عدّ خليل حاوي حالاً فريدةً في شعرنا الحديث، لكونه قدّم نفسه شاعراً رائداً رائياً، حداثيًّ في أعماله وفي خلفيّته الفكريّة، مثقّفاً ومثاليّاً إلى أبعد الحدود، ولم يكن ذا مسيرةٍ روتينيّةٍ رتيبة، بل صاحب مسارٍ صراعيّ. كتب بدايةً بالعامية، ثم بالفصحى وكان شديد الانغماس فيه، وقد شهد بين ذاك وهذا تطوّراً فنّيّاً ورؤيوياً كبيراً. استطاع أن يتدرّج في دراسته الأكاديميّة حتّى نيله الدكتوراه من إحدى أرفع الجامعات العالميّة، إلى أن وصل إلى مرحلة تقديم المعرفة إلى جيل برع نقداً وشعراً وفلسفة... حاوي، هذا الشّاعر الاستثنائيّ الذي تنكّب حمل الحداثة، تمكّن من أن يكون رياديّاً ورؤيويّاً، وهذا ما قد يبدو من خلال تتبّع فكره والأثر الذي أحدثه في تبنّي الرمز عموماً، والأسطورة على وجه الخصوص.
الخلفيّة الأيديولوجيّة والأثر الفكريّ والوجدانيّ
على هذا الصعيد، يمكننا أن نلتمس خيوط هذه الخلفيّة، بشكل أوّليّ، من خلال تصريحٍ لأدونيس جاء فيه: «ليس بين قصيدتي وقصيدة خليل حاوي أيّ التقاء. ذلك أنّ القصيدتين تنبعان من مصادر واحدةٍ أطلقها في بلادنا عقائدياً أنطون سعاده». وهذا ما يحيلنا إلى الجانب الأساس الذي رفد شعر حاوي وهو تأثّره بأنطون سعاده وفكره، إضافةً إلى عاملٍ آخر مساند وهو التأثّر ببعض شعراء الغرب.
يؤكّد الشاعر ذلك باعترافه بانتمائه للحزب السّوري القوميّ الاجتماعي في مواضع عدّة، منها حاشيةٌ من أطروحته للدكتوراه حول جبران. وفي موضع آخر يقول: «في الخامسة عشر، انجرفتُ في الحزب القوميّ السوريّ». وتأكيداً على ذلك، يصرّح لطلابه: «لم يأت في تاريخنا قائدٌ له قامةٌ وحضورٌ مثل أنطون سعاده». وهو ما يسانده باحثون كثرٌ يربط بين بعض آراء سعاده في الأدب وبعض مقولاته في الشّعر.
ويمكن أن نتثبّت من ذلك عبر حضور أصداء مقولات سعاده في كتاباته، ومنها قوله عن امتلاك الذّات نظرة أصيلة واحدة إلى الوجود والحياة دون تقليدٍ أو تزييف. وهو ما نجده صدى لما نقرأه في «الصراع الفكري» حول امتلاك نظرة جديدة إلى الحياة والكون والفن تمكن من إنتاج شعرٍ مجدّد، وقد تعدّى الأمر ذلك إلى تبنّي بعض مقولاته كاملةً وبوضوح.
أمّا شعريّاً، فنجد أنّ حاوي جعل من سعاده وسيرته رمزاً أسطورياً، خصوصاً في «الجسر»، حيث يبدو أنّ الشاعر ينطق بلسان سعاده في كلماته الأخيرة: «هذه الليلة سيعدمونني، أما أبناء عقيدتي فسينتصرون»؛ وما إشارته إلى تجاوز الشرق لواقع المستنقع والكهوف، إلا إبرازٌ لسعي سعاده في بلادنا إلى الحياة الجديدة.
