«المعنى الذي تختزنه الشمس نفسها، يبدو شاحباً إذا نُظِرَ إليه خارج ذلك الحوار الغامض الخفي بين الضوء والظل» [أدونيس]
بعد نشر مقال «العروبة مفهومٌ جغرافيٌّ ثقافيّ» في «الأخبار»، وبما أنَّ المقال تعرَّضَ باختصار لأمور متعددة لا تتسعُ صفحات الصحيفة لتفاصيلها، فمن المنطقي العودة إلى الاستفاضة فيها -وقد طُلِب إليَّ ذلك- كان بينها هذا السؤال: «ما فعالية الإسلام العربي في الحفاظ على الهيكل الاجتماعي القديم للشام وأرض الرافدين؟» السؤال جيّد، وقليلون من فَكَّروا بإعطاء الإسلام هذا الدور وفي هذا المجال.
ليس الهدفُ من هذا المقال الدخول في الأمور الدينية وإنما الهدف التشديد على الدور السياسي/الدنيوي للإسلام العربي، فلا بدّ من الاعتراف والتشديد بأنَّ الإسلام دينٌ ودولة. الدين دعا إلى الإرث الروحاني الوحداني والأخلاقي الذي امتازت به بلادنا، أمّا الدنيوي فكان هدفه الابتعاد عن القبلية والعشائرية وبناء الدولة الوطنية، ثمَّ التكامل الأمني والاقتصادي. وبغير ذلك لا نستطيع تقييم المسيرة.
السؤال يستحقُّ الجواب، فلِلإسلام فضلٌ في إعادة وحدة الحياة في الهلال الخصيب، كما سيتّضِح. والحقيقة هي أنني لا أعرفُ الإسلام إلا في سياق تاريخه على قواعده المشرقية: الحجازيَّة-الشاميَّة الرافدية، كما أنني لا أعرف المسيحية إلّا على قواعدها المشرقية، وقلت إنّ الشمسَ في المشرقِ لا تشرقُ فقط على المسيحيين فقط، بل على المسلمينَ أيضاً. والتاريخ، كما سيلي، يشهدُ على ذلك في موقفهما القومي الموحَّد ضد الغزوات الاستعمارية، التي لم يكن هدفها الدين بل الأرض وخيراتها واستعباد شعبها؛ وهذا ما يشهدُ عليهِ التاريخُ حديثاً وقديماً. وبرغم الكوارث والمطبّات، بقيت لحمةٌ تشدُّ هذا المشرق بعضه إلى بعض. واللحمةُ هي الروحانية بوحدانيتها، والأخلاقية، والثقافة، والجغرافيا، والتاريخ، وفوق كلِّ شيء وحدة الحياة والمصير؛ وهذا كلُّهُ استَمَرَّ على مدى آلاف السنين. قلت في مقالي الأخير إنَّ تعابيرَ «المشرقُ» كما «الشرق الأوسط» وكما «الشرق الأدنى» وكما «شرقيُّ المتوسط» ما هي إلّا تسمياتٌ أطلقها الغرب على منطقةِ جغرافية هي «الهلال الخصيب»، ولغاية واحدة، هي عدم الاعتراف بتلك اللُحمة وتعمية العالم عن حقيقتها ووجودِها.
هذا المشرق تعَرَّض لهجماتِ الغزاة من كلِّ حدْبٍ وصوب، عسكرية وغير عسكرية، ولم تسلم منها حتى تجربته الروحية. وعودةً إلى التاريخ قبل النبيِّ العربي، وفي عهده وما بعده، سيظهرُ لنا مدى شراسة هذه الهجمات، وكيف تصدّى الرسول والإسلام لها.
كان الفرسُ قد قضوا على الدولة النيو-بابلية وحكموا بلادنا منذ العام 539 ق.م. وعلى مدى أكثر من 11 قرناً، في الوقت الذي حكم الرومان جزءاً منه. ويُقَيِّمُ الأمين الراحل أسد الأشقر تلك الفترة قائلاً: «لقد كانت اليرموك الردَّ التاريخي السوري-العربي على معركة زاما وسقوط قرطاجة أمام الرومان، وكانت القادسية الردَّ على الاجتياح الفارسي للدولة النيوبابليَّة تلكَ الفترة، وكانت إسبانيا (الأندلس) الردَّ على سقوطِ القواعدِ الأماميَّة الكنعانية السورية، قواعد هملقار، في أوروبا، الفترة الرومانية آنذاك». أمّا الفترة الثانية (التي سيأتي ذكرها) فهي الفترة المغولية - العثمانية التي امتدت من سقوط بغداد العام 1258 إلى دخول الملك فيصل الأول دمشق العام 1918.
