تمهيد
في ربع القرن الأخير، وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي وانفراط عقد الكتلة الشرقية، ساد اعتقاد قويّ، في العالم الغربي الليبرالي، بأن نجم الاشتراكية أفلَ إلى غير رجعة، وإنَّ الرأسمالية استعادت ألقها القديم. لكنّ الرأسمالية الليبرالية التي تدّعي انتصاراً وهيمنة في عالم اليوم، هل حملت، فعلاً، حلولاً حقيقية لمشكلات العالم المعاصر، أم أنها -كصنوها الاشتراكية- سقطت في التجربة، على الرغم من مكابرتها بامتلاك القدرة على تجديد نفسها، عند كل منعطف؟
في مطلع الأربعينيات (حزيران 1942) من القرن الماضي، وبينما كانت «القوّات الفاشية» تتقدَّم في كل أوروبا منتصرة على خصومها من «الدول الديموقراطية» الليبرالية، انطلقَ صوتٌ معتدٌ بنفسه، من هذا المشرق، يعلن أن الديموقراطية الرأسمالية «أصبحت كابوس العامل والفلاّح» (سعاده، م6، ص93).
وفي نهاية الأربعينيات (1948) وقد خرجت «الدول الديموقراطية» منتصرة في الحرب العالمية الثانية، يعلن ذاك الصوت نفسه، بذات النبرة والقوّة والثقة، أنّ النظام الديموقراطي الرأسمالي الذي يزهو بانتصاراته الحربيّة لم تكن له من نتيجة اجتماعية غير «الحفز» على نظام حرب الطبقات، وإنه «لم يكن نظاماً صالحاً للبقاء لأنَّ المشاكل الاقتصادية الاجتماعية التي نتجت منه أحدثت، ولا تزال تحدث -حيثما بقي هذا النظام فاعلاً- تشنّجات واضطرابات كبيرة» (مرجع نفسه). وعليه، فإنَّ الديموقراطية الليبرالية التي خبرتها الشعوب المتمدنة، حتى اليوم، «لم تتمكّن من حلّ الأضاليل الاجتماعية–الاقتصادية التي نشأت مع تقدّم عهد الآلة وارتقاء التخصّص في الأعمال وتحديدها» (مرجع نفسه).
لذلك، فالبشرية تنتظر «تفكيراً جديداً» تنال به سعادتها وراحتها وحرّيتها، ويزعم صاحب هذا الصوت، وهو أنطون سعاده، إن هذه «البضاعة الجديدة» سيخرج أكثرها وأفضلها، من سوريا، بلاده!
في هذه المقاربة السوسيو-فلسفية، سنتعرَّف إلى طبيعة ما يسمِّيه سعاده بـ«البضاعة الجديدة» التي يعني بها شكلاً جديداً من الديموقراطية ألا وهو نظام «الديموقراطية التعبيرية» التي يزعم أنها تحمل حلاً لمشكلات العالم التي تتزايد، يوماً بعد يوم. حلاً يزيل، من جهة، «التشنّجات» و«الاضطرابات» التي أحدثها النظام الديموقراطي الليبرالي، ويفتح، من جهة ثانية، الطريق أمام نظام جديد يوحّد قوى الإنسان، المادية الروحية، في تفاعل إيجابي جامع، تنال به البشرية سعادتها وتقدّمها.
1- في نشوء فكرة الديمقراطية
اعتُبرت اليونان، لوقت قريب، مهد الديموقراطية. غير أن الدراسات الحديثة التي ارتكزت إلى الاكتشافات الأركيولوجية المتأخرة في مناطق متفرّقة من الهلال الخصيب بدأت تعطي ثمارها في النصف الأول من القرن الماضي، واتّجهت إلى القول إن فجر الديموقراطية بزغ في هذه المنطقة من العالم القديم. وكان أنطون سعاده أول من نبّه إلى هذا الاكتشاف الجديد وأهميته، بانياً على أساسه مقولته في ما سمّاها «الديموقراطية الجديدة» أو «الديموقراطية التعبيرية».
ففي حديث إلى جريدة «لا رازون» (La Razon) الأرجنتينية في عددها الصادر في 21 أيار 1939، قال سعاده: «إنني ألفت الانتباه إلى أن سورية هي عنوان الديموقراطية التي أعطتها للعالم منذ قرون عديدة، والتي كانت مثالاً عديم النظر في انتخابها ملوكها على طريقة الاستفتاء الشعبي العام» (سعاده، م3، ص359).
