في الخامس عشر من أيار عام 1948 أنزلت العصابات اليهودية هزيمة قاسية بجيوش سبع دول عربية مجتمعة، ونتج عنها قيام دولة إسرائيل كدولة احتلال مختلف عن كلّ ما شهده تاريخ الإنسانية من احتلالات. وسارع ما يُعرف بالإعلام العربي الى التخفيف من وقع ما جرى فاعتبر الهزيمة نكبة، وما كان ذلك إلاّ انفصالاً عن الواقع. فالنكبة لغة هي المصيبة، أمّا الهزيمة في القتال فهي "الكسر والفلّ" حسب ما ورد في لسان العرب لابن منظور. وهذا الهروب من الحقيقة أثّر سلباً على نفسية كل مواطن في العالم العربي، لأنّ المصيبة التي تقع لا يمكن ردّها، بينما الهزيمة يمكن تحويلها إلى انتصار إذا تم تقويمها بشكل موضوعي، ودراسة أسبابها وتحليل ظروفها. وكثيراً ما نسمع مقولة خسرنا المعركة ولكن لم نخسر الحرب، هذه المقولة التي من شأنها شحذ الهمم وتصليب الإرادة للإنتقال إلى الصمود وتحويل الهزيمة إلى نصر. أمّا لماذا قلب الإعلام العربي الحقيقة، فهذا برأيي ناتج في أفضل الحالات عن الجهل، وفي أسوأ الحالات عن فقدان الوعي القومي والشعور الوطني الصادق وجهل الحقائق التاريخية.
وإذا ما حاولنا اليوم تحليل أسباب الهزيمة، في محاولة للإستفادة من أخطائنا ومن إنجازات العدو على حدّ سواء، كان علينا أن نضع النقاط فوق الحروف التي أدّت إلى هزيمتنا من جهة، والإضاءة على الأسباب التي جعلت عصابات استقدمت من العديد من الدول الأوروبية تنتصر على جيوش سبع دول عربية. أمّا أسباب هزيمتنا فتعود أولاً إلى فقدان الوعي القومي الحقيقي الذي من شأنه وحده أن يلهب مشاعر أبناء الشعب الواحد لكي يهبوا للذود عن حقهم وأرضهم وعزتهم وكرامتهم. هذا الوعي لم يكن متوفراً بين أفراد مجتمعنا الذي كان خاضعاً على مدى قرون أربعة لأسوأ احتلال عرفه التاريخ أي الاحتلال العثماني التركي، والذي أتى بعده احتلال آخر، على أثر هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى، هو الاحتلال المزدوج الإنكليزي الفرنسي الذي خفف وقع كلمة احتلال على الناس فأطلق على وجوده فوق أرضنا مصطلح انتداب، وكان ذلك بموجب معاهدة سايكس بيكو التي قسّمت سورية الى كيانات. وكانت الغاية من هذا التقسيم إضعاف سورية تحضيراً لزرع الكيان الإسرائيلي في الجنوب السوري أي فلسطين. وعدم الوعي القومي ذاته ساهم بقبول هذا الواقع الجديد الذي فرضه الانتداب، خاصة مع بروز خوف الأقلية المسيحية وسعيها إلى الحصول على حكم ذاتي في الجبل اللبناني. وبالرغم من معارضة الإكثرية لمثل هذا المسعى، إلاّ أنّه نجح تحت أجنحة الإنتداب، كما نجح بعد ذلك زرع الكيان الإسرائيلي. والسبب الثاني يعود إلى عدم وحدة القيادة للجيوش العربية بحيث تجسّد ذلك في عدم التنسيق والتخطيط والتعاون. والسبب الثالث تمثّل بالضغوط التي مارسها الإنتداب على قادة الأنظمة العربية المشاركة في الحرب والتي وصلت إلى الحكم برضى هذا الإنتداب ولم تكن بوارد مخالفة أوامره خوفاً من الاقتصاص منها ورغبة منها بالمحافظة على مصالحها ومكاسبها. والسبب الرابع هو الهوّة السحيقة بين الحكام ومواطنيهم الذين كانوا بمعظمهم راغبين بالدفاع عن أرضهم، لكنّ تخاذل الحكام الذين فضّلوا مصالحهم على المصلحة العامة جعلهم يحجبون الدعم عن المؤمنين بضرورة المواجهة والمقاومة، وأوضح مثال على ذلك يتمثلّ بعدم الموافقة على تسليح القوميين الإجتماعيين الذين كانوا مستعدين لخوض غمار الحرب عن وعي وتصميم وقناعة. والسبب الخامس هو عدم الإستعداد الكافي تدريباً وأسلحة في ظل أجواء غير جدّية، خاصة من السعودية ومصر اللتين تعتبران أنهما غير معنيتين مباشرة بهذه المسألة.