وقد سبقت وتزامنت ونشأت مع دولة قرطاجة دولٌ عربية (نبطية وتدمرية وغسّانية) قضى عليها الغربُ بشراسته. وفي المجال الروحي، لم يكن انفصال كنيسة المشرق، بعد مؤتمر أفسس عام 431، إلا رداً على سيطرة روما على الكنيسة بشكلٍ عام. يقول المؤرخ الدكتور أسد رستم في مقدمة كتابه «كنيسة مدينة الله أنطاكية العظمى» (الجزء الأول. ص: 22): «ولم يخلُ حقل الرب في فرعيه الغربي والشرقي من الزؤان، من حب السيطرة، والمجد الفارغ، ومن الطمع والحسد وسوء الظن والحقد فكان انشقاق مؤلمٌ مخيف». أمّا مؤرخ الكنيسة المشرقية هرمز أبونا فيقول: «إن روما منذ القرن الخامس الميلادي لم تقف من هذه الكنائس موقفاً ودياً مبنياً على الأخوة المسيحية، بقدر ما يمكن تصنيفه ووصفه بموقف عدائي مبني على طروحات، ظاهرها ديني وباطنها مبطَّنٌ بأطماع تغذّيها نزعة السيطرة والتسلط على بقية الكنائس العالمية حيث فضحتها الكثير من الأحداث التاريخية، ومنها الحملات الصليبية 1097-1291 وحملات الاستعمار القديم للإسبان والبرتغاليين في أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا، والتي كانت تحت إشراف وتشجيع بابوات روما».
وتبرزُ رؤية الرسول العربي الثاقبة، لا بالصورة التي صوّرها له الأعداء، ولكن بسيرته الحقيقية وما شاهده الأصحابُ والمنصفون من رجال الفكر وما أثبتَهُ المؤرخون عنهُ. فالبعض قالوا إنّه كان أمِّياً، وإنّ دعوته لا علاقة لها بالركب الحضاري حتّى أنَّهُم شكَّكَوا بنبوته. ولكنَّ للمؤرخ كارل بروكلمان، في كتابه «تاريخ الشعوب الإسلامية»، موقفاً مناهضاً لهذا الزعم، إذ يقول: «كان محمدٌ يأخذ بأسبابِ البحث والتنسُّكِ، ويسترسِلُ في تأمُّلاته حولَ خلاصه الروحي لياليَ بطولها في غار حراء، قربَ مكة. لقد تحقق عنده أنَّ عقيدة مواطنيه الوثنية فاسدة فارغة، فكان يضُجُّ في أعماقِ نفسه هذا السؤال: إلى متى يُمِدُّهم الله في ضلالهم... ما دام، عزَّ وجلَّ، قد تجلّى، آخرَ الأمرِ، للشعوبِ الأخرى بواسطة أنبيائه؟... في غمرة هذا النضالِ... ضدَّ جحودِ مواطنيه الأرستقراطيين وإنكارهم، كان محمد يُعَزّي نفسه بالأنبياء السابقين الذين لم تكن مهمتهم مع أقوامهم أسهلَ من مهمته. وهكذا نجده في عهده الأول يكثرُ من الإشارة إلى قصص هؤلاء... وإنَّ معارضة اليهود لتعاليمه حَمَلَتهُ على أن يستنتج أنَّهم قد ضلّوا عن طريق الإيمان الصحيح، وأنَّهم قد حَرَّفوا الكتاب المقدس الذي اعتقد هو نفسه بأنَّه منزلٌ من عند الله» (الصفحات 37، 39، 47).
والنبيُّ العربيُّ لم يكن أُمِّياً كما أشيع عنه، وهو الذي أُوْحِيَ إليه بالسورة الكريمة: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)». وقد عقلنها وفَسَّرها عباس محمود العقاد بأنَ كلمة الأمِّيَّة دخيلة، جاءت من تفسير اليهود، بأنَّ كلَّ من هو ليس يهودياً هو أمِّيَ (أممي) الانتماء، أي من أمَّة أخرى. ومن الذين ينحون هذا المنحى في فهمِ كلمة «الأمّيّ» المفكِّرُ المغربيّ محمّد عابد الجابري في الجزء الأوّل من كتابه «مدخل إلى القرآن الكريم» (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2006، ص 77 -87).
