بالنسبة إلى أنطون سعادة، الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي أسّسه ليس سوى وسيلة لتحقيق مبادئه، لذلك لا يمكن للحزب أن يتحوّل إلى غاية بحد ذاته كما يفعل بعض الأحزاب السياسية في بلادنا إلا إذا تخلّى عن مبادئ سعادة.
المادة الأولى من الدستور، الذي وضعه سعادة ونُشر عام 1937، تنص على الآتي:
"غاية الحزب السوري القومي بعث نهضة سورية قومية تعيد إلى الأمة السورية [سوراقيا أو منطقة الهلال الخصيب] حيويتها وقوتها، وتنظيم حركة تؤدي إلى استقلال الأمة السورية استقلالاً تاماً، وتثبيت سيادتها، وتأمين مصالحها، ورفع مستوى حياتها، والسعي لإنشاء جبهة عربية» (الأعمال الكاملة، ج.2: 78. بيروت، مؤسسة سعادة للثقافة، 2001).
إن تقييم مسار الحزب، خلال ما يقارب القرن من الزمن، إذاً، لا يصح إلا بالنظر إلى مدى مقارنة أفعاله وأقواله بالمبادئ التي على أساسها بنى سعادة حزبه. فهل سار الحزب على طريق تحقيق هذه الأهداف؟ وما هي الخطط التي وضعها للوصول إلى تطبيقها ضمن المجتمع؟
لا وجود لخطة حزبية قصيرة أو طويلة الأمد لتنظيم حركة تؤدي إلى استقطاب مواطني «سوراقيا» من أجل استقلال هذه الكيانات الفعلي لا الظاهري، وإلغاء مفاعيل سايكس-بيكو القريبة العهد آنذاك (1916)، حيث إن جيل سعادة برمّته وُلد وبحوزته هوية سورية، ولا ينتمي إلى الكيانات المصطنعة التي اخترعها الغرب. لذلك حين باشر سعادة بنشر عقيدته، اجتمع حولها قوميون من جميع المشارب والطوائف لاعتبارهم أن سوريتهم هي الأصل. لكنه حين غادر لبنان قسراً أواخر 1938، بسبب الاضطهاد الفرنسي له، ولم يعد حتى عام 1947، انحاز مَن حلّ محلّه للمعسكر الغربي خلال الحرب العالمية الثانية.
باكراً جداً، استغلت القيادة الحزبية غياب سعادة لـ«لبننة» الحزب، أي إهمال المبادئ الأساسية القائمة على توحيد سوريا الطبيعية، والتركيز على المطالبة بتطبيق المبادئ الإصلاحية كفصل الدين عن الدولة في لبنان. ولمّا عاد سعادة إلى بيروت، طرد القياديين «الملبننين» من الحزب. لكن لوثة «اللبننة» كانت قد غُرست خلال غيابه الطويل، والذين انتموا إلى الحزب في تلك الفترة، انخرطت غالبيتهم على أساس العمل ضمن الحيز اللبناني فقط، وهذا ما أظهرته الأحداث في ما بعد.
