزب الـمنتمين إلى الـمهن الـحرة وطبقات العمال فأقول بأن لـجميع أبناء أمتي كل الـحرية في مـمارسة حقوقهم الـمدنية والسياسية والاشتراك في الأحزاب التي يعتنقون مبادئها. وإننا لا نرى سبباً لـمنعهم من الدخول في حزبنا الذي هو حزب الشعب كله.
وإذا كان الأعضاء ذوو بعض الـمهن قد برهنوا على شدة غيرتهم وتـحمسهم لقضية الـحزب وعلى فوائد عملية لـجهادهم، فذلك يرجع إلى استعدادهم لقبول فكرة الـحزب، وإلى نـجاح هذه الفكرة بينهم وإلى كثرة عددهم. وعنايتنا الـخاصة بهم ليست وليدة السعي لاكتساب تأييدهم في الـمهمات التي يريد الـحزب القيام بها فقط، بل هي ناتـجة بالأكثر عن بعض مبادئنا الإصلاحية الرامية إلى تـحسين الـحالة الاجتماعية - الاقتصادية الـمؤسفة التي يئن منها الشعب.
الـحقوق الـمدنية والسياسية
تناول حضرة الرئيس، فيما تناول، مسألة مـمارسة أبناء البلاد حقوقهم الـمدنية والسياسية. وقد استنتج في شرحه أنّ الـحزب السوري القومي يحرم الناس من مـمارسة هذه الـحقوق. ولـما كانت هذه الـمسألة هامة جداً من وجهة نظر الـحزب فإني أعود إليها لأردّ على كلام الرئيس.
إنّ تأسيس الـحزب السوري القومي قد تـمّ في ظروف خاصة أوجبت الأسلوب والصيغة اللذين اتصف بهما. والـحالة التي أوجبت نشوء الـحزب على هذه الكيفية هي ظروف البلاد الـحالية التي تضع مانعاً غير حقوقي يحول دون مـمارسة أبناء البلاد حقوقهم الـمدنية والسياسية. فالأمة الـمعترف باستقلالها وبأهليتها لهذا الاستقلال، وتـمنع فيها الـحرية التامة في إبداء الآراء السياسية والعقائد القومية - الأمة التي تخلو من منبر عام ومن حرية تشكيل الأحزاب السياسية هي أمة تـحيا، ولا شك، في ظروف غير اعتيادية. والظروف غير الاعتيادية تقتضي نهجاً غير اعتيادي. وإني أسست الـحزب السوري القومي لتمكين أبناء أمتي من مـمارسة حقوقهم الـمدنية والسياسية الـمحرومين منها، بحرّية وليس لـمنعهم من مـمارسة هذه الـحقوق.
(هذه نقطة انتصار آخر من انتصارات الزعيم في هذه الـمعركة العظيمة الدائرة بين الـحق والباطل الـمتنكر بزي الـحق. إنّ التهمة التي وجّهها رجال القضاء الأجنبي إلى الزعيم بأنه أنشأ الـحزب سراً، وابتكر له هذا النظام الـمحكم والطريقة البديعة بقصد حرمان أبناء الشعب من حرية الرأي والقول والانتخاب وغيرها قد ردّها الزعيم عليهم. فهو قد أوضح في تصريحه الـمتقدم أنّ السلطة الأجنبية التي أصدرت قوانين استبدادية تـحظر فيها تأليف الأحزاب، وتـمنع حرية الاجتماع وإبداء الرأي ونشر الآراء هي التي تـمنع أبناء الشعب السوري من مـمارسة حقوقهم الـمدنية والسياسية، وإنّ من أغراضه، حين عزم على إنشاء الـحزب السوري القومي، أن يعيد إلى أمته هذه الـحقوق التي سلبها الأجانب، وإنّ نظام الـحزب وتشكيلاته وقوانينه هي لضمان إعادة الـحقوق القومية الـمسلوبة وضبط مـمارستها في ما يؤول إلى الـخير القومي العام ولـمنع مفاسد الفوضى والـخلو من الشعور بالـمسؤولية ولصيانة تدابير الـحزب وإجراءاته من الإفشاء والشيوع، ثم تابع الزعيم:)
لولا هذه الظروف وضرورة اتّقاء الـحزب مقاومة الـمؤسسات والقوات الـمعاكسة لهذه النهضة لـما كان ثمة مانع من نشر الـحزب وإعلان أمره في الـحال. وأصرف النظر عن تفصيل عوامل أخرى دعت إلى كتمانه.