أمّا إذا انتقلنا إلى ضفة العدو فنجد أنّ الأسباب الإيجابية التي صبت في مصلحتهم لربح الحرب تتمثلّ أولاً بتصميمهم وعناد إراداتهم المتولّدين من عقيدة دينية تعود إلى ظهور شريعة هذه الديانة في القرن السادس ق.م. وهذه العقيدة انطلقت مع أحد كهنة القبائل العبرية التي كانت متواجدة في أرض كنعان، والذي اخترع تاريخاً وهمياً لهذه القبائل ساعد ببثّ روح العنصرية بين أبنائها وبحقدها على كلّ الأغيار، وبقيت هذه العقيدة فاعلة في ذهن الأجيال العبرية التي نشأت بعد هروبهم من فلسطين عام 70 م بعد هزيمتهم أمام الرومان الذين احتلوا كامل الأرض السورية. وما جعل هذه العقيدة تستمر هو الغلاف الإلهي الذي اضفاه عليها الكاهن عزرا ومن جاء بعده وأضاف عليها. وليس بخافٍ على أحد مدى القوة التي تكتسبها أية فكرة تستند إلى واقع إلهي.
والسبب الثاني هو نجاح الصهيونية العالمية، التي استطاعت بفعل إرهابها واستغلالها للأوضاع الاقتصادية السيئة التي حلّت بالدول الأوروبية بعامل الحربين العالميتين الأولى والثانية، من اقتناص الفرص والحصول على وعد بلفور عام 1917، وملاحقتها الدؤوبة لهذا الوعد لكي تؤمّن تحقّقه. والسبب الثالث هو التدريب العسكري والنفسي اللذين وفرتهما الحركة الصهيونية للشباب اليهودي الذي خاض الحربين العالميتين في صفوف الجيوش الأوروبية، ممّا وفرّ لهؤلاء الأجواء الإيجابية أولاً للهجرة إلى فلسطين، وثانياً للإنضمام إلى العصابات وتلقّي تدريباً زائداً ومركّزاً على أصول الإجرام الذي من شأنه إن مورس على جماعة صغيرة أن يكون درساً للآخرين الذين إمّا أن يقبلوا بالأمر الواقع أو يهجروا منازلهم وأرزاقهم لتجنب القدر المحتوم. والسبب الرابع يكمن بالمساعدات المادية واللوجستية التي تلقتها هذه العصابات من الدول الغربية لسببين : الأول تجسيداً لرغبتها بالتخلّص من اليهود المنبوذين في كلّ المجتمعات التي حلّوا فيها، والثاني استمرار الحصول على المساعدات المادية التي كان اليهود يقدّمونها لهذه الدول. والسبب الخامس والأهم هو الروح النفسية الواحدة التي كانت تدفع بشتات اليهود في العالم إلى الإستشراس بالقتال إنطلاقاً من قناعتهم أولاً بأنّ لا شيء ينقذهم مما يعانونه، برأيهم من ظلم، إلاّ بتجمعهم في دولة يهودية واحدة يكونون فيها هم الأسياد، وثانياً قناعتهم الدينية بأنّ هذه الأرض التي يقاتلون لإحتلالها هي أرض أجدادهم منذ ألفيتين من السنين، وأنّ إيمانهم يبقى ناقصاً إن هم لم يحققوا رغبة إلههم يهوه المتمثلة بإقامة مملكتهم فوق هذه الأرض.