وفي حواشي كتاب بروكلمان، يقولُ مترجماهُ، نعيم أمين فارس ومحمد بعلبكي، «إنَّ المستشرقين ينظرون إلى نبوة محمد، صلى الله عليه وسلم، نظرة عاديَّة مجرَّدة من الصوت الإلهي، وما ذلك إلّا من قبيل التعصب الديني على عداءٍ سياسي. إنَّهُم ينكرون أن يكون «محمد» ذا نبوة صحيحة، بينما هم يُقِرُّون بهذه النبوة نفسها لجميع أنبياء بني إسرائيل، رغم أنَّ الرسول قد علمَ بأنَّ التوراة مُبَدَّلة» (المصدر نفسه). فالرسول العربي كان مثقفاً وذا رؤية، آمَنَ بالمعرفة، هذهِ المعرفة التي ظهرت لراهبِ بصرى-الشام الأشوري. فقصة النبي مع هذا الراهب «بَحِيرا» (بخيرا لقبه الأرامي واسمُهُ الحقيقي «سَرْجِسْ» Sargues) أنَّهُ دعاه، حين كان فتىً، للجلوس على المائدة مع عَمِّه ورَبْعِهِ من ركب قريش، حينَ أَوْلَمَ لهم. وحينها عَمَد الراهبُ بخيرا إلى اختبار الفتى في أمورٍ شتى، فأفحمه الصبي، كرجلٍ ناضج، بإجابات ذكيّة تتعدى عمرَهُ، فاستشرف الراهبُ فيه النبوة والمعرفة والذكاء والرؤية. ولذلك حذّرَ الراهبُ عمَّ الرسول من كيد اليهود على الصبي؛ وقد ظهرَ هذا، بعد ذلك، في عدائهم له في المدينة.
إذاً ذلك الفتى الذي ترعرع في محيطٍ فكري وبرؤيةِ روحية وأصبح نبيّاً كان مثقفاً وذا بصيرةٍ، وهو الذي أُوحِيَ إليه بهذا الكلام: «فاعتبروا يا أُولي الأبصار». فكيفَ يفصلونه عن التراث الروحي والفكريِّ القديم كما يدَّعون؟ في مقدمة كتابه «مغامرة العقل الأولى»، تحدَّث المؤرخ فراس السواح عن التجربة الروحية للإنسان في الهلال الخصيب فقال: «إنَّ لقاء الإلهي بالإنساني قائمٌ عبر تاريخ الإنسان الروحي». وفي كتابه «لغز عشتار» يقول: «ولعل أهم ما علمني إياه العمل في هذا المؤلف، هو وحدة التجربة الروحية للإنسان عبر الزمان وفي اختلاف المكان».
وفي عودتنا إلى التاريخ، وبناءً على وحدة الحياة، نرى أنَّ «الشاميين، وملك الغساسنة جبلة بن الأيهم، امتنعوا عن قتال العرب». وفي السنين الأولى لظهور الإسلام كان عهدُ النبي محمد لأسقف نجران «الحارث بن كعب» وحثُّه المسلمين على حماية المسيحيين في المشرق؛ والحارث بن كعب هو مَن استشهد في مجزرة نجران التي ارتكبها اليهود، الذين وصلوا إلى عرش مملكة سبأ في زمن من الأزمنة الرديئة.
ويُروى عن النبي محمد أنه، حين أمر بإزالة الصور والتماثيل من الكعبة، قال لأصحابه: أزيلوا كل الصور إلا ما تحت يدي؛ وتحت يده كانت صورة مريم والمسيح. وقد أُوحِيَت إليه سُوَرٌ عنهما وهو لم يزل في مكَّة.
في واقعة «ذي قار» عام 604 م، حين ثارَ ثلاثة آلافٍ من المناذرة ضدَّ الفرس وانتصروا عليهم، وبدعمٍ من إخوتهم قبائل بكر وتغلب، قال الرسول العربي، قبل الدعوة: «هذا أولُ يومٍ انتَصَفَ العربُ من العجمِ، وبي نُصروا» (تاريخ الطبري. المجلد الأول. ص: 472). ودعَمَ الحكاية أبو فرج الأصفهاني في موسوعته «الأغاني» (ج:24، ص:76) حيث قال إنَّ يومَ ذي قار هو أوَّلُ أيّام العرب من أيّامهم الثلاثة. ومسيحيو الحيرة كانوا عرباً.