قد يقال إنّ الأمة تـحيا في ظلال حريتها، وإنها تـمارس حقوق سيادتها بواسطة مجالسها النيابية. وأجدني مضطراً للتصريح في هذا الصدد أنّ السيادة الفعلية وحقوق مـمارستها هي في الشعب دائماً. فإذا أقيمت حواجز تـمنع الشعب من مـمارسة حقوقه كان واجباً عليه أن يبتكر أسلوباً يتغلب به على هذه الصعوبة. وهذا هو تـماماً ما فعلناه بإنشاء الـحزب السوري القومي سراً، وعقدنا الاجتماعات السرية وتنظيم صفوفنا وأعمالنا بهذه الدقة وهذا الضبط.
إنّ حقوق سيادتنا معترف بها رسمياً بنصوص إنترناسيونية. وهي معترف بها من قِبل الدولة الـمنتدبة أيضاً. وإنّ حالتنا تـحت الانتداب لتضع علينا مسؤولية خطيرة جداً أريد أن ألفت إليها النظر بصورة خاصة وهي: إنّ الانتداب وجد ليعطينا الـمساعدة والـمشورة الإداريتين، وهذا يحتّم أنّ ما وراء ذلك من الصلاحيات هو حقوق محفوظة للشعب الـمعترف باستقلاله. فإذا كان الانتداب للمساعدة، كما ذكرت، فالواجب الواقع علينا، نحن الـمنتدب علينا، هو واجب النمو القومي - نـمو النضج الـحقوقي والقوة القومية على أساليب تـحفظ لنا روحيتنا الأصلية. ونحن، بإنشائنا الـحزب السوري القومي، نقوم بهذا الواجب ونعاون الدولة الـمنتدبة في مهمة الترقية. نحن نؤدي هذه الـمعاونة بالارتقاء بأنفسنا والاضطلاع بـمسؤولياتنا.
(هذه أول مرة يحدد لنا فيها مفكر قومي ماهية الانتداب وحقيقته وحدوده هذا التحديد الـحقوقي الدقيق، ويظهر للشعب السوري واجبه وكيفية القيام به. وقد أظهر هذا التحديد عمق نظر الزعيم في القضايا الـحقوقية والسياسية القومية والإنترناسيونية وسموّ الروحية التي ينظر بها في هذه القضايا. وبهذا التحديد الـجلي أوقف الزعيم القضاء الأجنبي عند حدود لا يـمكنه تـجاوزها من غير التعرض لفضيحة مخزية تزيل الهيبة التي يحاول بجميع الوسائل الـممكنة الاحتفاظ بها تـجاه الشعب السوري الـمنتدب عليه وتقويتها في عينيه. ولا حاجة للإفاضة في أنّ هذا الـموقف العظيم الذي وقفه الزعيم تـجاه ادعاءات القضاء الأجنبي جعل سيطرة نظرة الـحزب السوري القومي على مجرى القضاء سيطرة تامة).
نفي مبدأ كره الأجنبي
ليس في حركتنا مبادىء كره للأجنبي. فنحن لا نعمل بالـمبدأ الـمعروف في العالم «بالكسنفوبية» ولا تدفعنا دوافع «الشوفنزم». كلا.
إنّ مبادئنا تعميرية بحتة وغرضنا جعل بنائنا الاجتماعي متيناً وجميلاً.
البواعث على إيجاد الـحزب
إنّ البواعث الإيجابية التي دفعتني إلى إنشاء الـحزب، عدا ما قلته في صدد مـمارسة حقوق السيادة، هي وضع حد لفوضى العقائد القومية في الـمجتمع السوري وتوحيده في عقيدة كيانه ومصلحته، وصرفه عن التخيلات العقيمة والأوهام الاتكالية إلى التفكير العملي والعمل والنهوض بالذات، وتعويد النشء خصوصاً مـمارسة الـحقوق والواجبات القومية والفضائل التي توحّد الـمجتمع وترقّيه في نظرياته وأنظمته، وقيادة النشء إلى النظام والتمرن على استخدام مواهبه في سبيل ترقية أمته وفي سبيل معرفة الواجبات العامة والاضطلاع بالـمسؤوليات.
من أجل تـحقيق هذه الغاية جزمت في جعل الـحزب كله «ميليشيا» منظمة يتعلم فيها الشباب فضائل الـجندية ويتهيأون للعمل والتضحية، بدلاً من الانصراف إلى أوهام الكسل والـخمول، هذا هو الدافع الأولي لإنشاء هذه الدائرة الـخاصة التي سميت «عمدة الـحربية».
