أشرنا في مقالة سابقة نشرناها في الـجزء الـماضي (ص 442-445 أعلاه) إلى بعض العوامل الرئيسية في تشويش نظامنا الاقتصادي، وأهمها، عوامل تـجزئة البلاد واتّباع سياستيـن اقتصاديتيـن متضاربتيـن في الشمال والـجنوب، وتـحميل الأمة قسماً لا يستهان به من ديون دولة غريبة سيطرت على هذا القطر ردحاً من الزمن سيطرة العدو على العدو، ولذلك لم يكن من العدل في شيء أن تتحمل هذه الأمة بعض تلك الديون، والآن نرى أن نخصّ القسم الأكبر من هذه الـمقالة بعامل آخر جديد ولكنه، على حداثة عهده، قد فعل حتى الآن كثيراً في التأثير على اقتصاديات الشعب تأثيراً سيئاً هو: مهاجرة أقوام غريبة إلى هذه البلاد.
إذا نظرنا في أمر هذا العامل الـجديد وجدنا أنه ينقسم إلى قسميـن واضحيـن: القسم الأول يتناول حركة مهاجرة اليهود إلى فلسطيـن والقسم الثاني يتناول مهاجرة الأرمن اللاجئيـن إلى لبنان والشام. فلننظر الآن في كل قسم على حدة:
إنّ استقراء طبيعة القسم الأول وتأثيره إلى الآن وخطره على مستقبل الشعب بالنسبة إلى هدفه يرينا أننا الآن تـجاه قضية لم نعرف لها مثيلاً، فيما سبق من تاريخنا، ولذلك ترانا لا ندرك إدراكاً تاماً مدى الـخطر الذي يهددنا في اقتصادياتنا واجتماعياتنا.
الإستيطان اليهودي: أضاف عامل الهجرة اليهودية عوائق جديدة إلى العوائق التي ابتدأت بعد الـحرب بتجزئة هذا القطر وإقامة الـحواجز من جمركية وغيرها، فإن اليهود يأتون إلى هذه البلاد مدفوعيـن بدافع فكرة قومية غرضها الظاهر إيجاد وطن قومي لهم في فلسطيـن، والغرض الـحقيقي الاستيلاء على فلسطيـن أولاً ثم الاستيلاء على بقية سورية مع مرور الأيام. فتضارب مصلحة مهاجري اليهود ومصلحة أهل البلاد أمر مفروغ منه، والذين صدّقوا في بادىء الأمر أنّ الـمهاجرة اليهودية ستوجد حركة اقتصادية تؤول إلى تـحسين الأحوال وازدهار التجارة والزراعة والصناعة قد ابتدأوا يدركون أنه إذا حدث شيء من ذلك ففائدته عائدة على اليهود وحدهم.
إنّ أهم نقطة في مهاجرة اليهود هي أنّ لهذه الـمهاجرة غرضاً معيناً هو أن يحلّ اليهود محل السورييـن في فلسطيـن وسائر سورية، وهو ما لا يـمكن تـحقيقه بالتعاون مع العنصر السوري إن في فلسطيـن وإن في لبنان والشام، بل إنّ تـحقيقه لا يتم إلا عن طريق التضييق على الـمصلحة السورية ومقاومتها لكي تضعف أمام الـمصلحة اليهودية وتتخلى لها عن السيطرة الاقتصادية في هذه البقعة وفي الشرق الأدنى كله. وهكذا نرى أنّ السبب في خسارة أسواق فلسطيـن التي أشارت إليها جمعية التجار في هذه الـمدينة ونظر في أمرها الـمؤتـمر الاقتصادي، لم يكن في التعرفة الـجمركية فقط. فلو افترضنا أنّ التعرفة الـجمركية خفضت فهل يكفل تـجارنا استرجاع الأسواق الفلسطينية والتغلب على الـمزاحمة اليهودية؟
الـمهاجرة الأرمنية: لا نعتقد أنّ الـمهاجرة الأرمنية تهدد اقتصاديات الشعب السوري بقدر ما تهددها الـمهاجرة اليهودية. ومع ذلك فلا يـمكن القول إنها لم تؤثر تأثيراً سيئاً على اقتصاديات الشعب. ذلك أنّ الأرمن جاؤوا سورية جالية واحدة كبيرة تربطها لغتها الأرمنية وعاداتها القديـمة أو الـمكتسبة في تركية أو الـمناطق الأخرى التي كان ينزلها بعض أفرادها، فكان أول واجب عليها حيـن نزولها في بلاد جديدة غريبة أن تتكاتف وتتضامن وتبقي لها صفة حياة قومية مستقلة، وهذا أمر طبيعي في انتقال جاليات كبيرة دفعة واحدة وحلولها في بلاد غريبة، ولا شك أنّ تعاون الأرمن ومزاحمتهم أبناء البلاد على الـمهن الـحرة والصناعات القليلة قد سبب أضراراً معاشية لا يستهان بها لأهل الأعمال السورييـن. وكان إدخالهم في الرعويات السورية قبل استيفاء الشروط التي تكفل اندماجهم في القومية السورية، ومع بقاء مدارسهم ولغتهم وجرائدهم، مـما سهّل لهم مزاحمة أبناء البلاد الـحقيقييـن، وكثيرون منهم قد أصبحوا في حالة مادية حسنة وجمعوا أموالاً يقدرون أن ينقلوها من هذا القطر متى أرادوا.