وكانت «عهدة خالد» (بن الوليد) لمنصور بن سرجون، جدّ القديس يوحنا الدمشقي؛ وكانت «عُهدة عُمر» وما سَنَّه، في «مؤتمر الجابية» في الجولان مع قوّاده، من القوانين التي نظَّمتْ توزيع الغنائمِ المنقولة وغير المنقولة، وهي العقارات المكتسبة خلال الفتوحات ومنها إلغاء الجزية. والخليفة عمر «عطَّلَ بعض الأحكام، لمّا رأى تغيُّر الأحوالِ في عهدِهِ عما كانت عليه في عهد النبي» (عبد الغفار نصر، مجلة سومر الدمشقية. العدد التاسع). وقد وجَبَ على الفقهاء، الذين اضطربوا في الأمر فعقلنوه بُعْدِيّاً، أن يقبلوا بوجود خطَّينِ وسُنَّتَيْنِ: سُنَّةِ الرسول وسُنَّةِ عمر» (هشام جعيط: كتاب الكوفة. ص: 62). وأثناء واقعة القادسيَّة ضد الفرس استنجد الخليفة عمر بجند الشام للاستيلاء على «المدائن» عاصمة الفرس. وحين تم له ذلك خاف الأراميون العرب من سكان العراق، فرحلوا شمالاً إلى «الجزيرة»، فما كان من عمر إلّا أن دعاهم إلى العودة إلى أملاكهم. وقد منع عُمر الجنودَ في معسكري البصرة والكوفة من الدخول في الحياة العامة للناس، والبقاء في خيمهم. وحول معسكرَيهم قامت مدينتا البصرة والكوفة. والخليفة عمر حين تمَّ له فتح القدس لم يُحَوِّل كنيسة القيامة إلى جامع، لكنَّه بنى جامعَ الصخرة للمسلمين.
والفتوحات العربية في الشام وفي العراق، بحسب المؤرخ الدكتور إميل زيادة، حدثت صلحاً، ما عدا معركتي اليرموك والقادسية كما ذكرنا: الأولى كانت ضد المحتل الروماني واشترك فيها الغساسنة المسيحيون العرب ومن بينهم الأرمن، والثانية كانت ضد المحتل الفارسي وشارك فيها جند الشام. والمعركتان لم يكن هدفهما نشر الدين فحسب، وإنما كانت هناك أهدافٌ اقتصاديةٌ واستراتيجيَّةٌ وجيوسياسيَّةٌ. فقبل إنشاء المملكة العربية السعودية، كان هناك ارتباطٌ حيويٌّ بين الحجاز من جهة والشام والعراق والجزيرة من جهةٍ ثانية؛ وقد شَهِدهُ النبيُّ العربيُّ. فالحجاز كانت قيادته قريشيَّة، وقريش قبيلةٌ شاميّة، والنبيُّ العربيّ كان قريشيّاً.
وفي عهد الخلافة الأموية، كان المطران الأخطل، الضليع بلغته العربية والشعر العربي، يدخلُ إلى بلاط عبد الملك بن مروان ويُستَقبَلُ بالترحاب كأيِّ شاعرٍ عربيٍّ آخر.
وعندما كان يزيد (أخو معاوية، أوّلِ خليفة أموي) والياً على الشام، عَهِدَ إلى السوريين المسيحيين بتدريب العرب القادمين من الجزيرة على السياسة والإدارة، واعتمدَ على القبائل المسيحية للدفاع عن مركزه، ووضع أفراداً معروفين وأكفاء في مراكز الدولة الحساسة إدارياً ومالياً. وأنشأ وزارة المالية التي تضمنت المالية والحربية والبحرية، وسلّمها لسرجون بن منصور، والد القديس يوحنا الدمشقي؛ وخلال التسعين سنة من عمر الخلافة الأمويَّة، قضت هذه العائلة 60 سنة في خدمتها (راجع مقال الكاتب غسّان الشامي: المسيحيون المشرقيون وعلاقتهم بالمسلمين، مجلة فكر. العدد 116. ص: 89-104). وقد وقف الغساسنة العرب إلى جانب عرب الجزيرة في معركة اليرموك ضد أباطرة روما.
وكنيسة المشرق بلغَتْ أوجها في عهد الخلفاء العباسيين الأوائل، وكان للسريان-الآشوريين دورٌ كبيرٌ في «بيت الحكمة» الذي أنشأه الخليفة المأمون، والذي كان بمثابة دارٍ للعلوم والمعرفة، وقد برعوا أيضاً بالفن والموسيقى.