لقـد أردنـا النظــام، والنظــام لا يكــون بلا قوانيـن ولا يتـم إلا بتعييـن الـحقــوق والواجبـات.
الوقاية من الـمشاغبات
النظام من طبيعته الابتعاد عن الـمشاغبات. ففي كل الـمدة التي مضت على إنشاء الـحزب السوري القومي حتى الآن لم يقم هذا الـحزب بإحداث أي شغب، بل قد كان الـحزب مانعاً وواقياً من الـمشاغبات الـمخلّة بالأمن العام، بفضل متانة نظامه وتنظيم قواه وإخضاع قواته لتهذيب وتأديب دقيقين.
إنّ للحزب السوري القومي غاية فوق الـمشاغبات الاعتباطية. وإلى هذه الغاية السامية أردت توجيه قوى شبيبة أمتي ضمن نظام الـحزب وتـحت تأثير تعاليمه.
تشجيع تنوع الـمزايا
أنتقل الآن إلى بحث نقطة تتعلق ببعض ما هو مكتوب في مذكراتي الـخاصة وبعض رسائل واردة إليّ.
الـحزب من حيث هو مجموع أفراد تتنوع مزاياهم ومواهبهم، لا يـمكن تـحديد تفكير كل فرد من أعضائه بطريقة تفكير زعيمه في جميع الـمسائل والقضايا الـجزئية أو التفصيلية، أي أنه لا يـمكن جعل تفكير كل فرد من أفراده نسخة طبق الأصل عن تفكير زعيمه.
الـحزب يجمع عناصر متنوعة ولا يـمكن القضاء على هذا التنوع ولا يجوز تشجيع قتله. هذه الـحقيقة توضح مسألة الرسائل التي كانت تردني بين حين وآخر ووصل بعضها إلى هذه الـمحكمة. فقد وردتني رسائل بعضها من شباب متقدين غيرة ومتحمسين للسيادة والاستقلال القوميين، وبعضها من شباب تعلّموا في الـمدارس السياسية القديـمة أنّ السياسة هي فقط في كره الأجنبي، ولذلك صاروا يتصورون أنّ كل عمل قومي سياسي لا يـمكن أن يقوم إلا على كره الأجنبي.
ومن هـذه الرسائـل ما كـان يـرد عليّ ملحّاً بالإسـراع في اتخـاذ تدابير حربيـة واحتياطـات مسلحة، باعتبار أنّ الـحرية بدون قوة تصونها هي شيء خدّاع كالسراب. ويجوز أن يكون غالب هذه الرسائل قد كتب تحت تأثير سحر الـمظاهر العسكريـة الـمسلحـة.
مهما يكن من ذلك فإني لم أكن أرى واجبي يسمح برمي هذه الرسائل في سلة الـمهملات والاستخفاف بتفكير أصحابها، بل كنت أرى الاحتفاظ بها لدرسها وإعطاء التوجيهات الـمصححة التفكير الوارد فيها. لذلك كنت أسجل في مذكراتي كل نقطة هامة ترد في رسائل الأعضاء وأرى فيها ما يستدعي الاهتمام. وإذا كنت قد أجبت بعض الأعضاء مثنياً على غيرتهم وشاكراً لهم اهتمامهم بـما يؤول إلى نـجاح القضية فلا أرى في ذلك جريـمة.
(بهذا الـجواب ردّ الزعيم على استنتاجات رئيس الـمحكمة الـخاطئة من رسالة الرفيق جورج حريكة من فرنسة الـحاملة على فرنسة وسياستها في وطننا، وبعض رسائل أخرى تطلب جمع السلاح بسرعة. وأهم نقطة تـمسك بها رئيس الـمحكمة هي أنّ رسالة الرفيق حريكة تدل على نوع التعاليم التي يلقن الزعيم أتباعه العمل بها. وتطرّق الزعيم بعد ردّه الوارد آنفاً إلى مسألة الشركة التجارية السورية التي لم يقع في يد الـمحكمة سوى الأوراق التمهيدية لها فقال:)
هناك نقطة تتعلق بإصدار مرسوم بإنشاء شركة تـجارية تـمد الـحزب وتغذيه وتسد حاجاته الـمالية. إنّ الورقة الـمكتوب عليها هذا الـمرسوم ليست ورقة حزبية رسمية ولا تـحمل توقيعاً ما. ولذلك هي عديـمة القيمة.