بسبب هذه النظرة الضيقة وتعطش القيادة للسلطة، وهي في غالبيتها لبنانية، أعادت تلك الجماعة تموضعها مع القوى الغربية بعد اغتيال سعادة. ووقفت إلى جانب «حلف بغداد» عام 1955، وهو الحلف الذي دعمته الولايات المتحدة الأميركية بناءً على «مبدأ أيزنهاور»، للوقوف في وجه المد الشيوعي (والمعني حقيقة: الاتحاد السوفياتي). انضم إلى الحلف كل من بريطانيا وتركيا وإيران وباكستان والعراق، حيث كان لنوري السعيد دور مركزيّ في إنشائه. لكنه لم يصمد طويلاً، وانسحب العراق منه عام 1958 بعد ثورة تموز بقيادة عبد الكريم قاسم، وإسقاط النظام الملكي الهاشمي الموالي لبريطانيا في العراق. تزامن ذلك مع الحرب الأهلية في لبنان، ونزول المارينز على شواطئه خوفاً من التمدد السوفياتي. وكما هو معروف، وقف الحزب القومي إلى جانب الكتائب في مواجهة المد العربي، ما يعني انحياز القيادة الحزبية السافر ضد مبادئ سعادة ومواقفه المعلنة. فهو رفض كل شكل من أشكال الحروب الأهلية التي لا تؤدي بحسب كلماته إلا إلى «الخراب القومي»، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أوقف حياته كلها على محاربة المستعمر الجاثم على أرضنا، فكيف يقبل بخيانة من هذا النوع، وهو المُطالَب بإنشاء جبهة عربية في المادة الأولى من دستوره، عدا عن أن أيّ صراع عربي-عربي لا تستفيد منه سوى إسرائيل؟
أغلب الظن، أن هذا التيار «الملبنَن» هو الذي أدّى إلى خسارة الحزب موقعه في سوريا بعد اغتيال سعادة. فعملية تسليمه غدراً إلى السلطات اللبنانية من قبل رئيس الجمهورية آنذاك، حسني الزعيم، أثارت ردة فعل نجم عنها وصول أديب الشيشكلي على رأس هرم السلطة، وهو السوري القومي الاجتماعي. أي أن نتيجة خيانة حسني الزعيم، وتسليم سعادة وموته، فتحت الباب أمام الحزب، وانتشار أفكار سعادة ومبادئه بكل حرية وأمان. وبدلاً من أن يرحّب رئيس الحزب آنذاك، جورج عبد المسيح، بهذا التطور البالغ الأهمية لمسار الحزب وللقضية القومية، ثار على أديب الشيشكلي وطرده. لا أستطيع أن أفهم التصرف هذا إلا على أساس عدم السماح بهيمنة تيار سوري على الحزب السوري القومي الاجتماعي (انظر منير خوري، سفينة حياتي، بيروت: دار نلسن، 2003، صفحة: 110، 144 ،174).
ظلّ هذا التيار المتلبنن، والموالي للغرب، مهيمناً على الحزب حتى بداية عام 1962، حين ظنّ أن بمقدوره قلب موازين القوى في لبنان، وتبوّؤ السلطة، فقام بانقلاب فاشل أدى بقيادته إلى دخول السجن. وحين خرجت منه عام 1969، كانت منظمة التحرير الفلسطينية، والجموع الشعبية اللبنانية الموالية لها، هي المسيطرة، فمشت مع الركب، لكن سرعان ما انشق الحزب القومي مع بداية الحرب الأهلية عام 1975، ودخول القوات السورية إلى لبنان، فانحاز القوميون الموجودون في بيروت الغربية والجنوب إلى منظمة التحرير الفلسطينية، فيما اصطفّ خلف سوريا، قوميّو المناطق «المسيحية»، المسيطر عليها كتائبياً، وأصبح الحزب منقسماً إلى ثلاثة أطراف: «حزب جورج عبد المسيح»، «حزب الطوارئ»، و"حزب إنعام رعد"