إلاَّ أن العاصفة أتت، وبشراسة، هذه المرَّة من الشرق، ومن قبائل التتار والمغول التي زرعت القتلَ والدمارَ على أرضنا وبوحشية، وكان ضَحِيَتها مسلمون ومسيحيون. فكنيسة المشرق، في قرونها الأولى، كان عدد أتباعها ستين مليوناً، وكانت تتألَّفُ أكثرَ من مئة أبرشية.
أوَّلُ العاصفة كان ذلك الوباء الأصفر: جنكيز خان، تبعه حفيدُهُ الخان الآخر هولاكو، الذي دخل بغداد عام 1258 وقتل آخر خليفة عباسي عربي اسمه المستعصم، ثم تبعَه المغولي الآخر تيمورلنك، حتى خَلُصَ الأمر إلى سيطرة آخرِ فصيلٍ للمغول وهم السلاجقة- العثمانيون- الأتراك، وهؤلاء لم يكونوا أقلَّ عنفاً من أسلافهم المغول. فقبائل السلاجقة الآتية من أواسط آسيا لم يكن لهم دولةٌ في المشرق، فاستعملت الدين لتجنيد القبائل الكردية الفارسية مستخدمةً إياها لمحاربة أبناء قومهم الفرس من الصفويين الشيعة، وذلك عام 1514. ولم تنتصر عليهم فقط، بل أمعنت في القضاء على إيران الكبرى، وسلبت منهم شرقِي الأناضول، بعد أن كانت القبائلُ المغولية قد قضمت من فارس الأراضي المتاخمة للصين. تبِع ذلك إمعان العثمانيين في استخدام الأكراد في القضاء على الشعوب الأخرى في المنطقة. فكانت مجازر الأرمن في الأناضول، ومجازر العشائر الأشورية-السريانية في سفوح هكاري وطوروس، وفتوحاتهم في مشرقنا العربي، فخلا الجوُّ لهم، وكانوا قد استولوا على الخلافة العربية التي سَمَّوها «سلطنة»، ولم تفلح ثورة فخر الدين المعني في الشام من الوقوف في وجههم.
هكذا سَلَبَ الأكراد الأراضي من أصحابها ليمنحوها إلى ما أصبحَ بعد ذلك الدولة العثمانية-التركية، التي يُعانون منها اليوم، والتي عانى منها الهلال الخصيب؛ وآخرُ ما عانَوه منها مجزرةُ عام 1860، التي سيأتي ذكرها.
كان محمد عبده من أشدّ المعارضين لسيطرة العجم (الأجانب)(*) على الإسلام، ودوره في إعادة مصر إلى حظيرة هذا الفكر لا يُنكر، إذ رأى أنّ انحطاط الإسلام -في نطاق الدين والفكر والسياسة- قد بدأ عندما استعجم وانقلب أعجمياً، وأنّ ازدهاره كان مرتبطاً بإخلاصه لجوهره العربي؟ ويكاد هذا الحكم أن يتطابق مع رؤية عبدو للتاريخ الإسلامي عندما رأى في الفرس والترك وغيرهم من الأقوام الأجنبية العامل الأغلب في جلب الانحطاط للدين العربي والعلم العربي، فشكّك في إسلامهم حتى من الناحية العقيدية والضميرية البحت... عبدُه جاء لإنهاض الإسلام، وبحَثَ عن أعظم خصائصه وأعظمها وأصدقها وأبقاها، فوجدها تتجسد في عروبة هذا الدين من حيث مادته البشرية وطاقته الروحية وقيمه الأخلاقية ونهضته الثقافية. وعليه فلا مخرج من الانحطاط إلا بعودة الإسلام إلى أصوله العربية، وجوهره العربي، وأن يصبح كما بدا «ديناً عربياً» (مقال الكاتب في جريدة «الحياة» نقدٌ لكتاب «الفكر العربي وصراع الأضداد» لمحمد جابر الأنصاري، 10 شباط، 1997). ومحمد عبده بهذا «يخرج على النظرة الإسلامية الأممية الشاملة التي لا ترى فضلاً لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، ولا تميز بين جند عربي وتركي وديلمي في ظل العقيدة وتحت راية الجهاد، ليعيد تفسير التاريخ الإسلامي تفسيراً عربياً صريحاً ذا طابع قومي محدد لا يشاركه فيه مفكرون مسلمون من قوميات أخرى» (المصدر نفسه). وبالفعل فإن محمد عبده «انفصل عن أستاذه الأفغاني عندما تبنى الأخير فكرة الدعاوة للجامعة الإسلامية خدمة لنفوذ السلطان عبدالحميد» (المصدر نفسه)، وتزلُّفاً له، وتهافتاً على منصب ابتغاه من السلطان.