وقد يكون هذا الأمر هو ما دفع حاوي إلى اعتناق مفهوم «الإثم الكنعانيّ» وجعل الأرض «كياناً حضاريّاً قوميّاً»، ومصدراً للقيم، إضافة إلى كونها مجالاً حيوياً لتطوّر العقل الإنسانيّ. ومن هذا المنطلق يمكن فهم كلامه:
"ردّني، ربّي، إلى أرضي
أعدني للحياة"
الطّاقة الرّمزيّة والفرادة التّمّوزيّة
يحيلنا الكلام السّابق إلى الطّاقة التي يتمتّع بها حاوي في تشكيل الرّمز أو استنباطه بما يتناسب مع الحال التي يسعى إلى إبرازها، إذ إنّ «تجربة هذا الشّاعر حضاريّة ووجوديّة بمعنى أنّها تعبّر عن الحضارة كفعل إنقاذٍ للإنسان من قصوره عاهاته وكمبرّرٍ لوجوده واحتمال عبث الوجود وغبائه». ولعلّ هذا ما جعل حاوي يهتدي إلى الأسطورة التمّوزيّة، وصار ميزةً لشعره. كما في قوله:
"يا إله الخصب، يا بعلاً يفضّ
التربة العاقر
يا شمس الحصيدْ
يا إلهاً ينفض القبر
ويا فصحاً مجيدْ،
أنت يا تموز، يا شمس الحصيدْ"
واستناداً إلى هذه الرؤية، صح القول: «ولا نعرف شاعراً قبل خليل حاوي تعاطى مع الرّمز التمّوزي بدقةٍ فكريةٍ كونيّةٍ شموليةٍ...»، ولعلّ هذا ما يعود إلى تعمّق حاوي في قراءة «الصراع الفكري."
هنا ينهض رمز العنقاء بالنّار المقدّسة، لأنّه يُبرز مسألة الانبعاث الذّاتي، ما يتناسب مع طبيعة النّسل الجديد؛ وتُعاضِدُهُ قصّة ملكارت وارتباطه بالنّار القياميّة. لذا يربط البعض بين رمز النّار وبين شعار الزّوبعة القوميّة الاجتماعيّة لتماثل غايتهما. وعليه، نتبيّن أنّ الشاعر حمل على عاتقه هاجس قيامة الأمّة، فهو يضطلع بدورٍ خلاصيٍّ في حياة الجماعة، وهذا ما دفع كمال خير بك إلى ربط صورة الإنسان/ الشاعر بفكرة الإنسان المتفوّق عند نيتشه.
ونخلص إلى أنّ حاوي اندمج في عمليّة الفداء والانبعاث نتيجة حضور الهاجس القوميّ في وجدانه، وإيمانه بأنّ القيامة حاصلة. لذلك شكّلت الرّموز «التمّوزية» قواماً لشعره، وهي رموزٌ «تحمل عصمة اليقين الجماعيّ» بالبعث.
بالنّتيجة، نجد أنّ المرجعيّة الفكريّة قد أدّت دوراً فاعلاً في تشكيل رؤية حاوي الفريدة التي تدور حول محور قوميّ حضاريّ يرتبط بعمليّة رصد الواقع المزري للأمّة، وإنارة المسار نحو خلاصٍ ممكن. هذه الرّؤية التي أثّرت في نظرته إلى الشّعر عموماً؛ ومنها اللّجوء إلى الرّموز بأبعادها الدّلاليّة المتنوّعة، ولا سيّما التّمّوزيّ الذي اشتُهر به وفق نهجٍ خاصّ.
غير أنّ هذا المنحى لم يتّخذ شكلاً واحداً دوماً، إذ خضع أحياناً للتشاؤم واليأس، لأنّ أمله «كان أملاً خارجياً مؤقتاً لم يعمّر وظل الشاعر يحيا في مدينة سدوم يخرج منها ويعود إليها»؛ وهذا ما نراه واضحاً في أليعازر. الأمر الذي أدّى به إلى قرار إنهاء حياته مع بدء اجتياح عام 1982. ومهما يكن من أمر، فإنّ خليل حاوي يبقى علامةً شعريّةً فارقةً في تاريخنا الإبداعيّ، كما أنّ نتاجه سوف يبقى كنزاً غنيّاً وعزيزاً من تراث بلادنا.
عميد الإذاعة والإعلام
في «الحزب السّوريّ القوميّ الاجتماعي"