إن هوس القيادات الحزبية بمبدأ الزعامة، قضى على مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي وأسسه. لم يتخذ سعادة صفة الزعامة كما يفعل الزعماء التقليديون، فهو استعمل الكلمة للإشارة إلى أنه مؤسس الحزب، وواضع دستوره ومبادئه غير المستوحاة من أحد، بل هي نتاج مجهود خاص علمي دأب عليه للوصول إلى خلاصات معينة وضعها كمبادئ. لذلك تنتهي مفاعيل الزعامة بالنسبة إليه مع وفاته. وللدلالة على ذلك، وضع سعادة تنظيماً ديموقراطياً للحزب، لا ديكتاتورياً، وأقام ثلاث سلطات: تشريعية (المجلس الأعلى)، وتنفيذية (مجلس العمد)، وقضائية. وهي سلطات مستقلة الواحدة عن الأخرى. لكن طموحات بعض القيادات الحزبية لم تكن في وارد الانتظام ضمن حزب ديموقراطي، بل الاستيلاء على السلطة من خلال اختراع مبدأ «خلافة الزعيم»، أي الاستحواذ على سلطات مطلقة مدى الحياة، فلا يعود أمام القوميين من خيار سوى الانسحاب من الحزب أو الانصياع، وهذا ما حصل. تمثلت هذه السياسة في إعطاء الأوامر للقوميين تحت شعار «نفذ ثم اعترض». ولم يعد الحزب كما وضعه سعادة، مكاناً للتحديث السياسي والاجتماعي والاقتصادي وبعث وعي قومي، انتماءً وهويةً، ومركز استقطاب للعقول الناشئة، ومنارة للمجتمع، ومثالاً للاقتداء، ومحاوراً للأحزاب والتيارات الأخرى. تحوّل الحزب إلى أداة بيد قيادات تنافس الأحزاب الأخرى على السلطة، وتوقف دور الحزب في التحديث والتبشير وإنشاء المدارس لبناء نشء جديد. أصبح همّه الوحيد الوصول الى السلطة، وإذا تعذر ذلك، القيام بانقلابات انتهت بتدمير الحزب في سوريا ولبنان. لقد أُهملت دراسة وتطوير مبادئ سعادة، وبناء الخطط على أساسها. وبدلاً من العمل الدؤوب من أجل توعية الشعب الذي هو مصدر السلطات بالنسبة إلى سعادة، فضّلت القيادة أن تقامر بمصير الحزب عبر انقلابات فاشلة لا تدعمها غالبية شعبية. وكانت النتيجة التقوقع، والتخلي عن العمل من أجل إرساء نظم جديدة في مجتمع كيانات "سوراقيا."
أدّى فرض مبدأ «خليفة الزعيم»، إلى إلغاء الحرية الفكرية، وأداء «رئيس الحزب» دور الخليفة المحافظ والغيور على الإرث الفكري وعدم المسّ به، ما أدى إلى اعتبار المبادئ نصاً «قرآنياً» تُحرم مناقشته أو دراسته دراسة نقدية. تحولت مقولة سعادة أن «العقل هو الشرع الأعلى» إلى غياب العقل، والتعلق بالنص مهما تغيرت الأحوال. لذلك نجد أن الكُتّاب القوميين يركّزون على شرح وتفسير ما قاله سعادة، من دون إعادة تركيبه بناءً على المعطيات الجديدة، أو التحولات السياسية/ الاجتماعية/ الاقتصادية، إلا في ما ندر، وغالباً ما يعدّ هذا الشخص «منحرفاً» عن فكر سعادة - كما تمّ نعتي. ومن الغريب ألّا يفهم القومي المثقف أن وضع الفكر في الثلاجة وتجميده، يؤدي إلى شلله وموته، لأن الأحداث تسبقه وتطغى عليه. وإذا عدنا إلى كتابات سعادة نفسه نجد أنه يواكب الحدث، ويكتب بشكل يلائم المستجدات، ولا يلوك حديثاً لا علاقة له بالحاضر الدائم الحركة والتغيّر.
تغييب العقل يلائم منطق التفرد بالحكم والزعامة مدى الحياة والتسلط، فيتولى «خليفة الزعيم» منفرداً اتخاذ القرارات، وإملاءها على جميع المنتسبين. ومن يحاول أن يناقش أو يتساءل أو يفكر، يُتّهم بأنه ضد سعادة، لأن «الخليفة» هو الوحيد الذي لديه حق احتكار هذا الفكر! والنتيجة، عجز الحزب عن البناء، وعن مراكمة المعرفة والانطلاق في مسارات جديدة. الطريق الوحيد من جراء سياسات من هذا النوع هو الانهيار والتلاشي والتشرذم، فحالما تضعف مكانة «خليفة الزعيم»، ينهار البنيان، وهذا ما يحصل اليوم.
