كلا، ليس أصيلاً ما يشهده لبنان وعاصمته بمقدار ما هو دخيلٌ عليهما. وهذا لم يأتِ صدفةً ولا كان بريئاً، بل هو سياق من المخطَّطات الغرائزية التي أجَّجَ الخارجُ فيها مكامنَ الضعف في الداخل، فكان ما كان، والحبل المسموم على غاربه في تغليب مثالب شعبنا على فضائله، وإفقار الشعب الذي كان غنياً على غير صعيد، وفي تعميم مسار التيئيس على مسار الإنعاش والتصميم والإنبعاث.
في كتاب صدر عن جامعة سيراكيوز في الولايات المتحدة عام 2006 باللغتين الإنكليزية والفرنسية، تسأل الشاعرة ناديا حمادة تويني عبْر الكتاب الذي ضمّ مختارات من شعرها: "هل وُلِدتُ من كذبة في بلدٍ غير موجود"؟ وهذا السؤال الذي يختزن في ذاته بعض جوابه يؤكد حقيقتين: تتمثل الأولى في أنّ الصدمة الحضارية ليست بنْت ساعتها بل وليدة تراكمات. والحقيقة الثانية تتمثل في الخيبات المتعاقبة التي تجعل، حتى المفطورين على التفاؤل، أقربَ إلى طرح سؤالٍ وجوديّ مصبوغٍ بالتشاؤم. ألم ينصح المستشرقُ الفرنسي العربَ جميعاً، لا اللبنانيين فقط، بضرورة وقْف مأساة التزلج على القبور؟
مناسبة هذه المقدمة رحيلُ مواطن بيروتي أصيل هو السيد عدنان الرفاعي الذي جمعتْ عائلتَنا بعائلته وشائجُ صداقةٍ وأُخُوّةٍ عنوانها المواطَنة المدنية الكاملة، الفعلية لا الشعاراتية. وكنا نرى فيه وفي عائلته الراقية نموذج الأسرة الوفية، المترفعة عن كل ما هو طائفي وفئوي وانتهازي، لأنّ الموقع الذي يَصدر عنه الوفاء والترفّع هو الإمتداد الوطني العابرُ أزِقّةَ الغيتُوات المغلقة وزواريب القبائل. ونحن لن ننسى، ما حَيِينا، كيف حَمى ذلك المنتقل إلى أخدار الغيب منزلَنا الكائن في بناية الرفاعي-رأس بيروت خلال الإجتياح الإسرائيلي عام 1982، عقب مغادرتنا المنطقة بعد تفاقُم الأوضاع نتيجة العدوان، حتى قبل أن يصل الجيش المعادي إلى عاصمة الصمود والمقاومة الوطنية، التي اختصر البطل خالد علوان كرامتها الجريحة بوقفة العِزّ المباركة.
أخانا الأكبر عدنان...أيها الصديق المقدود من ثنائيات: العقل والعاطفة، الفن والثقافة، الأريحية والإيثار، الجِدّية الرصينة والبسمة الوادعة، المودة الصادقة والإخلاص المُترجَم. لكَ الله في عمرك المديد المَشُوبة نهاياتُه بالمرض البغيض. أما شريكة حياتك السيدة أنطوانيت وكريماتك الثلاث: ريما ومنى وتانيا، فَلَهُنَّ الذخيرةٌ النابضة من مزاياك، وسيرتك، ومفاهيمك العميقة للحياة والموت باعتبارهما جدلية الكينونة الواحدة. أليستِ الروح موْجة في المحيط الأوسع، على حدّ تعبيرك في الرسالة الآسِرة التي تركتَها للعائلة؟ أليس الفرح الحقيقي قائماً في صميم اللغز الذي ينطوي عليه الوجود وشقيقُه العدم؟
أياً يَكُن الجواب الفصل حول الحقيقة المُطْلقة، فستبقى لنا حقيقة نسبية وهي أن الكيمياء القِيَميّة التي جمعَتْ بيننا هي قِيَمُ الإنسان الصَّدوق في موَدّاته الأصفى وتجلياته الأسمى. لذلك سيعزّي كلَّ واحدٍ منا أن يردّد بل أن يعيش بيتَ مُحيي الدين البيساني الملقَّب بالقاضي الفاضل: "إنْ كنتَ لستَ معي فالذِّكْرُ منك معي/ يراكَ قلبي وإنْ غُيِّبْتَ عن بَصَرِي".