في فترة الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، كنت اتولى مسؤولية عميد للمالية برئاسة الأمين انعام رعد.. كان التوجيه المركزي ان نسحب كل المبالغ المالية من المصارف ونحتفظ بها في البيوت.
في الأيام الأولى وضعتها ضمن أوراق حماية خاصة في اسفل إناء الزريعة عند "بلكون" المنزل. بعد أيام من القلق من سقوط أي قذيفة قد تودي تسقط وتودي بالمبالغ المالية الموضعة. تداولت مع الخازن العام الأمين حنا قيصر(1)، في أي إجراء لحماية تلك المبالغ، فقررنا توزيع المبالغ المالية على منازل أمناء ورفقاء مؤتمنين. اذكر منهم الأمناء: عاصم داعوق، انيس جمال، محمد راشد اللادقي وغيرهم.
يوم دخول قوات الاحتلال اليهودي الى بيروت. كان انتقل الى منزلنا الامينان انيس وسهام جمال، ربما سألا الأمين شوقي خيرالله مثلما كنت سألته عن معلوماته او عن تقديره بالنسبة لاجتياح بيروت، اذكر ان الأمين شوقي افادني ان القوات الإسرائيلية (حسب تقديره) لن تتخطى كورنيش المزرعة ولن تدخل الى احياء بيروت.
فيما كنا صبيحة ذاك اليوم في قلق من الوضع القائم، رأينا من نافذة بيتنا المطل على شارع مار الياس، ارتال القوات الإسرائيلية تمر في شارع مار الياس المحاذي لبيتنا.
ترى ماذا افعل؟! وانا كعميد للمالية، وبعد ان وزعت المبالغ الى عدد جيد من الأمناء والرفقاء، احتفظت بمبلغ نقدي لا بأس به في منزلي، للاستفادة منه عند الاضطرار، فيما انا في حيرة، وصل الرفيق المرافق فدا(2) الى منزلنا. استقبلته بدهشة.
كيف وصلت رفيق فدا ؟!
اخبرني عن الوضع في بيروت. قررت عند ذلك ان اخرج من منزلي مصطحباً الحقيبة الصغيرة التي فيها المبالغ المالية وخرجت مع الرفيق سالكاً الطريق الخلفي لمنزلنا عبر "حي اللجا" وصولاً الى المنطقة المسماة طلعة شحادة باتجاه السفارة الفرنسية حيث كان تقرر في احدى جلسات مجلس العمد ان الجأ إليها مع عدد آخر من قيادة الحزب، فيما لو دخلت القوات الإسرائيلية الى بيروت، وان يلجأ عمد ومسؤولون آخرون الى سفارات أخرى جرى الاتصال بها.
عند وصولي الى مقربة من "الكونكورد" رأيت المدرعات الإسرائيلية تتجه صعوداً، فوراً اتجه الرفيق فدا الى منزل الأمين الدكتور عبدالله سعادة القريب.
اذكر اني لم اجد غير الدكتور عبدالله سعادة في المنزل. شرحت له وضعي كعميد للمالية لجهة توزيع المالية واحتفاظي بمبلغ في الحقيبة التي احمل.
قال لي الأمين عبدالله، انا سأبقى في منزلي واقترح عليك التوجه الى السفارة اليونانية حيث لجأ إليها رئيس الحزب الأمين انعام رعد وعدد من العمد وأعضاء المجلس الأعلى(3). وبالفعل توجه بي الرفيق فدا الى السفارة اليونانية حيث كان سبقني عدد غير قليل من القياديين.
*
بعد انسحاب القوات الإسرائيلية عدت الى منزلي ثم اعتمدت مستوصف عمدة العمل في شارع الحمرا مع المواطن آنذاك (الرفيق لاحقاً) يوسف خيرالله. وفي تلك الغرفة المخصصة كمستوصف رحت استقبل الرفقاء وتسليم المحتاجين منهم ما يستحقونه.
طوال تلك الفترة كان الرفيق فدا والرفيقة المناضلة هلا النابلسي التي كانت تقوم بمهام ناموس مكتب الإحصاء وعمدة المالية والداخلية ومختلف المهام، يتصلان بالخازن العام الأمين حنا قيصر في مقرّه السري، لتسليمه أوراق صغيرة سجلت عليها كيفية توزيع المبالغ النقدية، وكنت والرفيق فدا نجول في بيروت في مهمات حزبية متنوعة، متفقداً منازل اخوتي واقاربي الذين غادروها، رغم كل ما كانت تتعرض له بيروت من قصف مدفعي وصاروخي.