كان محمد عبده قد اكتشف شخصية الأفغاني الحقيقية: «هذا الإنسان ذو الهوية المتقلبة والانتساب المزيف، وكما ادعى: حجازي الأصل، هاشمي، يعود في نسبه إلى الحسين بن علي بن أبي طالب زعماً، إنما هو أفغاني المولد، إيراني الأصل، شيعي المذهب ادّعى السنية» (عبد الغفار نصر، مجلة «سومر» العدد التاسع).
ويمكن اعتبار محمد عبده «الرائد الفكري الأول للاتجاه العربي في مصر الحديثة، وقد ميّز نفسه عروبياً عن المفكرين المـصريين الآخرين ممَّن سبقوه أو جاؤوا بعده»، أولئك الذين دعوا لوطنية إمّا مصرية أو إسلامية، أو مصرية إسلامية، أو متوسطية. وهو الذي قال: «ليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة والدعوة إلى الخير والتنفير من الشرّ، وهي سلطة خولها الله لأدنى المسلمين يقرع بها أنف أعلاهم كما خولها لأعلاهم يتناول بها أدناهم» (مقال الكاتب في «الحياة»). وقد تأثَّر الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر بكتابات محمد عبدُه.
ولم تكن بلادنا فريسة لقبائل المغول فقط. فقد انضم إليهم الأوروبيّون، أحفادُ الـ»فايكونغ». فكثُرَ أعداؤنا. وفي هذه الحالة يحضُرُني قولٌ للدكتور الراحل عبد السلام العجيلي عام 1960 في كتابه «حديثُ العشيات»: في «ذلك العهدُ البئيس المجيد معاً، الذي هيَّأَ العربُ أنفسهم بعد عصورِ الاستبداد الطويلة إلى أن يستقلّوا ببلادهم ويحققوا حلمهم القوميَّ الأكبر، فإذا بهم يكتشفون فيه أنَّ كلَّ تضحياتهم السالفة لم تنتهِ بهم إلّا إلى عهد جهادٍ جديدٍ في مواجهة أعداءٍ جُدُد أقوى وأخبث ممن صارعوا وجالدوا فيما مضى». ومن رداءة هذا الزمن التعيس أنّ الرقّة، مدينةَ عبد السلام العجيلي، يحكمها اليوم أميركيون.
وجريمة سايكس-بيكو لم تكن جديدة على شعب الهلال الخصيب، ولا يمكن فصلها عن الجرائم التي قام بها الغرب ضِدَّ المشرق، بدءاً بالقضاء على دول المشرق العربية (النبطية والتدمرية والغسّانية) حوالى ألف سنة قبل ظهور الإسلام. هذا الغرب، الذي ادَّعى المسيحية، كان وراء الفتن التي حصلت في المشرق بسلوكه الاستعماري الذي تجاهلَ عمداً قول المسيح: «تعرفون الحقَّ والحقُّ يحرّركم» (يوحنا 8: 32). فالغرب لم يقف مع الحقِّ في تعامله مع المشرق بمسيحيّيه ومسلميه، وما امتلك هذه الأخلاقية، لا بل دَعَم قوى الباطل. فمؤتمر أفسس عام 431 لم ينعقد لخلافات دينيَّة بين كنيسة المشرق وروما كما أُشيع، وإنما بسبب «الدودة الرومانية» التي أطلَّت برأسها آنذاك من خلال رغبة الرومان وباباواتهم وأباطرتهم في التسلط. وقد تبع الكنيسة المشرقية لاحقاً، وللسبب نفسه، كنائس أنطاكية والقسطنطينية والإسكندرية، وذلك عام 451 م، بعد مؤتمر خلقدونية.
وكذلك فعلَ الغربُ في حروبه الرومانية «الصليبية»، وقد فضحَها المؤرخ فيليب حتي. فمع أنَّ البابا أوريانس الثاني استعمل التحريض الديني في تعبئته للغزو، فلم تكن «الاستجابة بمجملها وليدة الدافع الديني... بل كان هنالك، فضلاً عن المتعبدين، القوّادُ العسكريون الطامعون بالاستيلاء على مناطق جديدة... وتجار جنوى والبندقية وبيزا... ثم أرباب الخيال البعيد، والنفوس المضطربة، وعُشّاق المغامرات... وكذلك المجرمون والخطأة...» (تاريخ سورية، الجزء الثاني، ص:223).