بما أن القيادات الحزبية التي توالت على الحكم لم تهتم بنقاش فكر سعادة وتطويره، اتجه الحزب إلى حصر أهميته بالشكل، أو بالأشكال المختلفة من استعراضات عسكرية ونخبوية تحتفي بوزراء الدولة ونوابها، إلى التشديد على إلقاء التحية الحزبية كيفما اتفق، ضمن المراكز الحزبية وخارجها، واعتبار عدم الردّ عليها بمثلها هو الجريمة بعينها، وانتقاد وضعية التحية من زاوية قائمة للذراع، أو غيرها من التفاصيل التافهة. ولقد حذّر سعادة من منحى كهذا، معتبراً أن الشكل دون مضمون لا يعني شيئاً!
حصر الاهتمام بالأشكال يتماشى مع اعتبار رؤساء الحزب أنهم «خلفاء الزعيم»، ما يفسح المجال لهم بالتفرد في قراراتهم، وتحويل الهيئات التشريعية والتنفيذية والقضائية إلى ديكور للتمويه الخارجي، وهو في الحقيقة لا دور له إلا الموافقة على قرارات الرئاسة/ الزعامة.
لم يقم الحزب السوري القومي الاجتماعي حتى بمراجعة الأشكال التي وضعها سعادة، والتي تتماشى مع عصره في ثلاثينيات القرن الماضي، لكنها قطعاً لا تصلح ليومنا هذا، وتقف حائلاً أمام انخراط الشباب في هذه الحركة. مثال ذلك القسَم الذي يؤدّيه من يريد دخول الحزب. هذا القسَم كُتب خلال وجود الاستعمار الفرنسي على أرض سوريا ولبنان، ومنع السلطات الفرنسية التجمعات السياسية، أو إنشاء أحزاب قومية، فيُفرض على العضو الالتزام بالسرية التامة، وعدم التكلم أو الإفشاء عن أي شيء يختص بالحزب. فلماذا الإبقاء على قسَم من هذا النوع لا علاقة له بوضعنا الحالي المختلف تماماً؟ وهل كان سعادة يبقيه وهو الذي تجرّأ وغيّر حتى جغرافية بلاده من بلاد الشام إلى «سوراقيا» بعدما أدخل العراق عام 1947؟ هذا القسَم لا يوحي بأي شيء للمقبل على تبنّي مبادئ سعادة.
علاوة على ذلك، خلقت خلافة «الزعامة» إشكالية لدى هؤلاء «الزعماء» ألا وهي وجود ذرية تُسمى عائلة سعادة، وهي منافس معنوي لهم في الأوساط القومية. اتُّخذ القرار، ليس فقط بإهمال العائلة، بل إهمال تراث سعادة أيضاً، فلم يقم الحزب ببناء مراكز أبحاث تُعنى بجمع تراثه، ودراسته، أسوة بمفكّري أحزاب عقائدية أخرى انتشرت في كيانات «سوراقيا»، ولم يُعمد إلى وضع فيلم أو برنامج وثائقي حول فكره أو حياته، والذين تنبّهوا إلى هذا الموضوع لم تكن لهم علاقة بالحزب السوري القومي الاجتماعي، ومنهم قناة «الميادين»، وقناة «أن.بي.أن.»، وقناة «أو.تي.في.»، وحتى قناة «ال.ب.سي.» عمدت إلى إجراء مقابلة حول حياة أنطون سعادة عام 1999، دامت ثلاث ساعات. لا يستطيع الحزب أن يتذرّع بقصر الحال، لأنه مرّ بفترات ازدهار مادي يمكّنه من إنتاج فيلم ضخم حول سعادة. كان ذلك متاحاً أيام الحرب الأهلية وتدفق المال الليبي، وأيام الوجود السوري في لبنان من عام 1990 حتى 2005، لكنه لم يأبه للموضوع، لأنه لا يناسب طموحات زعاماته.