هذه هي الظروف التي خيمّت على بلادنا غداة قرّر المحتل الإنكليزي أن يخرج من فلسطين بعدما هيأ الأجواء للعصابات اليهودية لكي تكون مستعدة لإقتناص الفرصة، وهكذا فعلت. وتوالت الهزائم إلى أن كان عام 1973 عندما تم الإتفاق بين الأردن والجمهورية السورية ومصر على مهاجمة دولة الاحتلال لاسترجاع، ليس كلّ الأرض المحتلة برأيي، بل أجزاء منها. فمصر لم تكن مهتمة إلاّ باسترجاع سيناء، والجمهورية السورية حاربت لاسترجاع القسم المحتل عام 1967 من هضبة الجولان والأردن جاراهما لكنّه كان على اتصال وثيق بالعدو وقام بتحذيره حول نية كل من مصر والجمهورية السورية. وما أن أمّنت مصر إمكانية عقد اتفاق مع إسرائيل يقضي باستعادتها لشبه جزيرة سيناء حتى تخلت هي أيضاً عن تصميم خوض الحرب، فبقيت الجمهورية السورية وحيدة بمواجهة دولة العدو التي تمكنت من جمع قواتها وإجبار الجيش السوري الذي كان قد استطاع تحرير ما يزيد على 600 كلم2 من أرض الجولان المحتل، فتراجع منهزماً وكرّس الاحتلال وجوده في هذه المنطقة الاستراتيجية، حتى أتى الرئيس الأميركي ترامب واعترف بالجولان أرضاً إسرائيلية ضارباً عرض الحائط بكلّ القرارات الدولية الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن على السواء.
إذن هي سلسلة هزائم لّما تنتهي فصولاً بعد، إذ إنّنا وصلنا، بفعل الطبقات السياسية الحاكمة في العالم العربي والمدعومة أميركياً، إلى زمن التخاذل المفضوح الذي أصبح مرادفاً لكلمة خيانة. فمنذ ثمانينات القرن الماضي بدأ العالم يشهد مساعي الولايات المتحدة المدعومة من الدول الأوروبية لتحقيق مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي يجب أن يقوم بناء على نظرية الفوضى الخلاّقة. وكاد أن ينجح في لبنان أوائل الثمانينات عندما أجتاح العدو لبنان وفرض رئيساً للجمهورية كان قد تعاون معه لدخول لبنان وارتكاب المجازر بحق الفلسطينيين ، ثم إبرام اتفاق 17 أيار. وتم إجهاض هذا التحرك المشبوه بفعل المقاومة التي اطلقها القوميون الإجتماعيون مع بعض الأحزاب الوطنية، خاصة مع إنطلاقة عمل المقاومة بعملية الويمبي التي قام بها خالد علوان والتي أجبرت العدو على الهروب من بيروت إلى الحزام الأمني الذي فرضه في حنوب لبنان والذي سقط عام 2000 بفعل ضربات المقاومة التي أدت إلى إنسحاب مذل للعدو ما زال تأثيره سارياً لغاية اليوم.
ومنذ سنوات قليلة غيّر العدو وراعيه الأميركي رؤيتهما لاستراتيجية الشرق الأوسط الجديد، وانتقلا إلى العمل الجاد لتحقيق صفقة القرن. وكانا قد نجحا باستغلال ما سمي بالربيع العربي، فركبا الموجة وخلقا داعش التي سعت إلى إحياء الخلافة الإسلامية في العراق والشام، وهذا يعني أنّ العدو صبّ اهتمامه العسكري على تقويض كيانات الهلال السوري الخصيب التي يعتبرها العدو داخلة ضمن حدود دولته اليهودية التي حدّدها لهم إلههم يهوه، وهم من أجل ذلك لم يضّمنوا دستورهم أية مادة تشير إلى حدود نهائية لدولتهم. ومن جهة ثانية صبّ جهده السياسي على إقناع الدول العربية الأخرى على أنّ اهتمامها يجب أن ينصبّ على عدائها لإيران الشيعية وبالتالي فإنّ إسرائيل والولايات المتحدة مستعدتان لتأمين الدعم اللازم لها للوقوف بوجه إيران مما يجعل من إسرائيل شريكة استراتيجية لها، وينزع عنها صفة العداء التاريخي. وهذا ما نشهده فصولاً متتالية في الآونة الأخيرة، بحيث أنّ كلّ الدول العربية، باستثناء ثلاث دول، أصبحت جاهزة لتوقيع، ليس معاهدة صلح مع اسرائيل، بل أيضاً جاهزة للإعتراف بحق إسرائيل الإلهي بالوجود والأمن والاستقرار.
