من المؤكّد بالنّسبة إلى القارئ لفكر سعاده أنّ المنطلق الثّقافيّ والفعل الثّقافيّ أمر محوريّ في نهضته وحزبه، وقد أوضح حضرة الأمين أصفهاني ذلك في كلامه، محيطاً بمجموعةٍ من المفاصل الرّئيسة والحاسمة في هذا المجال. غير أنّه يمكننا أن نعقّب على بعض النّقاط في محاضرته، لنلقي الضّوء على جوانب إضافيّة من مسألة محوريّة الثّقافة لدى سعاده.
في البداءة، يمكن أن نشير إلى المفاهيم والمصطلحات التي أدخلها سعاده، وهي مسألة لا تنفصل عن الأساس الثّقافيّ؛ إذ أنّنا، بالإضافة إلى ما أورده حضرة الأمين، نقع على جانب الدّقّة في إيراد المصطلحات وتحديد المفاهيم المرتبطة بها، وهذا ما نرجّح أنّه لم يكن من قبيل الصّدفة، إذ أنّ إطلاق فكره القوميّ الاجتماعيّ أتى بالتّزامن مع تطوّر علم المصطلح في العالم، خصوصاً ما نعرفه عن التّأسيس الفعليّ لعلم المصطلح الحديث في فيينّا، على يد يوجين ڤوستر Eugene Wüster (1898 – 1977)، وذلك في العام 1931؛ إضافةً إلى تشكيل "اللّجنة التّقنيّة للمصطلحات" في الاتّحاد السّوفياتي سنة 1936. ما يعني احتماليّة اطّلاع أنطون سعاده على هذا الحراك العلميّ المستجدّ آنذاك، والإفادة منه في أطروحاته. ولنا في ذلك مثال واضح يرتبط باستخدامه لمصطلح "المعرفة" ضمن مقولته الشّهيرة "المجتمع معرفة والمعرفة قوّة"، وانسجامه مع ما تقدّمه المقولة السّقراطيّة "أيها الإنسان، إعرف نفسك بنفسك" (سقراط).
ولعلّ هذا ما يفسح في المجال أمام التّطرّق إلى تماسك الفكر القوميّ الاجتماعيّ، لأنّ أساسه الرّؤية الثّقافيّة التي ينبثق عنها المنهج العقليّ الذي اتّخذه سعاده، والذي يؤدّي إلى التّعيين بوصفه شرط الوضوح. وفي هذا يمكننا اللّجوء إلى المقولة التي أوردناها آنفاً، وأعني: "المجتمع معرفة والمعرفة قوّة"، بصفتها مؤشّراً على ذاك التّماسك. إذ يبدو لنا تركيزه على مفهوم المعرفة، واستخدامه لهذا المصطلح بالتّحديد، لا لبديلٍ منه، لكونه لا يتوقّف على مجرّد العلم بالشّيء في المنحى الشّكليّ للكلمة، بل يتعدّاه ليجعل المفهوم يطال الإدراك والسّلوك في آن، ما يعني الاشتمال على جانبي (الثّقافة والحضارة) معاً، وبالتّالي ندخل في مسارٍ مدرحيٍّ متكامل في التّفكير.
وهنا تغدو المقولة الشّهيرة الأخرى لدى سعاده: "العقل هو الشّرع الأعلى" أكبر من مجرّد شعار، بل تصبح أكثر وضوحاً وأكثر ارتباطاً بالمنحى الثّقافيّ، لكون العقل لا يكون إلّا عبر استناده إلى المعرفة، بدرجةٍ مباشرة، وبالتّالي إلى المجتمع الذي يعني خضوع العقل إلى خطط النّفس السّوريّة ومحدّداتها.
وعليه، يمكننا أن نتكلّم على ما جاء به حضرة الأمين في ما يتعلّق بالرّبط بين الهويّة والثّقافة، وهذا أيضاً أمر محوريّ في الفكر القوميّ الاجتماعيّ، إذ أنّ طبيعة المنهج التّفكيري لدى سعاده ترتبط حكماً بإحداث فاعليّة داخل الأمّة تتماشى مع الطّبيعة الخاصّة بخطط النّفس السّوريّة، وبالتّالي تستند إلى مواهب الأمّة وروحيّتها، وهنا نقرأ:
"... فالأمّة السورية أمّة عريقة في الثقافة والتمدّن، أمّة خصبة النفس، متحرّكة العقل – أمّة شديدة الإحساس بالقضايا العميقة في الحياة. لذلك كانت نهضتها أمرًا يختصّ بصميم طبيعتها ومواهبها المؤهَّلة لفاعلية عظيمة، فالأمور المفروضة فرضًا بدون تأسيس في نفسية الأمّة لا يمكن أن توصل الأمّة إلى غايتها العظمى". (الأمة تريد نهضة لا حلة – الجيل الجديد - 16 نيسان 1949).