إن إدخال مبدأ الزعامة والاستئثار بالسلطة ضمن الحزب السوري القومي الاجتماعي دمّر هذه المؤسسة لأنها مبنية على المبدأ الديموقراطي والتشارك حين اتخاذ القرارات. وأدّى ذلك إلى انسحاب المثقفين الذين لم يعد لهم أيّ دور في تنظيم أصبح يتماثل مع ثكنة عسكرية يتلقى جنودها الأوامر. ومع الوقت نشبت الصراعات على مركز الزعامة نفسه، لا لتصحيح المسار، بل نتيجة رغبة عدد من الطامحين في الوصول إلى قمة الهرم. لم يأبه هؤلاء القادة إلى أن هذا الصراع يضعف الحزب، كما أنه يسمح بتدخلات خارجية تطمع بإلحاق الحزب بها وبتوجهاتها بعد استفراد رأسها الذي خسر قاعدته الحزبية.
طبعاً، ثمة عوامل خارجية ساهمت في إضعاف هذا الحزب، كالحرب الأهلية (1975-1990)، وانتصار الأحزاب الطائفية. لكن مواقف الحزب السياسية خلال مسيرته بعد استشهاد سعادة، مثّلت العامل الأبرز في تشرذمه، إذ إنه لم يحافظ على مبدأ الوحدة الوطنية/ القومية ضمن صفوفه، فمال نحو «اللبننة» في كثير من الأحيان، وانضم إلى جبهة موالية للغرب في مواجهة تيار عربي من عام 1958 إلى عام 1962، ما أدى إلى انسحاب غالبية القوميين المنتمين إلى «المذهب السني». ثم أجهز هوس قادته بالانقلابات على من بقي، فتفرّقوا وابتعد أولادهم عن الانخراط في الحزب، فنجد بعض أولاد القوميين «المسيحيين» في التيار الوطني الحر، وبعض أولاد «الشيعة» في المقاومة، أو حركة أمل.
يؤكد عدد من المثقفين القوميين أنه، رغم الانقسامات الحزبية، لا خلاف بين الأحزاب المنشقّة على المبادئ التي وضعها سعادة. لكن ذلك ليس صحيحاً، لا في الحزب ولا خارجه. فلا الإيمان بالقرآن وحّد المسلمين، ولا الإيمان بتعاليم المسيح وحّد المسيحيين، ولا الإيمان بماركس جمع الماركسيين، أو غيرهم من الأحزاب والملل، ذلك أن الخلاف والاختلاف يقعان في كيفية فهم هذه المبادئ أو الأديان. المبادئ موجودة، لكن الأعين التي تقرأها موجودة أيضاً، وهذه الأعين ملوّنة بحسب تربيتها وبيئتها. فالسعودي يرى دينه بمنظار الوهابي، والشيوعي يرى مبادئه انطلاقاً من موقعه الجغرافي، كذلك الأمر بالنسبة إلى السوري القومي الاجتماعي. عوّل سعادة على تنظيمه الحزبي لبناء مجموعة متجانسة الأفكار، لكن ذلك لم يحصل، لاهتمام القيادة بالسلطة وإهمالها لأعضاء حزبها الآتين من مشارب ومناطق وعقليات مختلفة. حتى هذه القيادة لم تكن منسجمة مع بعضها البعض، لا فكرياً ولا عملياً، وبالتالي لم تخطّط لأيّ توجهات مستقبلية، وتمحورت إنجازاتها على تسيير الأمور اليومية.
وبالتالي، اعتقدتْ القيادة الحزبية أنها حين ترفض الحرية الفكرية، وترفض تطوير فكر سعادة، وترفض نقده، إنما هي تحافظ عليه. والحقيقة هي أنها تقتله. فكل فكر لا يتطور يتحجّر ويموت، وكل حزب لا يتقدم يعود القهقرى ويختفي. على مدى عقود طويلة، ومنذ اغتيال سعادة، قامت عملية تدجين لأعضاء الحزب، وتم تلقينهم بعدم مناقشة الأفكار، تماماً كالإرساليات الدينية التي كانت تطالب بحفظ النص ومنع التساؤل حوله. أصبح القوميون كزعمائهم، يضطهدون من يجرؤ على مناقشة أي بند من بنود مبادئ سعادة، ولم يلاحظوا أو يأبهوا إلى أن سعادة نفسه طوّر مفاهيمه وغيّرها حسب تقدم العلم والمعرفة، وكذلك تماشياً مع تغيّر الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
نجد على الصعيد الفردي إنجازات لا علاقة للإدارة الحزبية بها، منها الفكري ومنها المقاوم. وصدرت كتب من قوميين موالين لفكر سعادة، لكنهم يرفضون التركيبة الحزبية، وهم خارجها. ربما نستطيع تسميتهم بـ«حزب سعادة»، أي الموالين والمواليات لمبادئه، لا لمسيرة الحزب.
