هذه الشهادة لا تُعزَى إلى توَشُّحها بالأوسمة والميداليات، من تشيلي إلى اليابان ومن فرنسا إلى الاتحاد السوفياتي، وإنْ يكن وسامُ أمية الوطني المرصَّع الذي قلّدها إياه الرئيس بشار الأسد ذا دلالة رمزية أفصحَ من الشهادة والشهود.
تتحدر وزيرة الثقافة والإرشاد القومي سابقاً في الجمهورية العربية السورية ونائب الرئيس حالياً الدكتورة نجاح العطار من أُسرة عريقةٍ بالمعرفة القانونية والأدبية والدينية، أضافت هي إليه بل إلى سورية الحبيبة رصيدَ ثقافةٍ أصيلة وفِقهاً عملياً من الإدارة الثقافية الخلاقة، ومن الإنتاج الممتد على مساحات الفكر والأدب والنقد والترجمة والموسيقى والمسرح وسائر الفنون. على أرضية هذه الروحية الإيجابية يمكننا أن نرى مقولة ماكس فيبر منطبقة على تصالُحها مع نفسها وشعبها بالمناقب التي بها تؤمن، يقول فيبر: "الإنسان كائن يتشبّث بشبكة المعاني التي نسجها بنفسه". كل ذلك حصل بفعل منظومة العِلم والأخلاق والقيم التي تحملها، ووفْقاً لمعادلتها الثلاثية في التواضع والكِبَر والصوت الخفيض. لعلها، قبل إعجابها بالشاعر العراقي الكبير "المُتَدَمشِق" الجواهري، متأثرة بالرؤى الصوفية النبيلة لجلال الدين الرومي القائل: "ليرتفع منك المعنى لا الصوت، فإنّ ما يجعل الزهر يَنبُت ويتفتّح هو المطر لا الرعد".
وقد يكون مستحيلاً نسيانُ محطاتٍ مضيئة شرّفني خلالها اللقاءُ بها، من وزارة الثقافة والإرشاد القومي إلى مكتبها في قصر الضيافة الدمشقي العابق برائحة التراث، إلى مناسباتٍ ثقافية في صروح كبرى، فالمشاركة في تكريم الشاعر شفيق معلوف إلى تكريم النحّات سعيد مخلوف. وفي كلتا المناسبتين، إضافة إلى مناسبة تكريم الدكتور ميشال عاصي في بيروت حيث كلفتني بإلقاء كلمتها بعد تَعَذُّر حضورها شخصياً، غارَ يراعها عمقاً ما بين السطور، كما تَبَدّتْ لغتها الآسِرة المسكوبة في وعاءٍ فكريّ رفيع.
ثريةٌ كتُبُها بالمَوْشورات الثقافية الإنسانية وبومضات العربية الفصحى، مِنْ "أسئلة الحياة" إلى "نكون أو لا نكون". أما كتابها الصادر في العام الماضي بعنوان "أيام عشتها وهي الآن للتاريخ" فقراءةٌ لنصف قرن من الأحداث والتبدلات والمؤامرات التي عصَفَتْ بسورية وعالمها العربي. من هنا صعوبة اختزال هذا المؤلَّف، ومن هنا أهمية مطالعته كاملاً. غير أن في الإمكان استقراءَ غيرَ عِبرة منه. كالتأكد من أن ثمة ارتباطاً عضوياً ما بين الساحة السياسية والساحة الثقافية، فالخروقات التي تجتاح معظم العالَم العربي تستهدف في الدرجة الأولى طمس القضية الأساس وتزوير الوقائع وإلغاء فلسطين من الوعي القومي والذاكرة الجمْعية. ومِن تلك العِبَر أيضاً أن المثقف النقيّ يكتسب صدقيته من تأصُّله في معجن بلاده انتماءً وطروحات، من دون أن يعني ذلك انسداد الأفق على التخطّي. وحتى لا يأتي كلامنا عن الثقافة مسطَّحاً، يَحسُن اتخاذ الفيلسوف العبقري نيتشه هنا مثالاً، ليتضح لنا أنه ما دعا فقط إلى لَحظِ أهمية الوعي التاريخي، بل كانت دعوته أكثر انصباباً على مركزية التنبّه التاريخي الصّحّي الذي يفرضه ذلك الوعي والذي تنهض به الثقافة المنشودة. أليس مغلوطاً الإعتقادُ بالتاريخ على أنه ما كان، في حين أنه في الصيرورة المتواصلة؟ أليس حريّاً بنا، والحالة هذه، أن نحيا تلك الصيرورة مشروعاً معرفياً من الحريةٍ والإستنارة، فيمتد فينا ماضي الحق إلى حاضرٍ أَحَق ومستقبلٍ أَشرقَ وَعداً؟
منذ شبابها، وهي الآن على مشارف التسعين الزاخمة، انخرطت الدكتورة العطار، برصانةٍ وجِدّية، في المقاومة الثقافية المُبَلوِرة للهوية والكرامة، ضدَّ الإحتلالين الفرنسيّ والصهيوني. على أن موقعها القيادي في السلطة لم يُنْسِها حضورَ الله الدائم في أدائها ولم يَحُلْ دون إيمانها العميق بعظَمة الخالق، لكنه عزّزَ من العقلنة المواكِبة لذلك الإيمان في مَعِيّةٍ الحبّ الإلهي والوطني الحق. يقول أبو يزيد البسطامي- وقوله حق معياري علينا جميعاً: "عجبْتُ لِمَنْ يقول ذَكَرتُ ربّي/ فهل أنسى فأذكر ما نسيتُ؟ / شربتُ الحبّ كأساً بعد كأسٍ/ فما نفدَ الشراب وما روِيتُ". أما مُحيي الدِّين بنُ عربي، الداعي باكراً إلى مذهب وحدة الوجود والذي تحتضن دمشقُ رفاته، فيجزُم في نُبلٍ حضاريّ رؤيوي: "لن تَبْلُغ من الدِّين شيئاً حتى تُوَقِّر جميع الخلائق"، من دون أن ننسى اقتباس الفيلسوف الهولندي الجدَليّ سبينوزا ثوابتَه في التسليم بمذهب وحدة الوجود من الزّرع الذي بثه شيخُ المتصوفين في تربة الفكر.
أخيراً، نقول إذا كان مكسيم غوركي قد شعر أنه ينام نوماً أهنأ عندما يعرف أن تولستوي حيٌّ يُرزق في الكوكب نفسه، فيقينُنا أن الدكتورة العطار لا تهنأ متى كان مبدعٌ من بلادها غير هانئ في منامه ولا حتى في يقظته، فكيف إذا كانت الحرب الكونية على سورية ولبنان وفلسطين والعراق ظلمتْ كثيراً من مبدعينا ولم تَشْفِ بعدُ كيدَ المخطِّطين والمنفِّذين والخونة، العاملين على تلغيم أبجديتنا الثقافية الأصيلة بالهَجين من الثقافات الدخيلةَ! لكنّ الزَّبَد سيتلاشى وشمس الحق ستُشرق أسْطَعَ مِن ذي قبل. أليستِ الساعةُ الأشدُّ حَلَكاً هي الساعة التي تسبق الفجر؟
ربيع الدبس أكاديمي لبناني وباحث في الحضارات