الأمة والأرض: بيّنا بصورة إجمالية، فيما تقدم لنا من هذا البحث، علاقة الأمة بالعنـصر أو السلالة، وسنعود إلى هذه العلاقة متى انتقلنا إلى توضيح جميع مسائل القومية والأمة في بحثنا في الأمة السورية، وهو الغرض الأخير من هذا الدرس الواسع.
ولـمّا كنا قد تابعنا باركر الـمذكور آنفاً في قسمته الأمة إلى أساس مادي وبناء روحي وفرغنا من الإلـمام بالـجزء الـمادي الأول من الأساس الذي هو السلالة، فقد رأينا أن نتناول هنا الـجزء الثاني الذي هو الأرض أو الوطن.
إذا كان يـمكن التفريق بيـن الأمة والدولة في ظروف وأزمنة معلومة فلا يـمكن التفريق بيـن الأمة والأرض. فقد حدث ولا يزال يحدث في التاريخ أنّ أمـماً فقدت سيادتها على نفسها وخضعت لشرائع وقوانيـن دولة لم تنشأ منها، كالأمة السورية والأمة البولونية قبل الـحرب، دون أن يزول وجودها أو تفقد قوميتها. ولكن لم يحدث في التاريخ وليس من الـمحتمل أن يحدث أن تفقد أمة الأرض التي تسكنها وتتهيأ لها فيها أسباب معيشتها وبقائها ويبقى لها كيان. فحاجة الأمة إلى الأرض كحاجة الإنسان إلى الـمسكن. ولا عبرة بالـحركة اليهودية وما يحاول الكتّاب اليهود التذرع به في سبيل تبرير الـحركة الصهيونية، فاليهود ليسوا أمة، كما أنهم ليسوا سلالة، بل هم مذهب ديني له خصائص ثقافية، لا أكثر ولا أقلّ. الأمة الـحقيقية هي الأمة التي لها وطن فيه تعيش وتكيّف حياتها وتنشىء ثقافتها وتنمّي تقاليدها وأخلاقها. وباركر يقول «لو ترتب عليَّ أن أضع قاعدة لنشوء الأمة لقلت: خذ أولاً أرضاً معلومة وأضف إليها نوعاً من النظام (أو دولة) يتكفل بربط سكانها، وإذا لم يكن هنالك لغة فدع لغة ما تنمو حتى تعمَّ القوم، ثم خلِّ بعض العقائد والعبادات العامة توحّد أرواح الناس - ومن ثم تتهيأ الأمة من بوتقة الزمان وخميرة القرون.»
الـحقيقة أنه ليس للأمة كيان إلا في وطنها. بل كثيراً ما يكون الـمحيط أو الوطن العامل الأساسي في إكساب الأمة صفة معلومة تـميّزها عن غيرها. ولولا الأرض وطبيعتها وجغرافيتها لـما كان هنالك وجود لأمـم كثيرة. والباحث في وجود الأمة البرتغالية التي هي من نفس الـمجموع الذي خرج منه الإسبان، والتي كونت مع إسبانية دولة واحدة طول نصف قرن، يجد أنّ الـمبرر الأساسي لنشوء قومية برتغالية مستقلة عن القومية الإسبانية هو الأرض البرتغالية الـمنفصلة عن إسبانية بجبال وعرة وأودية تـمرّ فيها أنهر غير صالـحة للملاحة.
يقول ماكايفر(1) «إنّ أهل الغال، الذين هم وحدات جديدة ناشئة عن سنّة الاختلاط الاجتماعي الذي لا نهاية له، يفتخرون بجنسهم أو عنصرهم، ولكن هذا النوع من الفخر ليس إلا صيغة تستعمل عموماً للتعبير عن محبة الـجماعة الذاتية ضد الـجماعات الأخرى. إنّ أمانتهم لأنفسهم ليست ناشئة عن السلالة، بل عن الـمكان والعادة والتقليد والسلطة وعن قسمتهم الـمتأتية عن هذه العوامل.» فالـمكان والـحياة الواحدة شرطان لكيان الأمة ونشوء القومية يتمم واحدهما الآخر. وعندي أنّ الـمكان أصوب أن يكون أساس نشوء القوميات من الشعوب التي ظهرت في التاريخ في زمن الفتوحات. وماكايفر الـمذكور يتساءل كيف يـمكننا وصل الشعوب اليونانية القديـمة من «دورييتن» وغيرهم بالهلينييـن أو بالإغريق الذين كان اسمهم هذا يطلق في العصور الكلاسيكية على مدنية ثم صار في العهد الـمسيحي يدلُّ على دين وهو يدل اليوم على أمة صغيرة. وقد نقل رينيه يوحنا(2) عن بوسويه أنه «قد تقرر أنّ سكنى البلاد الواحدة والـحصول على لغة واحدة كانا سبباً لتوثيق عرى اتـحاد الناس معاً.»
الأمــة واللغــة: ويقـول بـوسـويـه في مكـان آخر «إنّ الكلمـة هي رابطـة الاجتمـاع بيـن الناس» ونحن بعد تبيان أهمية الأساس الـمادي نريد أن نبحث في علاقة اللغة بالأمة وصفتها.
قـلنـا آنـفاً إنّ الأمة ليست سـلالـة فهل الأمة لغة؟ وهـل يـمكننا أن نوزع الأمـم على
(1) Mclver, Robert Morrison: The Modern State, Oxford, Clarendon Press, 1926.
(2) Johanner, René: Les Principes des Nationalités, Nouv, éd. refondue et aug., Paris, Nouvelle Librairie Nationale, 1923.
(3) لم يُستكمل البحث بسبب توقف المجلة عن الصدور.