وفي الثامن من أيار 1940، أي بعد سنة من تصريحه السابق، استعاد سعاده الفكرة نفسها في خطاب أمام الجالية السورية في مدينة سانت ياغو في الأرجنتين، حيث أشار إلى نشوء الديموقراطية في سورية، للمرّة الأولى، في التاريخ البشري (سعاده، م4، ص41). وكان سعاده نوّه بهذه الواقعة الجديدة، للمرّة الأولى، عام 1938 في كتابه «نشوء الأمم» حيث ذكر أنه «في المدينة السورية البحرية التي طبعت ثقافتها على البحر المتوسط كله، تحوّلت الرابطة القبلية القديمة إلى الرابطة الاجتماعية الواسعة، فزال باكراً ذلك الخضوع الأعمى للملك وزالت عن الملكية تلك الصبغة الإلهية التي كانت لا تزال ترافق الملك والأسرة المالكة في الإمبراطوريات البرية، وأصبح الملك، في ما بعد، يُنتخب انتخاباً مدى الحياة، فكان ذلك أصل الديموقراطية والجمهورية (...) في هذه المدينة (البحرية) ازدادت الحركة الاجتماعية والاختلاط الاجتماعي، وأخذت المصالح الخاصة تحلّ محلّ مصلحة العشيرة، وابتدأ الناس يشعرون باشتراكهم في حياة واحدة هي حياة المدينة. وفي هذا الشعور الجديد نجد أصول مؤسسة حقوق الاشتراك في دولة المدينة والاتجاه نحو الديموقراطية» (ص113-114).
وفي كتابه الرائد «التاريخ يبدأ في سومر» الذي نُشر بعد عشرين سنة من «نشوء الأمم» يؤكد صمويل كرامر، مؤرخ وعالم السوماريات والكتابة المسمارية، نظرية سعاده القائلة بالأصل السوري، لا اليوناني، للديموقراطية، معتبراً أن وادي الرافدين، في الهلال الخصيب، هو مهد الحضارة الإنسانية، وأن ملوكه لم يتمتّعوا بحرية تامة في أعمالهم وأفعالهم فقد كانوا يستفتون مواطنيهم المنضوين في جمعيات عمومية في قضايا الحرب والسلم. هذا اللجوء إلى مؤسسات «ديموقراطية» منذ الألف الثالث ق.م هو، لكرومر، إنجاز سومري (سوري) جديد، وسيفاجئ، ولا شك، برأيه، معاصرينا الذين يعتبرون، حتّى الآن، أن الديموقراطية هي ابتكار غربي. وما سيثير دهشتهم هو أن مهد الديموقراطية هو، تحديداً، هذا الشرق الأدنى (كرامر، 1986، ص56-60).
ظهرت التجربة الديموقراطية، أول ما ظهرت، في سورية الشرقية (العراق)، ثمّ انتقلت إلى الساحل السوري (الكنعاني)، ومنه إلى قرطاجة فأثينا وروما، عن طريق المهاجرين الكنعانيين.
2- نقد النظام الديموقراطي الليبرالي
من موقعه كمفكِّر وصاحب مشروع سياسي، وانطلاقاً من متابعته الحثيثة للنظام الديموقراطي التمثيلي في البلدان التي تبنّته، خصوصاً في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، وجد سعاده أن هذا النظام لم يتمكَّن من تكييف أحوال هذه المجتمعات ولا من استيعاب التطوّرات السياسية والاقتصادية المتلاحقة، بل أثبت عجزه حتى في البلدان «الأكثر» ديموقراطية والأكثر تطوّراً في العالم. وكان سعاده قد أعلن رأيه السياسي في النظام الديموقراطي البرلماني في بلاده باكراً، حيث قال عام 1938: «إن هذه الحالة التي تتخبَّط فيها الأمّة السوريّة اليوم لا تنفع في إنقاذها منها النظم البرلمانية التي تزيد على سوئها سوءاً، وعلى تفكّكها تفكّكاً، وعلى اتجاهاتها اللاقومية المتباينة اتجاهاً لا قومياً متبايناً» (سعاده، م4، ص120-121).