فالهزيمة ليست مقتصرة على الناحية العسكرية، بل هي أشدّ وأدهى عندما تنتقل إلى الإنتصار على نفسية شعب بأكمله آمن لعشرات السنوات بأنّ أتباع دين معيّن قد سلبوه أرضه وسرقوا أحلامه وما زالوا حتى الساعة يذيقونه الظلم والعذاب والتهجير والتدمير، فإذا به يتجاوز كلّ المخطورات ولاءات مقررات الجامعة العربية، ويبدأ عملية الزحف المهين للركوع أمام جلاّده والانصياع الشامل لطلباته. وهذه المرة تجاوزت الهزيمة القيادات السياسية والعسكرية لتصل إلى أكبر شريحة من مواطني كلّ المجتمعات العربية دون استثناء. وأنا وإن كنت أؤمن أنّ المسألة الفلسطينية هي شأن سوري في الصميم لا علاقة للأمم العربية الأخرى بها إلاّ المساندة، فالمؤسف أنّ هذه الأمم قد أثرّت بتخاذلها على مواطني الكيانات السورية الذين لم يفعل فيهم بعد الوعي القومي الحقيقي فيقتنعوا أنّ عدونا ليس بطامع سوى بأرضنا السورية من فلسطين إلى العراق، وبأنّ عروبتنا ليست سوى عروبة لغوية لا تنسحب على الشأن القومي، وهذا ما باتت الأيام تثبته لكل ذي بصيرة.
لقد أثبتت المقاومة في لبنان أنّ الهزيمة ليست قدراً، وأنّ العدو استفاد من ضعفنا وتضعضعنا لكي يحقق انتصاراته،وأنّه ما أن لمس إصراراً من قلة من مواطنينا على الصمود والتصدي لغطرسته وعنصريته وإرهابه وإجرامه، حتى فرمل اندفاعاته وأوقف اعتداءاته. وإن قال البعض ها هو ما زال يغير على أرض الشام مستبيحاً الأجواء اللبنانية ، لقلنا إنّ هذا لخير دليل على أنّ الطبقة السياسية الحاكمة لم تبن جيشاً قادراً على المواجهة، وبالتالي فإنّ التآمر على المقاومة بما تشكلّ من قوة ردع، حتى ولو كان ذلك على صعيد البرّ فقط، ومطالبتها بتسليم سلاحها للجيش في ظل حكم طبقة سياسية فاسدة لا تقيم وزناً إلإّ لمصالحها، سيجعل من لبنان مكسر عصا كما كان قبل قيام المقاومة. وما من عاقل، مهما حاول المتذاكون تشويه صورة المقاومة إرضاءً لأسيادهم ولحقارة نفوسهم وذلّها، إلاّ ويدرك أنّ ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة، إذ تبقى القوة هي القول الفصل بإحقاق الحق القومي أو إنكاره كما يقول سعاده. ولا يحاولنّ أحد إقناعنا بوجهة نظر عدوّنا التي يروّج لها الغرب بأنّ إسرائيل وجدت لتبقى، لأننّا سنردّ عليهم من تاريخنا العريق الذي يشهد لنا بالوقوف في وجه هذه القبائل البربرية في تاريخنا القديم، ويشهد التاريخ الحديث أيضاً بأنّ ما عجزت عنه جيوش عدة دول عربية قد حققته المقاومة منفردة. وأنا هنا لا أشير إلى مقاومة محددة وإنمّا إلى فعل المقاومة الذي انتصر في نفوس قلة من شعبنا فدفعها إلى تسطير شهادات بطولية سيذكرها التاريخ لأجيال وأجيال. فبدلاً من أن نترك لآثار الهزيمة أن تفعل فعلها السلبي في النفوس الضعيفة، علينا أن ننظر إلى آثار هزيمة العدو أمام المقاومة فنتسلح بالإيمان القومي الذي يوحّد الرؤيا، والرؤية، والنفوس، والإرادات، والعزائم لكي تستطيع أن تقلب الهزيمة إلى انتصار إثر إنتصار. إنّ حياة الأمم لا تقاس بالسنين كحياة الأفراد، ولا بأس إن استفدنا من تجربة عدونا، ومعرفة العدو واجب وضرورة، الذي ومن منطقه اللامنطقي صبر قرابة ألفي عام وبقي مصمماً على قناعاته حتى عاد إلى أرض ميعاده المتخيّلة. فما بالنا نحن أصحاب الأرض الحقيقيين، وأصحاب القضية الحقة نتخلى عنها بدلاً من التمسك بها والتركيز على بناء إنسان جديد يؤمن بأنّ الخوارق الإجتماعية ممكنة إذا ما وفّرنا لها الظروف المؤاتية. فعمر دولة العدو اليوم لم يتجاوز عمر مملكته القديمة، والإمكانات متوافرة حتى لا يطول هذا العمر، ولا يُطلب منا الكثير بل القليل من الصمود والتصدي ليهود الداخل المتخاذلين اولاَ، والسعي الدائم لدعم المقاومين الذين سيسيرون بنا الى النصر المحتوم.