أما عن فتنة 1860 التي أشعلها العثمانيون والغرب، فالدكتورة ريم منصور الأطرش، في روايتها «حرير الروح شام» والأستاذ سامي مروان مبيِّض في كتابه «نكبة نصارى الشام» شدَّدا على الدافع الاقتصادي الغربي-العثماني في إشعاله للفتنة. والدافع كان تجارة المنسوجات وخصوصاً الحرير الطبيعي. يومذاك، أصيبت صناعة الحرير في الصين بأمراض دودة القزّ، لكنها ازدهرت في دمشق، وفي سفوح الجبال اللبنانية، وأصبحت منافسة للمنتوجات النسيجيَّة الأوروبية. من جهة لم تكن الدولة العثمانية على علاقات حسنة مع أهل دمشق الذين ثاروا عليها عام 1831 وقتلوا واليها، واستقلّوا بإدارتهم، ومن جهة ثانية كانت الدولة العثمانية على وشك الإفلاس حينها، فأنجدتها بريطانيا بقرضٍ مالي، مقابل تسهيل دخول منسوجاتها إلى ديارنا وفرض ضريبة على منسوجات الحرير الوطنية، فاقتضت مصالح الأوروبيين تدمير صناعة الحرير التي كانت بيد المسيحيين، فسحب الوالي العثماني الحماية عن الأحياء المسيحية في حيَّي القيمرية وباب توما، وحرَّضوا الغلمان والعوام، يتقدمهم يهودُ دمشق، على مهاجمة هذين الحيَّين وعلى ارتكاب المجازر، بينما كانت معظم الأسر الدمشقية، وعلى رأسها الأمير عبد القادر الجزائري، تحمي المسيحيّين في بيوتها.
وفي عام 1917 تكاتف المسيحيون والمسلمون في بغداد لتفشيل الفتنة التي خطَّطَ لها الإنكليز للإيقاع بينهم. (راجع مقال «خلطة بغداد العجيبة، يبدّدها الطغاة والغزاة... ويحفظها المبدعون» - مجلة «فكر»، العدد 108 كانون الثاني-شباط، ص.32).
على أن النضالَ الوطني، الذي استمرَّ ضد قوى الاستعمار العثماني والغربي، اتّخذ أوجهاً مختلفة. الدكتور الراحل هشام شرابي وصف هذا النضال في مصر (قبل عبد الناصر) بأنَّه كان إمّا دينياً أو إقليمياً-مصريّاً، بينما كان قوميّاً في المشرق (الهلال الخصيب).
في مصر بقي الأمرُ كذلك حتى مجيء عبد الناصر وثورة الضباط الأحرار. وفي البدء لم يكن لقواد الثورة أيُّ اهتمامٍ بالعروبة. في كتابه «لعبة الأمم» (فصل: «فشلٌ في سوريا وأملٌ في مصر»، صفحة 111)، يقولُ مايلز كوبلاند: «وصلنا إلى مسألة أكثر حساسية ودقة، ألا وهي مشكلة القومية العربية، فلم يكن لدى أيٍّ من المسؤولين المصريين يومها، سواءٌ من العسكريين أم من المدنيين، أيُّ مفهومٍ واضح عن العروبة والعرب...» لكنّ عبد الناصر كان قد تأثَّر بكتابات محمد عبدُه، وأيضاً بالعروبة المشرقية، ولم يكن للمصريين، تاريخيّاً، أيُّ اهتمامٍ بالشمال الأفريقي في غربهم، لا بل كان لهم احتكاكٌ دائم بالمشرق. وقد أيَّد السوريون القوميون الاجتماعيون ثورة الضبّاط الأحرار في 23 تموز 1952، على أنَّها ثورةٌ نيليَّة قومية اجتماعية مرادفة لثورتهم السورية القومية الاجتماعية. ظهَرَ ذلك في اتصالات رفيقنا أحمد شومان بعبد الناصر وبوزير الإرشاد القومي (الإعلام) عبد القادر حاتم، وزيارات الأمين عصام المحايري الصحافية للقاهرة. وحتى أديب الشيشكلي، برغم شغفه بالسلطة، كانت له محاولات في هذا المنحى. إلّا أن قيادات الأحزاب الوطنية الموبوءة بشبق السلطة والطغمة الفاسدة التي أحاطت بعبد الناصر، أوغرت صدرَهُ ضد النهضة القومية الاجتماعية، كما أنها أعيته، فلم تدم عروبة عبد الناصر أكثر من 19 سنة حجبها الدخان الأسود المنطلق من غليون السادات الذي كان يُلَقَّمُ من تبغ هنري كيسنجر. غياب عبد الناصر والقضاءُ على العروبة في الهلال الخصيب أدّيا إلى فجوةٍ تحاول اليوم قوى الغزو الأجنبية ملأَها.