ثم إن هذا النظام سهّل (ويُسهِّل) للإقطاعيين والرأسماليين، في الشرق كما في الغرب، على حدٍ سواء، جني الثروات الفاحشة من أسهل الطرق وأقصرها، وفتح (ويفتح) الباب واسعاً أمام الديماغوجيين والانتهازيين الذين يستغلّون الشعب، السليم الطويّة، بخطاباتهم البليغة، ومناوراتهم السياسية وألاعيبهم الدونكيشوتية. ففي هذا النظام تكون السلطة السياسية، أي الدولة، ممثّلة للإرادات الفئوية المحكومة بقوى اجتماعية واقتصادية وعسكرية متمكنة في المجتمع، هي قوى الإقطاع المالي والطائفي والعائلي، وقوى الإرادات الأجنبية النافذة إلى هذا النظام من خلالها. وقد بسط المفكِّر القومي الراحل هنري حاماتي رأي سعاده في النظام البرلماني في الصيغة التالية: «إن هذا النظام يقوم على مبدأ «تمثيل» الحالات الراهنة، لا تطويرها، بحيث تكون السلطة السياسية «الانعكاس» الأنقى والأمثل لأحوال المجتمع وأوضاعه ومتاعبه. وما قيم العدالة والحرّية التي يغري الناس بها سوى «عدالة» هذا التمثيل و»حرّية» هذا التمثيل... إنه نظام التعاقد بين السلطة السياسية العليا في الدولة، وبين مراكز القوى الوضعية المتمركزة في أوضاع المجتمع. وبفضل هذا التعاقد تكون السلطة السياسية تابعة لمراكز القوى الوضعية بل مجسِّدة لمصالحها ومعزِّزة لوجودها» (راجع مجلة «اتّجاه»، العدد 2، أيار/ حزيران 1996، ص 139).
وميَّز سعاده بين الديموقراطية والبرلمانية، مستغرباً هذا الخلط بينهما في الأدبيات السياسية، إلى درجة أن أصبح النظام البرلماني مرادفاً للديموقراطية. فالبرلمانية، برأيه، هي شكل من أشكال الديموقراطية ولكنها ليست الديموقراطية بعينها، والحكم القائم على الثقة المطلقة هو أيضاً حكم ديموقراطي وإن لم يكن برلمانياً، فقد «يُعطي الشعب حكومة واحدة معيّنة انتداباً مطلقاً يُسلّم فيه إليها حقّ فعل ما تراه مناسباً لخير الأمة وارتقائها، لأنه وثق بها ثقة مطلقة. إذ لا يجوز أن يقوم الحكم المطلق إلاّ على أساس الثقة المطلقة» (سعاده، م2، ص357).
لهذا لم يراهن سعاده مطلقاً على النظام الديموقراطي التمثيلي البرلماني لتطوير الحياة القومية في المجتمع السوري العربي الذي يحتضن من المشكلات الاجتماعية والنفسية والاقتصادية ما لا حصر لها، لأنه نظام انشلّت فيه ذراع الدولة، بعوامل التمزّق الاجتماعي والتخلّف الاقتصادي والتقهقر السياسي.
3- في مبرّرات النظام الديموقراطي التعبيري
لم يكتفِ سعاده بنقد الليبرالية، نظاماً ومبادئ سياسية، مبرهناً عن عجزها وقصورها، بل وضع، هو أيضاً، قواعد نظام جديد قام على مجموعة مبادئ سياسية حقوقية هي نتاج مذهبه الاجتماعي ونظرته إلى الدولة والمجتمع. قال بهذا الخصوص: «إننا نشقّ في الحياة طريقاً جديداً نختاره لأنفسنا ونعتمد عليه في تفكيرنا الخاص، وسوف يكون هذا الطريق في جملة الإنتاج الذي يأخذه الناس عنا. إنَّ التفكير الحاضر دخل في طور الشيخوخة في العالم كلّه، والبشريّة بأسرها تنتظر تفكيراً جديداً تنالُ به سعادتها وراحتها وحرّيتها. وهذه البضاعة الجديدة سيخرج أكثرها وأفضلها من سورية، بلاد العبقرية والنبوغ» (سعاده، م4، ص38).
وقد وصف أحد المفكِّرين القوميِّين هذا النظام بـ«النور الجديد» حين قال في مقال نشره في جريدة «السمير»، في بروكلن (الولايات المتحدة) عام 1940: «إن سورية تستطيع أن تكون مطلع النور الجديد للعالم مرّة أخرى بإنشائها النظام المثلي للحكم الذي يصبح أنموذجاً للأمم تنسج على منواله وتبني على مثاله».