بيد أنّ أضرار الأرمن الاقتصادية تزول إذا اتخذت الـحكومات الوسائل الفعّالة لإزالة القومية الأرمنية بنص قوانيـن تـمنع جميع حاملي الرعويات السورية من تعلّم لغات غير اللغتيـن الرسميتيـن في البلاد واللغات الأوروبية التي يرجى منها منفعة علمية أو مادية. أما مسألة ما إذا كان من الـمستحسن إدغام الأرمن في صلب الشعب السوري فمن الأبحاث الاجتماعية التي لها حديث غير هذا الـحديث. وما زال الأرمن لا يرمون إلى تـحويل سورية إلى أرمينية ثانية، وبـما أنه لا يوجد تيار مهاجرة أرمنية مستمر فإن أضرار الأرمن الاقتصادية، على أهميتها، ليست من الأضرار الثابتة التي يخشى منها على اقتصاديات الشعب السوري.
الاقتصاد القومي: لعلَّ أعظم نقاط ضعفنا فيما يختص بشؤوننا الاقتصادية أننا لا نزال بعيدين جداً عن مبادىء الاقتصاد القومي. إننا حتى الساعة لا نفقه جيداً أنّ قضيتنا الاقتصادية قضية قومية قبل كل شيء.
إننا نعقد الـمؤتـمرات للبحث في التعرفة الـجمركية واتفاقات السكة الـحديدية، ونظن أنه متى أجريت التعديلات التي نتوخاها من هذه الوجهة، انتهت قضيتنا الاقتصادية على أحسن ما يرام. وما أبعد هذا الظن عن الـحقيقة!
إنّ الـمؤتـمرات التي يرجى من وراء عقدها الوصول إلى نتائج ثابتة في حياتنا الاقتصادية يجب أن تتناول غير مواضيع التعرفة الـجمركية واتفاقات السكة الـحديدية التي هي من الأمور الفرعية لا الأساسية. يجب علينا أن نعقد مؤتـمرات ندرس فيها موقف الشعب السوري كله هنا وفي الشام وفلسطيـن وسائر أنحاء البلاد السورية وموارده الطبيعية وكيفية استثمارها والعوامل التي تؤثر عليه ونوعها وكيفية الوقاية من أضرارها. ويجب أن يشترك في هذه الـمؤتـمرات مندوبون اختصاصيون من جميع أنحاء القطر يضعون تقارير وافية عن أحوال مناطقهم الزراعية والتجارية والصناعية. أما عقد الـمؤتـمرات لـمطالبة الـحكومات الـمشلولة بتعديل بعض التعرفات الـجمركية والاتفاقيات الإدارية فليس من الأمور التي يترتب عليها عظيم فائدة.
إنّ مسألتنا الاقتصادية يجب أن تكون مسألة شعب يريد هو أن يتولى أموره بنفسه، فيراقب الأحوال والأسواق ويدرس الأمور التي لها علاقة باقتصادياته، لأنه لا يـمكن في مثل حالتنا الـحاضرة الاعتماد على الـحكومات الـمحلية التي لا يـمكنها أن تنظر إلى الأمور إلا من وراء نظارات الوظائف في نطاق محدود جداً.
ولقد سرّنا كثيراً ما أذاعته الصحف منذ أيـام، عن عزم صنّـاع الـجلـود والأحذيـة هنا وفي فلسطيـن عقد مؤتـمر يدرسون فيه موقف صناعاتهم وطرق تعاونهم على وقايتها من مزاحمة الـمصنوعات الغريبة. ونرجو أن يعقب مؤتـمر صنّاع الـجلود مؤتـمرات اختصاصية أخرى تنتهي إلى مؤتـمر عام يوضع فيه الـموقف الاقتصادي كله على بساط البحث.
وسرّنا أيضاً ما نراه من تنبه واستعداد في الشعب للاهتمام بشؤونه الاقتصادية، والإقبال على الصناعات الوطنية وتأييد كل ما من شأنه تـحسين حالة الأمة الاقتصادية، وهذه حالة نفسية كثيرة الـموافقة للقيام بنهضة الاقتصاد القومي التي لا رجاء بتحسيـن أحوال البلاد الاقتصادية إلا على يدها.