وأما البناء الروحي فهو، على أنه غير منفصل عن الأساس الـمادي، نتيجة تفاعل عقول أبناء الأمة الواحدة وتـمكنهم من إظهار رابطة عقلية تربطهم في الشرائع والقوانيـن والتقاليد الاجتماعية واللغة والأدب والتربية. فالشرائع والقوانيـن توجد رابطة النظام السياسي والشرعي التي تنظم العمل الاجتماعي وتـمثّل مجموعة عامة من الأفكار الـمقررة الوحدة الاجتماعية. والتقاليد الاجتماعية مظهر هذه الوحدة. واللغة أو بالـحريّ الأدب الـمكتوب، يُظهر لنا مقدار شعور الأمة بالـجمال واقترابها من الـحقيقة وهو، في نفس الوقت، يؤثّر على الأمة ويساعد على تنمية الاستعداد الفطري وتكوين الـخلق القومي. والتربية نظام عام يـمرِّن عقول أعضاء الأمة الواحدة ويوحدها والغرض منها أن لا تقتصر على تغذية الذكاء بـمقدار كافٍ من الأفكار، بل أن تـحضّ الأخلاق على طلب مثل عليا مشتركة. إذاً فالشرائع والقوانيـن والتقاليد الاجتماعية واللغة والأدب والتربية هي البناء الروحـي الـذي تشيّـده الأمـة على الأسـاس الـمادي الـمؤلف من بعض العنـاصـر البشريـة والإقليم ومزاياه. وإننا لنكتفي بـما تقدم تـمهيداً لبحثنا في علاقة كل قسم من الأقسام الـمتقدمة بـمعنى الأمة:
الأمة والعنصر: نرى من مطالعة ما كتب في صحافتنا وكتبنا في الـمسألة القومية أنّ الكثيرين مـمن تصدوا لـمعالجة هذا الـموضوع لم يكونوا على بيّنة علمية عصرية في ما كتبوا فوقعوا في أغلاط أفسدت على الأمة رأيها. من ذلك أنهم أساءوا فهم معنى العنصر، وجعلوا العنصر أو السلالة (Race) والأمة شيئاً واحداً، وظنوا أنّ التاريخ هو الـمرجع الوحيد لـمعرفة «أصل» الأمة «ونسبها» فعوّلوا على مروياته أكثر كثيراً مـما يجب. وقد يكونون استمدوا استنتاجاتهم في ردّ الأمة إلى «أصلها» من النظرية العتيقة القائلة: العائلة تنشىء العشيرة والعشيرة تولد القبيلة والقبيلة توجد الأمة والدولة. والـحقيقة أنّ هذه النظرية فاسدة من أساسها، لأن الأمـم الـمعروفة في العالم كله لا يـمكن ردّ كل منها إلى قبيلة معروفة.
الأمة ليست عنصراً من العناصر البشرية ولا مجموعة عنصرية واحدة. والـحقيقة التي لا جدال فيها هي أنّ كل أمة مؤلفة من مجموعات عنصرية متنوعة، أي أنها مزيج من سلالات بشرية مختلفة. وقد ظن كتّابنا الذين لا يزالون يتابعون علماء العصر الغابر وما قبله أنّ مسألة سلامة السلالة هي أفعل عامل في حفظ قوام الأمـم، فحذوا هنا حذو أهل الغرب الذين تباروا زمناً في الـمباهاة بالسلالة «الأنغلوسكسونية» و «السلالة الـجرمانية» و «السلالة الفرعية الفرنسية»، الخ. أما علماء العصر الـحاضر فيسخرون بـمثل هذه الـمباهاة الباطلة، ونشير بصورة خصوصية إلى هـ.ج. ولز وأمثاله. وليس من العبث أن يسخر العلماء العصريون بالـمباهاة الـمشار إليها لأنهم اطَّلعوا على نتيجة أبحاث علماء طبائع البشر وعلماء السلائل البشرية وعلماء الـحياة وعلماء الـحيوان الذين حصروا الفوارق السلالية في الصفات الطبيعية فقط.