لقد نشرت عبر العقود نظرتي وفهمي لفكر سعادة مع تطويره، وإهمال المقولات التي نقضها العلم بعد اغتياله. أهمية فكره تكمن في أنه لا يزال يقدم التفسير الأصح لوضعنا في المشرق العربي، كما يقترح الحلول الناجعة للخروج من مآزقنا. هي حلول تدور حول توحيد المواقف، وإلغاء مفاعيل سايكس-بيكو، واستعادة فلسطين عبر إنشاء قوة منظمة، ومن بعدها الشروع في بناء دولة متقدمة تؤمن الأفضل لأبنائها وبناتها. ما يجمع القوميين اليوم هو شعورهم بأن «سوراقيا» المشتملة على العراق وبلاد الشام هي وطنهم؛ يدافعون عن كياناته مهما كانت مناطقهم الأصلية. كما أنهم منزّهون في غالبيتهم من اللوثة الطائفية، ويدعمون الفصل بين الدين والدولة.
فشِل الحزب في تطبيق مبادئ سعادة أو نشرها، وهو اليوم أقل بكثير عددياً عمّا كان عليه في بلاد الشام منذ ثمانين عاماً. ولا أرى أي فرصة، لأي طرف من أطرافه، أن يكون الوسيلة الصالحة لنشر مبادئ سعادة وتطبيقها في أرجاء الوطن. لذلك لا أرى حلاً إلا بإنشاء تيار «سوراقي» هدفه ما طالب به سعادة عند وصوله إلى بيروت عام 1947، قادماً من مغتربه القسري بعد غياب سنوات طويلة. طرح صحافي السؤال التالي على أنطون سعادة: «في أيّ شكل تتصوّرون من الوجهة التأسيسية الأمة السورية المقبلة؟» فكان جوابه الذي يختصر مبادئه الأساسية: «جمهورية برلمانية ديموقراطية، مع ميل إلى اليسار، وعلمانية قبل كل شيء» (أنطون سعادة، الأعمال الكاملة، الجزء السابع: 211).
من المفهوم أن تكون المبادئ الأساسية هي الركيزة التي من دونها لا وجود للحزب، لكن هذه المبادئ لا تتجاوز بضع صفحات، بينما المجال مفتوح لتطوير كل ما عدا ذلك. إضافة إلى وضع استراتيجيات جديدة تتماشى مع الزمان والمكان للوصول إلى تحقيق هذه المبادئ! لقد فشلت التجربة الحزبية، لكن أفكار سعادة لا تزال تقدّم تفسيراً منطقياً للأحداث التي تلمّ بنا، كما أنها تعطي الحلول الواقعية التي بدونها لا خلاص لمنطقتنا من الهيمنة الغربية. لقد انتشر فكر سعادة خارج المؤسسات الحزبية المختلفة، وأصبح ملك الشعب الذي له الكلمة الأخيرة في تبنّي هذه المبادئ التي برهنت عن راهنيتها الشديدة إذا ما قارنّاها مع توجهات الأحزاب الأخرى. فالمسيرة التاريخية خلال قرن أكدت أن من يناضل من أجل استرجاع فلسطين هو كيانات «سوراقيا» العربية:
«إنني أؤمن أن الأمّة السورية هي الأمّة المؤهّلة للنهوض بالعالم العربي، ولكنها لا تستطيع القيام بهذا العمل إلا إذا كانت ذات عصبية قوية في ذاتها... لقد وقفت نفسي على توحيد أمّتي» (أنطون سعادة، الأعمال الكاملة، بيروت: مؤسسة سعادة للثقافة، 2001، الجزء الثاني، صفحة 13).
* أستاذة جامعية