فانطلاقاً من حاجة مجتمعنا والمجتمعات الإنسانية لنظام حكم جديد، يحصّن العامل السياسي، أي الدولة، من طغيان القوى المستبدّة بالرأسمال والإنتاج، وينظّم قوى الإنتاج، المادية والروحيّة، ويواكب التطوّر الهائل الذي يشهده العالم في العلوم والمعارف والتقنيات، فإنّ الديموقراطية التعبيرية التي دعا إليها سعاده هي، برأيه، شكل الحكم الموافق لأوضاع مجتمعنا، والمجتمعات المشابهة له: «إن الديموقراطية الحاضرة قد استغنت بالشكل عن الأساس فتحوَّلت إلى نوع من الفوضى لدرجة أن الشعب ذاته أخذ يئنّ من شلل الأشكال التي أخذت على نفسها «تمثيل» الإرادة العامّة، وصار ينتظر انقلاباً جديداً. وهذا الانقلاب الجديد هو ما تجيء به الفلسفة السورية القومية الاجتماعية القائلة بالعودة إلى الأساس والتعويل على «التعبير عن الإرادة العامة». فالتفكير السوري القومي الاجتماعي الجديد هو إيجاد طريقة جديدة اسمها «التعبير عن إرادة الشعب». وقد يكون هذا التعبير بواسطة الفرد أو بواسطة الجماعة حسبما اتفق أن يوجد. فهذه الفكرة الجديدة (أي التعبير عن إرادة الشعب) هي الاكتشاف السوري الجديد الذي ستمشي البشرية بموجبه فيما بعد، وهو دستورنا في سورية الذي نعمل به لنجعل البلاد دائماً كما تريد الأمّة. إنّ الأمم كلّها تريد الخير والفلاح، ولكن المشكل هو في إيجاد التعبير الصالح عن هذه الإرادة. فالإرادة العامة، إذا لم تجد «التعبير» الصحيح في فكرة واضحة وقيادة صالحة، تصبح عرضةً لأن تقع فريسة للمطامع والمآرب «التمثيلية»» (المرجع نفسه).
ماذا يعني سعاده بهذه المفردات التي يستخدمها في النص المتقدِّم: التمثيل، التعبير، الإرادة العامّة.
يُطلق التمثيل (la représentation) في اللغة، على قيام الشيء مقام الآخر، كأن تقول: مثَّل قومه في دولة، أي ناب عنهم. ومنه أيضاً تمثيل المسرحية، وهو عرضها على المسرح عرضاً يمثِّل الواقع. والتمثيلي، هو الذي ينوب عن الشيء ويقوم مقامه كالمجلس التمثيلي الذي ينوب عن الشعب (صليبا، المعجم الفلسفي، م1، ص341).
والتمثيل، عند سعاده، صفة مرادفة للجمود، لأن وظيفة الممثِّل هي تمثيل الشيء، أو الواقع، لا نقده أو تطويره أو تغييره. وعليه، فالمجلس التمثيلي أو النيابي، على المستوى السياسي، يمثِّل أوضاع المجتمع تمثيلاً صحيحاً، بمعنى أنه يقدِّم صورة واقعية عن أحوال هذا المجتمع وأوضاع القوى السياسية المتحصِّنة في ثناياه وتلافيفه. إن دوره يقتصر على التمثيل لذلك لا أمل ولا رجاء -يقول سعاده- في المجالس التمثيلية، على الإطلاق!
والتعبير عن الشيء (l’expression) هو الإعراب عنه بإشارة أو لفظ، أو صورة، أو نموذج. فالإشارات والألفاظ تعبِّر عن المعاني، والصور تعبِّر عن الأشياء. وكلّ نموذج يعبِّر عن الأصل الذي أخذ عنه. ومن قبيل ذلك قولنا: الأرقام تعبِّر عن الأعداد، والمعادلات الجبرية تعبِّر عن الأشكال الهندسية. ويطلق التعبير على الإعراب عن الحالات النفسية ببعض الظواهر الجسمانية، كتعبير حمرة الوجه عن الخجل، واضطراب الحركات عن الوجل. والتعبير عمَّا في النفس بيانه والإعراب عنه. وليس المقصود بالتعبير هنا، أن تكون الصورة الفنّية، مثلاً، مطابقة للأشياء التي تمثِّلها، وإنما المقصود به أن تكون دلالة هذه الصورة على الأشياء مصحوبة بما يضعه الفنان فيها من إحساسه وخياله وعناصر تجربته (المرجع السابق، ص301).