أما الرسالة الـمنسوبة إلى السيد أسعد الأيوبي فأقول إنها لم تنشر بقرار حزبي أو بواسطة الـحزب وهي لم تعرض عليّ بصفة رسمية. فإذا كنت أظهرت بعض الاستحسان لها فذلك رأي إجمالي شخصي. ولذلك لم أتبنّ هذه الرسالة.
السلاح والفدائية
من جملة النقاط الواردة في دفتري مسألة السلاح ومسألة فِرَق الصيانة والفِرَق الفدائية في الـحزب.
في هذا الصدد أقول إنّ هذه الـمسائل هي من جملة أفكار وآراء وخواطر كنت أدوّنها لتحليلها ودرسها من جميع وجوهها. ولكني أقول بصورة قاطعة إنه لم يكن لدينا في الـحزب مستودع نـجمع فيه السلاح ولا رجال مخصصون لجمع السلاح، ولم يتجمع لدينا سلاح ولم نستعمل السلاح.
الـحزب ضد الدعاوات الأجنبية
أختم كلامي مكرراً إنّ الـحزب خالص من كل نفوذ أجنبي، وخطابي الرسمي الـموجود الآن بين يدي الـمحكمة يقيم البرهان القاطع على أننا ضد الدعاوات الأجنبية نحاربها بكل قوانا، وإننا نعمل لاستقلالنا بصفتنا أمة معترفٌ بأهليتها للسيادة وبحقها فيها.
إنّ الـحزب السوري القومي هو حزب تعميري نظامي بحت وهو يعمل بجميع الوسائل الـمبتكرة لتمكين أبناء الأمة السورية من مـمارسة الـحقوق الـمدنية والقومية في ظروف حرجة.
ولم يكن القصد أن يكون هذا الـحزب سرياً دائماً. فهو ليس جمعية إرهابية، ولا هو مجموعة أفراد محدودة عقائدهم تتعلق بهم وتقتصر عليهم.
مبادئنا هي مبادىء قومية عامة لأمة بأسرها، ونحن ننتظر إقبال العموم عليها، لأن التعمير من جهات أربع: الاجتماع والاقتصاد والنظام والسياسة، هو عمل جدير بأن يجد التأييد اللازم ووجوده ضروري وواجب، وهو ضمن نطاق جميع الـحقوق الـمدنية والسياسية للشعوب الـحرة.
وإني أشكر حضرة الرئيس لسماحه لي بالوقت الكافي لإبداء هذه الإيضاحات وآسف لأني لم أتـمكن من إجابة طلبه إليّ أن أتكلم باللغة الفرنسية.
(فرغ الزعيم من خطابه الساعة الثانية عشرة تـماماً، وكان كاتب الـمحكمة ومخبرو الـجرائد قد دوّنوا كلامه تدويناً تقريبياً. فالزعيم كان يتدفق في بعض النقاط تدفقاً فلم يـمكن أخذ عباراته بحرفيتها. وبـما أنّ الوقت كان ظهراً، رأى رئيس الـمحكمة رفع الـجلسة للغداء ولإعطاء كاتب الـمحكمة الوقت الكافي لوضع الترجمة الفرنسية. فلما رفعت الـجلسة وانسحبت هيئة الـمحكمة، تعالى هتاف القوميين والناس الـموجودين في القاعة بحياة الزعيم، وأقبلت الـجماهير تشكر الزعيم على دفاعه الـجريء القوي الذي رفع رأس سورية بعد أن كان منخفضاً.
ومن أروع مظاهر هذا الـحدث العظيم الذي نفخ روح الثقة في أمة يائسة أنّ عدداً من السيدات اللواتي حضرن الـجلسة تقدمن إلى الزعيم، وهو بعد واقف في مكانه، يـمددن إليه أيديهنّ، فمدّ الزعيم يده إليهنّ فتناولها بعضهنّ وجذبنها إلى أفواههنّ يردن تقبيلها، ولم يـمكن الزعيم جذب يده قبل أن وقعت عليها بعض قِبَل فيها كل معاني الشعور باليقظة.
في اليوم التالي ظهرت صحف بيروت تـحمل كبراها خطاب الزعيم فحدث من جرائه ذاك الاهتزاز العظيم في طول سورية وعرضها فانفتحت قلوب كثيرة للإيـمان القومي الاجتماعي الـجديد الذي أعلنه ونشره أنطون سعاده.)