مضى في أول أبريل/نيسان الـمنصرم مئتا سنة وسنة على ولادة الـموسيقي الكبير يوسف هيدن، واضع قواعد الـموسيقى الكلاسيكية الفيينية (نسبة إلى فيينة)، ولقد نبَّه مرور قرن ثانٍ على ولادته خواطر الدوائر الـموسيقية في العالم إلى محل هذا الرجل من الفن العالي وخدمته إياه خدمة تدعو إلى التقدير والإعجاب. وليس من العجب أن يفهم العالم هذا الـموسيقي الكبير الآن أكثر مـما فهمه عصره، لأن يوسف هيدن كان من الأشخاص الذين لا يـمكن تقدير قيمة العمل الذي يعملونه إلا من خلال التاريخ.
كان يوسف هيدن إبن عامل فقير، وكان عدد إخوته اثني عشر. فلما بلغ الثامنة من عمره دخل مرتلاً في كاتدرائية القديس أسطفان في فيينة. ولم يحل نـجاحه في الغناء وظفره باستحسان الإمبراطورة صوته دون استمرار جوعه، وكان في شيخوخته يذكر بسرور كيف كان يغني بعض الـخبازين غناءً جميلاً ليعطيه خبزاً، وكيف كان أحياناً يخرج من بعض بيوت ذوي اليسار، بعد غنائه، وقد ملأ جيوبه «معكرونة». كان الغناء في الشوارع والبيوت عملاً ضرورياً لـمعاشه. ثم أجريت له عملية لترفيع صوته صيّرته غير صالح للاشتراك في الأجواق. ومن ثم صار يعتمد في تـحصيل رزقه على إعطاء دروس خصوصية والضرب على البيانو في بعض الأحيان، وكانت حياته في هذا الدور حياة تنقّل مـملوءة بالـمصاعب والهموم، وظلت هذه حاله إلى أن اتصل في سنة 1759 بنبلاء النمسة والـمجر الذين كانوا، في ذلك الـحيـن، السند الأولي للموسيقى. فدخل في سنة 1761 مديراً لـجوقة الأمير استرهاتزي وبقي حتى سنة 1789 فكان يصرف أيام الصيف في أملاك هذا الأمير وأيام الشتاء في فيينة. وكان قبل ذلك قد تزوج ولكنه بعد زواجه أحب أخت امرأته وكان زواجه سبب شقاء له لا سبب سعادة، لأن امرأته كانت، على ما يظهر، لا يهمّها من أمر مؤلفاته الـموسيقية إلا أن تتفق مع تعقيص شعرها وتزييـن وجهها.
في تلك الـحياة الهادئة ابتدأ صيت هيدن ينمو حتى عمَّ أوروبة. لم يكن نبوغه من ذلك النوع الذي يدخله محيط العالم الواسع بواسطة إبداعه في الـمؤلفات، بل من النوع الآخر الذي ينمو بالعمل الهادىء الطويل الـمستمر وهو ما صيّر هيدن ما هو. لم يكن لنوع عمله أقلّ شبه بالاختلال العبقري الذي هو من مزايا نبوغ موزارت أو بيتهوفن: فهو كان يسير في عمله بـموجب برنامج حدد فيه أوقات العمل، ولم يكن يجلس للتأليف إلا وهو بلباسه الرسمي وبعد أن يكون قد حضر القداس الكنسي. كان عمله قانونياً نظامياً، ليس فيه شيء من اختلال العبقرية التي لا تعرف الترتيب ولا النظام. ومؤلفاته نفسها لم تكن نتيجة عوامل داخلية فيه بقدر ما كانت نتيجة أسباب خارجية مـما كانت تقتضيه جوقة الأمير والتوصيات. ولقد سئل هيدن يوماً لـماذا لم يؤلف في حياته قطعة موسيقية لـجوقة أوتار خماسية فأجاب بكل بساطة «لم يطلب مني أحد قطعة من هذا النوع»! ومع أنّ في هذا القول ما يدعو إلى العجب فالغريب أنّ كثيرين من الـموسيقييـن قبله كانوا يسيرون على هذه الـخطة، حتى أنّ يوحنا سباستيان باخ الـموسيقي الروحي الـخالد كان يتّبعها وهو قد اتّبعها في نظم أبدع قطعة موسيقية طلبت منه للقداس الكاثوليكي. وقد حبانا اجتهاد هيدن الهادىء بثروة لا يستهان بها ولا يـمكن الإغضاء عنها مؤلفة من 150 سيمفونية و83 رباعية 24 ثلاثية ومثلها من الكنسيات و44 لـحناً للبيانو و15 قداساً و19 أوبرا وتـمثيلاً غنائياً و5 تسابيح وعدد كبير من الأناشيد.
إنّ أهمية هيدن قائمة في دائرة الآلات الـموسيقية: فالرباعية الوترية والسيمفونية هما في شكلهما الـحالي من صنعه في النسق، وموزارت وبيتهوفن اللذان كانا تلميذيه (وإن تكن تلمذة بيتهوفن قصيرة الأمد) يقفان بـمؤلفاتهما في هذا النسق على كتفيه. أما في التمثيل الغنائي والأوبرا فمن الـمحتمل أن يكون قد دخل عليهما تطور جديد. ولكن التسبيحتيـن «الـخلق» و «فصول السنة» كانتا الأساس الذي استندت إليه حركة الأجواق الغنائية الألـمانية في القرن التاسع عشر، ويـمثّلان أعلى نقطة في حياة هيدن حيـن افتتح بهما قلوب الإنكليز في سفرتيه 1791 - 1792 و1794 - 1795. فقد منحته جامعة أكسفورد لقب دكتور وأغدق عليه القصر الـملوكي الإنعامات، وزاره الأميرال نلسن الشهير في ايزنشتط في سنة 1800.
كان لهيدن أخلاق طبعت موسيقاه بطابع النقاوة والإخلاص: فإن في موسيقاه ثباتاً يوازي أناقة الشعر الأبيض الأرستوقراطي، وفيها أنواع كثيرة من الفكاهة من أكثرها خشونة إلى أشدها لطافة، وهي تـمتاز بصفة السرور الداخلي الذي لم تقطعه الـحاجة.
ولـمّا عاب بعض الناس على هيدن الـحبور الـمتجلي في قداديسه أجاب «لا يـمكنني أن أغيّر ذلك. فمما عندي أعطي. إني حيـن أفتكر بالله أشعر بقلبي مـمتلئاً حبوراً حتى كأن الأنغام تـجري كينبوع. ولـمّا كان الله قد أعطاني قلباً فرحاً فهو يغفر لي خدمتي إياه بسرور.» ومن هذه الـجهة نـجد أنّ هيدن فتح الطريق لشوبرت وبروكنر، وجعل لأنغامه سبيلاً إلى قلب الشعب وليس من العبث أن يكون لـحن الأنشودة التي ألّفها هيدن للإمبراطور في الـحرب ضد نابليون الـمبتدئة بـ «إحفظ يا الله القيصر فرنتز» قد صار لـحن النشيد القومي الألـماني «ألـمانية، ألـمانية فوق كل شيء».