والتعبير، عند سعاده، يختلف عن التمثيل، لأنه يعني الخلق والابتكار والتجديد، وقد يكون التعبير بواسطة الفرد أو بواسطة الجماعة حسبما اتُفق أن يوجد. وعليه، فالتعبير ليس شأناً عددياً، يقوَى بالعدد الكبير أو يضعف بالعدد الصغير. التعبير فكرة واضحة تعبِّر عنها قيادة صالحة.
والإرادة العامة (la volonté générale) كمصطلح، ظهر مع فلاسفة القرن الثامن عشر، من الفرنسيين، ويميِّز روسّو في كتابه «العقد الاجتماعي» (Le contrat social) بين نوعين من الإرادة هما: «الإرادة العامة» و«إرادة الجميع» أو المجموع، فالأولى لا تهتمّ إلاّ بالمصلحة المشتركة، أمّا الثانية فتهتم بالمصلحة الخاصّة، لأنها ليست سوى مجموع من الإرادات الجزئية. لذلك فالإرادة العامة هي الأساس الشرعي لكل سيادة. ولكن روسّو يشترط في شرعيتها: أن تختصّ بالمصلحة العامة، وأن تؤيّدها أكثرية المواطنين، وأن لا تتخذ قراراتها لمصلحة شخص من دون آخر، فلا يراعي الحاكم إلا الصالح العام.
و«التعبير» عن الإرادة العامة هي صفة كل رجل، أو فئة، أو مجموع، يدرك/تدرك عن تجرّده/أو تجرّدها عن الأهواء الخاصة، ما يستطيع أن يطلبه من أبناء جنسه، وما يحقّ لأبناء جنسه أن يطلبوه منه.
أمّا المقصود بالإرادة العامة، في النص السعادي المذكور أعلاه، فهو إرادة الشعب، إرادة الأمّة المجتمعة في وحدة حياة، ووحدة موقف، ووحدة هدف، ووحدة مصير! الأمة الموحَّدة الروح، الموحَّدة الفكر، والموحَّدة الاتجاه! الأمّة التي اجتمعت على قضية واحدة تنال بها حرّيتها وسعادتها وتعبِّر بواسطتها عن مقاصدها العليا في الحياة!
بماذا يفترق هذا «النظام الجديد» الذي يدعو سعاده إلى اعتماده عن ذلك «النظام القديم» المتهاوي؟ وماذا تستطيع الديموقراطية التعبيرية، بوصفها شكل الحكم في النظام الجديد، أن تفعل لبلادها، وللعالم أجمع:
1- إنَّ النظام الديموقراطي التمثيلي يقوم على مبدأ «تمثيل» أحوال المجتمع بحيث تكون السلطات السياسية انعكاساً مباشراً لأحوال المجتمع وأوضاعه ومتاعبه. ولذلك هو نظام تتعاقد فيه السلطات السياسية مع مراكز القوى الوضعية المتمركزة في أوضاع المجتمع على قاعدة تبادل المنافع والخدمات.
2- هو نظام تعطّل فيه الفعل السياسي الحرّ وانشلّت يد الدولة التي هي أرقى أشكال التعبير السياسي، فلم يعد العامل السياسي يتمكَّن من تكييف أحوال المجتمع ولا من تحرير الدولة من ضغوطات القوى الوضعية المتمركزة في بؤر الإنتاج والرأسمال والإعلام.
3- إن الفارق الأساسي بين النظام الديموقراطي التعبيري والنظام الديموقراطي التمثيلي يتمثَّل في مبدأين أساسيين يتفوّق فيهما الأول على الثاني:
أ- إبقاء الفرق واضحاً بين السياسة والاجتماع: يقول سعاده بهذا المعنى: «إنه لخيال بديع في نظر غيري، وخيال سخيف في رأيي، أن يكون كل فرد من أفراد المدينة (الأمّة) المعترف بهم، شريكاً فعلياً في إدارة الدولة. إن المدينة السوريّة ظلَّت محافظة على الفرق بين السياسة والاجتماع واضحاً. وهذا الفرق هو ما مكّن الدولة من اطراد تقدّمها» (سعاده، نشوء الأمم، ص114). لذلك فإن العقل السوري الذي وصفه سعاده بالبراغماتية «اكتفى من التجربة الإغريقية للحكم الشعبي، بواسطة الشعب أجمع، بالمشاهدة» (المرجع السابق).