فالسلالة أمر واقع فيزيائي تثبته دلائل فيزيائية من حيث القامة والشكل واللون. فإذا اعترفنا بهذه الـحقيقة الـحيوانية (الزولوجية) وجب علينا أن نعترف أنّ كل أمة تضم سلالات مختلفة منها سلالة الـمستطيلي الرؤوس ومنها سلالة الـمستديري الرؤوس. وذوو الرؤوس الـمستطيلة ينقسمون إلى سلالتيـن: الواحدة تشتمل على القامات الطويلة واللون الأبيض والثانية تشتمل على القامات القصيرة واللون الأسمر. ولا تخلو أمة من الأمـم من بقايا عناصر عبرت إليها وخلّفت فيها مـمثليها. وإذا أخذنا فرنسة مثلاً لـما نقول، وجدنا أنّ الأمة الفرنسية أكثر الأمـم اتـحاداً وتلاؤماً، ومع ذلك فهي من أكثر الأمـم اختلاطاً في عناصرها. ولا عبرة بـما يقوله بعض العلماء ومن جملتهم مكدوغل(2) إنّ امتزاج عناصر الأمة الواحدة بعضها ببعض قد يولد مع الزمن «سلالة فرعية» جديدة غنية بتنوع مزاياها الـمستمدة من عناصرها الـمتنوعة.
وقد ردّ باركر الـمذكور آنفاً، على هذا القول الواهي بالزعم الـمدعوم بالواقع أنّ السلالة ليست إلا حقيقة فيزيائية متميزة بدلائل فيزيائية، ولسنا نـجد في الفرنسييـن من الدلائل الفيزيائية ما يجعلهم سلالة فرعية متميزة عن الإنكليز. بل إننا، على العكس من ذلك، نـجد أنّ في فرنسة وإنكلترة سلالات مختلفة باقية على أشكالها، ولو افترضنا أنه يـمكن إزالة الفوارق السلالية بواسطة مزج السلالات الـمختلفة بعضها ببعض فإن ما تقتضيه هذه العملية من الوقت لأكثر كثيراً من الوقت الذي مرَّ على تكوّن الأمـم الأوروبية. لذلك يترتب علينا أن نزيل من أذهاننا فكرة الوحدة الفيزيائية للأمة. والذي أجمع عليه جمهور العلماء أنّ وحدة الأمة العنصرية أمر خيالي لا يجوز قبوله علمياً. فالأمة إذاً ليست وحدة فيزيائية دموية بل وحدة تقليدية عقلية. وبيـن الأمة والسلالة هوة عميقة جداً، إذ السلالة شكل فيزيائي عام أما الأمة فليست كذلك، بل هي اقتناع عقلي عام. السلالة حقيقة طبيعية وجدت قبل التاريخ، أما الأمة فشيء تكوّن مع مرور الزمن وعمل على تكوّنه فكر وشعور وإرادة العقول البشرية فهي مركّب اصطناعي. نقول «اصطناعي» ليس لنقلل من أهمية كيانها بل لأنها شيء روحي والشيء الروحي ليس حقيقة بعينها كائنة في الدم، بل هو ما يحصل تدريجاً بـمرور الزمن وبذل الـجهد. ومهما روى لنا الرواة عن وحدة الدم وأصله فحقيقة الأمة تبقى في «روحها» في أفكارها العامة وشعورها العام، لا في أشكال جماجمها ولا في أنواع دمائها.
قال رينان «الأمة مبدأ روحي أوجده شيئان: الواحد في الزمن الـحاضر والثاني في الزمن الغابر؛ الواحد في الاحتفاظ بـمجموعة ذكريات غنية والآخر وجود شعور بالاتفاق هو الرغبة في الـحياة معاً، هو إرادة الاستمرار على جعل الإرث الـمتصل بالقوم وحدة فعّالة لا تتجزأ.» ولا بد لنا من الإشارة هنا إلى أنّ الـمعنى اللغوي للفظة «أمة» العربية لا يفيد الالتباس العنصري الذي يفيده معنى لفظة «ناسيون» الـمأخوذة من اللفظة اللاتينية «Natio» التي معناها «الـمولود» أو «الولادة» أو النسل، فمعنى لفظة «الأمة» في القاموس هو الـجماعة من الناس بقطع النظر عن الولادة والنسل ومصطحباتهما.