اشهد اني طوال تلك الأشهر، كنت اولي الرفيقة هلا والرفيق فدا كل الثقة. لم يتراجع الرفيق فدا يوماً واحداً دون الوصول الى منزلنا تحت قصف الطائرات والمدافع ويقلّني في شوارع بيروت، بحيث اني لا اذكر ان رفيقاً او مسؤولاً كان بحاجة لمبلغ نقدي لم نقم بتسديده له. الرفيقة هلا كانت اليد اليمنى بالنسبة للاتصالات مع الخازن العام والأوراق اللازمة في ظروف صعبة للغاية.
بعد ان افرج عن الأمين جورج شربل(4) ابلغني عميد العمل الأمين نصري خوري، ان قراراً اتخذ في مجلس العمد المنعقد في شتورا يقضي بمغادرتي لبنان الى البرازيل لأقوم بمهمة المندوب المركزي ذلك ان المعلومات التي نقلها الأمين جورج شربل "هي ان دوري آتٍ"، اذ كنت اتولى في حينه مسؤولية عميد للمالية ومسؤولية الإحصاء المركزي ومنهما يتمكن العدو الإسرائيلي من معرفة مصادر الحزب المالية ومعلومات إحصائية عن الحزب.
عندها تركت زوجتي وطفلتي ايلينا وغادرت الى البرازيل. اشير بكثير من التقدير الى الخازن الأمين حنا قيصر الذي رفض ان يغادر او ان يتوقف عن ممارسة مهامه كخازن عام قبل ان يرفع كشفاً بالحساب المالي الى المجلس الأعلى، وهكذا تمّ.
التقدير الآخر هو للرفيق فدا الذي ابى ان يغادر الى دمشق لخدمة العلم او الى العزونية حيث يقيم مع اسرة والدته. بقي معي حتى لحظة مغادرتي بيروت. لم اجد في حياتي رفيقاً يتمتع بهذا القدر من الجرأة، من التفاني، من معاني الصدق والإخلاص والأمانة كما هو الرفيق فدا. لتاريخه لا انقطع عن الاتصال به والاطمئنان عنه.
هوامش:
1- حنا قيصر: شارك في الثورة الانقلابية وأسر يتمتع بالكثير من فضائل النهضة. توجه بعد خروجه من لبنان الى دبي حيث عمل في مهنة المحاسبة.
2- فدا: هو الرفيق غسان الشومري، من منطقة السويداء. والده الرفيق يوسف كان تولى حراسة المركز في فردان. اقترن الرفيق يوسف من سيدة من آل عماد من العزونية، واستقر فيها. حالياً يقيم الرفيق غسان في بلدة والدته.
3- اذكر من المسؤولين الأمين جورج شربل، الأمين داود باز الذي كان يخرج من السفارة لاتصالات معينة ثم يعود إليها. في تلك الفترة لا انسى الرفيق البطل طوني روكز(5) الذي كان يتردد الى السفارة اسلّمه مبلغاً مالياً محدداً ويخرج بعد ذلك للقيام باتصالاته.
4- جورج شربل: كان الأمين جورج شربل يتولى مسؤولية وكيل عميد الخارجية قائماً باتصالات لافتة مع سلك السفارات في تلك الاثناء وعلى علاقة جيدة مع قسم منها. اعتقل من قبل "الثنائي في تلك الفترة" مخابرات الجيش والقوات اللبنانية. عندما خرج بضغط من نقابة المحامين التي تحركت في حينه، صرّح ان دور الأمين لبيب ناصيف آتٍ. للاطلاع على النبذة المعممة عنه الدخول الى موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية ssnp.info.
5- طوني روكز: كان يتولى مسؤولية منفذ عام الطلبة الجامعيين. مثقف ونشيط. من بلدة "باب مارع" المجاورة لبلدة "صغبين" – البقاع الغربي. اعتقل من قبل الثنائي المشار إليه آنفاً. تعرّض للتعذيب فالتصفية.
في: 17/03/2023 لجنة تاريخ الحزب