ماذا يعني، هنا، بالسياسة والاجتماع؟
يقصد سعاده بالعامل السياسي: الدولة ومؤسّساتها القومية العليا، بوصفها المعبِّرة عن الإرادة القومية العامة، والمظهر السياسي الحقوقي للأمّة. فإذا كانت الأمّة واقعاً اجتماعياً بحتاً، فإنَّ الدولة مظهر سياسي من مظاهر الاجتماع البشري. وإذا كان درس الأمم ونشوئها هو دراسة اجتماعية، فإن دراسة الدول ونشوئها دراسة سياسية (سعاده، المرجع السابق، ص135).
ويقصد بالاجتماع: الشعب في متحداته المحلّية، الصغرى والوسطى، في القرى والمدن والأرياف. فإذا كانت المؤسسات القومية العليا تُعنى بمصالح الإدارة والسياسة والتخطيط والتنظيم على المستوى القومي العام، فإن المجالس المحلّية الممتدة على كامل الجغرافيا الوطنية تُعنى بقضايا التنمية المحلّية، في البلدات والمدن ومراكز التجمّع البشري والإنتاجي.
أمّا في ما خصّ رأيه في ضرورة الفصل بين السياسة والاجتماع، فمردّه إلى أنَّ الدولة التي تُعنى، في جملة ما تُعنى، بتنظيم حياة المجتمع داخلياً، وتمثيله خارجياً، لا يجب أن يشترك في إدارتها كل فرد بصرف النظر عن مؤهّلاته النفسية ومستوى مداركه العقلية، لأنَّ شؤون الدولة العليا هي، من الشفافية والتعقيد، ما يمنع تفويض إدارتها إلا للأشخاص المؤهّلين عقلياً ونفسياً ومناقبياً ونضالياً لذلك الدور.
ب- الفارق الثاني الذي يُسجّل لمصلحة النظام التعبيري على النظام التمثيلي هو في إرساء البناء الأعلى للدولة على قاعدة «التعبير» عن الإرادة العامة لا على قاعدة «تمثيل» الإرادات العامة. فالمؤهلون، بوصفهم نخبة الشعب، هم قاعدة التعبير عن إرادة الأمة؛ ومنهم تنبثق القيادة العليا للدولة القومية، ولا يجوز أن يصل غيرهم إلى مركز القيادة، وإلا هبط مستوى الأداء القومي والفعل السياسي.
أمّا الوصف العلمي والقانوني لهذا النظام كما حدّده المفكِّر هنري حاماتي، في مقاله المشار إليه أعلاه، فهو نظام ديموقراطي تعبيري رئاسي:
هو نظام ديموقراطي لأنّ سلطاته تنبثق بالانتخاب، وهو نظام تعبيري لأن القاعدة الأساسية التي يقوم عليها هذا النظام هي قاعدة «التعبير» عن الإرادة العامة، بدلاً من قاعدة «التمثيل» للإرادات العامة كما في النظام الديموقراطي التمثيلي.
وهو نظام «رئاسي» لأنَّ للرئيس، رئيس الدولة، كل السلطة التنفيذية. فالرئيس هو مركز القوّة في الديموقراطية الرئاسية، كما البرلمان هو مركز القوة في الديموقراطية البرلمانية. هذه الديموقراطية التعبيرية التي يرتكز عليها النظام الجديد الذي يدعو سعاده إلى إنشائه، تستطيع:
- أولاً، أن تؤمن حضور الدولة، في عمليات الإنتاج المستقبلية، وذلك باستيعابها للتطوّرات المستجدّة على صعيد الإنتاج الكبير ومواكبتها للتغيّرات الدولية، على صعيد المنافسة الاقتصادية وفتح الأسواق الخارجية.
- ثانياً، أن تحرِّر آلة الحكم، أي الدولة، من أحوال المجتمع الضاغطة، فيصير العامل السياسي عاملاً قائداً وموجّهاً في المجتمع، وتستطيع أن تعيد تنظيم المجتمع على أساس قواه المنتجة، وأن تنمِّي إنتاجية هذه القوى.
- ثالثاً، أن تؤمّن الاستقرار السياسي المتمثِّل في قيادة الفئة المؤهّلة، التي انشقّت وتحرَّرت كلياً عن القوى الوضعية المتمركزة في المجتمع، وتسلَّحت بقوى المعرفة والإيمان والبطولة والمناقب.