وقد يكون في هذا الكلام إشارة واضحة إلى أنّ الثّقافة لا يمكن أن تكون مستندةً إلى الدّخيل، أو المفروض على المجتمع فرضاً، بل على ما هو منسجم مع روحيّتها وخطط نفسيّتها. ولعلّنا نجد في أمثلة سعاده حول الثّقافات الزّراعيّة المتعاقبة: (المعزق ß المحراث ß البستان) أبرز دليل على أنّ الجماعات تكوّن ثقافتها المنسجمة مع بيئتها ونفسيّتها. لذلك فإنّ النّهضة السّوريّة القوميّة الاجتماعيّة أتت منسجمةً مع طبيعة هذه النفسيّة وهذه البيئة.
أمّا الفكرة الأساسيّة الأخرى التي يؤكّد عليها حضرة الأمين، فتكمن في خضوع ثقافة المجتمع للتّقلبات الاجتماعيّة السّلبيّة أو الإيجابيّة، ما قد يجعل بعض المراحل الثّقافيّة منارةً لأمّة، وبعضها الآخر مرآةً فحسب. وهذا ما يدخل منه حضرة الأمين لينقد الثّقافة المعاصرة في مجتمعنا، لكونها تقع في معظمها ضمن المنحى السّلبيّ، ما لا يخدم حياة الأمّة وقدرتها على التّطوّر. وهنا يأتي دور النّهضة السّوريّة القوميّة الاجتماعيّة لتصويب البوصلة الخاصّة بثقافة الأمّة، ولإعادة بناء تلك الثّقافة. لكن هذا يعني أنّ الدّور الملقى على عاتق الحزب اليوم، كما في أيّ وقتٍ آخر، يقع ضمن الإطار الثّقافيّ، وضمن إطار إرساء رؤية ثقافيّة واضحة وأصليّة، ما يعني مسؤوليّة كبرى في البناء الثّقافيّ الدّاخليّ قبل كلّ شيء، كما يوضح سعاده نفسه بالقول:
"إن الثقافة ناحية أساسية من نواحي عملنا. وأنا لا أقصد من ذلك مجرد ستر الحركة ووقايتها، بل تنشيط العمل التثقيفي الذي هو في أساس جميع أعمالنا الأخرى" (الأعمال الكاملة، الجزء التاسع، ص304)
انطلاقاً من ذلك، لا بدّ لنا من الإشارة إلى ملاحظة أساسيّة تتجلّى في تمحور الثّقافة القوميّة الاجتماعيّة حول مسألة "الجدّة" أو "الجديد": المجتمع الجديد، الجيل الجديد، الإنسان الجديد، النّظرة الفلسفيّة الجديدة... وهذا ما يشير إلى أنّ الرّؤية الثّقافيّة التي تنطلق منها مؤسّسة على التّغيير والتّجديد، ولا يمكن أن تكون متقبّلةً للواقع الفاسد، وإلّا لما كان هناك مبرّر لوجود الحزب في الأساس. وهذا ما ينسحب على الواقع الثّقافيّ السّائد بالنّتيجة، إذ أنّ القوميّ الاجتماعيّ لا يقبل بالأمر الواقع المفعول، بل يفعل فيه ليبني الجديد المرتكز إلى الثّقافة = المعرفة وانسجامها مع نظرةٍ أصليّةٍ إلى الحياة والكون والفنّ.
وقد يكون لنا في قصيدة "الجسر" للشّاعر القوميّ خليل حاوي، أبرز مثالٍ على هذا الصراع ضد عوامل الرّجعيّة والتّخلّف داخل المجتمع، وعلى هذا الدّور الذي تتنكّبه النّهضة، كما تنكّبه سعاده من قبل.
في الخلاصة، إنّ المنحى الثّقافيّ ليس مسألةً عابرة في الحزب السّوريّ القوميّ الاجتماعيّ، بل مسألة أصيلة تدخل في أساس نهضته؛ عليه، فإنّ منطلقه يتجلّى بالنّظرة الجديدة، وفعله يتجلّى في إحداث التّغيير داخل المجتمع بعد أن يكون قد أحدث هذا التّغيير في نفوس أفراده وروحيّتهم الواحدة. وفي هذا صراع لطالما انتصرت فيه العقيدة القوميّة الاجتماعيّة، وهي تستمرّ حتى تواصل صراعها من أجل الانتصار في إنقاذ الأمة من براثن التخلف.