من تكن طنجة في قبضته يكن في يده مفتاح البحر الـمتوسط، لأن من يستولي على طنجة يستولي على رأس يسيطر على جبل طارق الواقع في الشمال الشرقي.
تقع طنجة في الشمال الغربي من أفريقية على مدخل الـمضيق الـموصل بيـن الأتلنتيك والبحر الـمتوسط، أهم مضيق بحري في العالم. وهي من الوجهة الـجغرافية قسم متمم لـمراكش، ولكنها من الوجهة السياسية منطقة لها نظام خاص هو أغرب الأنظمة الـمعروفة في العالم. فقد فُصلت منطقة طنجة الـمؤلفة من الـمدينة الـمعروفة بهذا الاسم وقسم من الأرض أتبعوها به وتولّت إدارتها هيئة مشتركة من بريطانييـن وفرنسييـن وإسبانييـن، وأخيراً أضيف إليها مـمثلون إيطاليون.
ولا غرو أن تكون طنجة قد أوجبت اتخاذ هذا النظام الدولي الغريب في بابه، لأنه لا يسع إحدى الدول الـمشتركة في إدارة هذه الـمنطقة الـمراكشية القبول بسيطرة دولة واحدة عليها، لـما لها من الشأن العظيم من الوجهة الـحربية في زمن ليس للسلام فيه محل ولا معنى.
بعد أن وضعت بريطانية العظمى قبضتها على جبل طارق الـمسيطر على الـمضيق الـمعروف بهذا الاسم سيطرة تامة، اتـجهت أنظار الدول البحرية والاستعمارية إلى طنجة، لأنها النقطة الوحيدة التي يـمكنها أن تزاحم جبل طارق وأن تهدده عند الـحاجة. وكانت مطامع الدول في طنجة قبل الـحرب مقسّمة بيـن بريطانية والدول الطامحة إلى مزاحمتها في السيادة البحرية والتوسع الاستعماري، وهي ألـمانية وفرنسة في الدرجة الأولى وإسبانية وإيطالية في الدرجة الثانية. ولكن تعاظم قوة ألـمانية قبل الـحرب جعل فرنسة تقنع بـمنطقة نفوذها الـحالية في مراكش فلم تتأخر عن تلبية اقتراح السر إدوارد غراي الذي قدّمه هذا الوزير البريطاني إلى وزارة فرنسة الـخارجية في سنة 1911، وغايته جعل طنجة وقسم من الأرض مخصص لها منطقة خاصة خاضعة لنظام دولي، ففاز هذا الاقتراح الـخطير بوضع اتفاق تـمهيدي في سنة 1913 بيـن بريطانية وفرنسة وإسبانية، انتهى أخيراً بالنظام الذي وضع موضع التنفيذ سنة 1923. وهكذا أمّنت بريطانية على جبل طارق بوضع طنجة في حالة معقدة مسلّم بها من الدول الكبرى.
كانت إيطالية في زمن اقتراح السر إدوارد غراي في حالة تـحالف مع ألـمانية ولذلك لم تُدعَ للاشتراك في تقرير مصير طنجة. وفرنسة كانت ترغب في إبقاء إيطالية بعيدة عن قضية طنجة لكي لا تكتسب حقوقاً موازية للحقوق الفرنسية في هذه النقطة الـمهمة، لأن بيـن هاتيـن الدولتيـن منافسة استعمارية شديدة في أفريقية ومشادة قوية للحصول على الأرجحية في البحر الـمتوسط. ولكن إيطالية شددت بوجوب اشتراكها في إدارة منطقة طنجة وأحدثت بعد نهضتها الفاشستية مناورة كان لها تأثير كبير، فمالت بريطانية إلى إظهار احترام للمطالب الإيطالية وفي سنة 1928 أُدخلت إيطالية في نظام طنجة. وهكذا أصبحت الـحقوق الدولية في منطقة طنجة مشتركة بيـن أربع دول هي بريطانية وفرنسة وإيطالية وإسبانية.
يرى القارىء أنّ مسألة طنجة قد تطورت تطوراً غريباً وأصبحت على حالة هي أغرب ما يكون بالنسبة إلى الـحوادث العالـمية، فهي تدار الآن من قِبل أربع دول تشتد بينها الـمنافسة إلى حدّ خطر. ولعل هذه الـمنطقة استفادت من هذه الـمنافسة والإدارة الـمذكورة لأن الغرض منها هو أن لا تكون الـمنطقة خاضعة لـمطامح دولة واحدة.
ومن فوائد هذه الـحالة أنّ مدينة طنجة قد أصبحت عصرية في ترتيبها ونظافتها فشوارعها نظيفة ونظامها حسن والهدوء فيها على أتـمه حتى حسبها أحد الكتّاب الأميركييـن الـمدينة الـمثالية لـما تبتغيه الأمـم في العصر الـحاضر: إدارة مشتركة تعنى بالنظافة والترتيب وإصلاح شؤون العمران. وقد تكون مدينة طنجة في حالتها الإدارية مـما يبعث على مثل هذا التخيل الـجميل ويا ليت الفكر البشري كله يقف عند هذه النقطة إذاً لكان العيش أهنأ بكثير مـما هو عليه الآن. ولكن العقل البشري لا يحب البساطة ولا يقنع بالهناء ولذلك نرانا مضطرين إلى أن لا نـجاري الكاتب الأميركاني الـمشار إليه في الصورة التي انطبعت على ذهنه في مدينة طنجة، بل أن نعود إلى استقراء الأسباب العارضة التي جعلت طنجة على ما هي عليه وهو أمر لا يدوم.
لا يـمكن طنجة الصغيرة أن تُشبع مطامع أربع دول كبرى وليس فيها الـمثال الأعلى الذي يوحّد آمال البشر وأميالهم ويجمع الدول في نظام واحد تتعاون على تنفيذه. بل ما أبعد طنجة عن أن تكون مثالاً أعلى للتفاهم الدولي والتعاون الأمـمي. فوراء النظام الإداري الذي أصلح كثيراً من حالة الـمدينة تقوم عقليات متنافسة وشعور بأن هذه الـحالة الاصطناعية لا يـمكن أن تدوم. يشعر البريطاني في طنجة أنّ وجوده هناك قائم على تأييد أسطول دولته ومركزها في جبل طارق، ويشعر الفرنسي أنّ مركزه مؤيد بأهمية دولته الـحربية التي لولاها لـما كان لوظيفته في طنجة وجود، ويعرف الإسباني يقيناً أنه في تلك الـمنطقة مـمثل لأهمية دولته السياسية لا لأهميتها الـمدنية والعمرانية والإيطالي يعلم أنه لولا النهضة الفاشستية واستعداد دولته لاتخاذ جميع الوسائل الـممكنة لبلوغ مآربها السياسية والاستعمارية لـما كان لإيطالية حقوق في طنجة.
إنّ نظام طنجة قائم على التزاحم الدولي لا على التفاهم الدولي ولذلك، لا نعتقد أنه يـمكن اتخاذه مثالاً لـما قد يحدث في الـمستقبل من اشتراك الدول في إنشاء نظام دولي يضع حداً للخصومات الـحربية. أما كم يطول نظام طنجة فمسألة تتعلق بـمدة بقاء السلام العالـمي الـمتزعزع، ومن يدري ما يكون شأن طنجة في تغيير الـخريطة السياسية؟
من يعش يرَ.