أمّا النضال ضد الاستعمار في المشرق، فقد تمثّلَ بالحركات العروبية المتتالية: كـ»الثورة العربية الكبرى» ضد السيطرة العثمانية، وكانت مشرقية خصيبية بامتياز، وذات دوافع نهضوية عميقة القدم، تعودُ في قدمها إلى مفكري النهضة الذين ارتضوا لأنفسهم حيّزاً جغرافياً مُعَيَّناً، بينهم عبد الرحمن الكواكبي، وعبد الرحمن الشهبندر، وبطرس البستاني، وإبراهيم اليازجي، وأديب اسحق، وجمعية العربية الفتاة، واللبنانيون رواد النهضة الصحافية في مصر، وشكري غانم، ورجالات المؤتمر العربي في باريس العام 1913، وخليل سعادة، وجبران خليل جبران، وشعراء وأدباء المهجر، وشهداء 6 أيار الذين عُلِّقوا على مشانق جمال باشا العام 1916، ورجالات المؤتمر السوري في فلسطين في 7 آذار العام 1920، ووقفة العز ليوسف العظمة في ميسلون... ولا تكفي الصفحات لذكرهم كلّهم. هذا المفهوم القومي تحدَّثَ عنه الكاتب الفلسطيني محمد حافظ يعقوب قائلاً «إن جيل الثلاثينات، الذي ينتمي إليه أكرم الحوراني وميشيل عفلق وأنطون سعاده وخالد بكداش، بخلاف الجيل السابق الذي ولد في نهايات القرن الماضي، اكتشف أن عليه إعادة تركيب العالم الذي كانت أركانه تميد بوضوح يستقر في اليقين، وأن يؤسس لبدء يكون صلباً لا يتزعزع من تحته، وراسخاً رسوخ القناعة بضرورته. ولم يكن ممكناً حيال التغييرات التي كانت تعصف بالبلاد والجماعات ألا يطرح سؤالُ الهويَّة». وأردفَ يقول: «لم تحتمل الجماعة البشرية في الدولة السورية كيانها السياسي إلا بصفته مرحلة عابرة، أو كشر تاريخي سيصار حتماً إلى تصحيحه بسرعة تتناسب مع حجم الخلل الكبير» (محمد حافظ يعقوب: جيل أكرم الحوراني، «الحياة» 3-7 أيلول/ سبتمبر 1996).
هذا المفهوم كان قد ترسَّخَ في دول الهلال الخصيب ولذلك دعا أنطون سعاده، إلى نهضة سورية قومية اجتماعية، وتبعه زكي الأرسوزي وعصبة العمل القومي وما تبعهم من ورثة (بغض النظر عن ممارسات هؤلاء). وبحسب تعبير أدونيس، سيظلُّ غبار الأقدام على الدربِ الوعرة صاعداً، إلى أن يظهرَ وجه العروبة الحقيقي مشرقاً وبلا أقنعة، فـ»نحن سيفُ العالمِ العربيِّ، ونحنُ ترسه، ونحنُ المدافعون عن حياضه» (سعاده)، أملاً أن يستعيد الهلال الخصيب وجهه العروبي المشرقي.
(*) يعتقد الكاتب، تاريخيَّاً، بأن كلمة «العجم» هنا وفي ما يلي لا تعني الإيرانيين والفرس، فهم شعبٌ حضاري، والمسلمون الفرس لم يستولوا على الخلافة العربية ولم يكن لهم صفة العنف ضدَّ العرب وضد الشعوب الأخرى. ومفهوم الكاتب للكلمة هو نفس المفهوم الذي وصفه الكاتب محمد عابد الجابري (نفس المصدر) بأن الكلمة تصف الأقوام التي لا يُفهمُ كلامها لأن فيه عجمة، والتي بالإضافة إلى ذلك اتصفت بالغزو.
*كاتب وطبيب