بدأ العالم يتأقلم مع وجود وباء الكورونا، حتى دون وجود علاج شافي. فبدأت الحياة تعود تدريجياً الى كافة القطاعات، مع تطبيق اجراءات وترتيبات وعادات جديدة لتفادي انتشار الوباء. وهذا الواقع يفرض نفسه على القطاع التربوي ايضاً، مع أن معظم العالم الغربي ومنطقتنا لديها فترة شهرين او ثلاثة خلال العطلة الصيفية لالتقاط الانفاس، علماً أن العالم الشرقي مثل الهند والصين غيرها يبدأ العام عندها في نيسان وينتهي في اذار.
ويعتمد ما يجب أن نقوم به من تحضيرات خلال الشهرين القادمين، وفي المدى المتوسط، على ما يجب أن نتوقعه من سيناريوهات لطريقة "العودة" الى التعليم في العام الدراسي القادم، مع أن الكثير من وزارات التربية عندنا، في لبنان والشام والاردن وغيرها قد اعلنت عن خطط للعودة بطريقة أو بأخرى.
الثابت حتى الآن أن لا عودة الى حضور كامل للطلاب في المدرسة لدوام كامل كما كان الوضع قبل الكورونا، بسبب ضرورة تطبيق اجراءات التباعد الاجتماعي وغيرها للحفاظ على السلامة، ولو مرحلياً. هذا اذا بقيت الامور كما هي عليه الى ان يتم اكتشاف لقاح شافٍ للوباء.
في الوقت نفسه، ما زالت المناهج نفسها، وبالتالي لا يمكن اتمامها بدوام جزئي او نصفي، ولا بد من ابقاء نوع من التعلم عن بعد، ولو جزئياً. وقد تعوّد البعض على هذا النوع من التعليم ورأوا فيه بعض الايجابيات، مما يفرض على المدارس الاستفادة منها حتى بعد زمن الكورونا.
ولكن، لا بد من معالجة مسألتين جذريتين حتى تتمكن المدارس من ترسيخ هكذا نمط من التعلم يدمج التعليم الحضوري مع التعلم الالكتروني عن بعد: 1- عدالة الوصول الى جميع الطلاب، و 2- فعالية التعلم الالكتروني من خلال تأمين مستلزماته بحسب افضل الاختبارات الدولية. وهذا ما يجب ان يتركز عليه اهتمام وزارات التربية في كافة الدول:
1- عدالة الوصول: يجب التأكد من تمكّن جميع الطلاب، من التواصل مع جهاز مناسب مربوط بخدمة الانترنت لفترة معينة يومياً، سواء من خلال جهاز كمبيوتر او تابلت يملكه، أو يزود به للاستعمال الشخصي في المنزل، أو من خلال مراكز تعلّم اجتماعية قريبة من المنزل تؤمنها البلديات او المنظمات الاهلية في حال عدم القدرة على تأمين أجهزة خاصة. كما يجب توفير وصول آمن وسهل ومتاح الى الانترنت، اما من خلال تقديم كافة منصات التعلم المحلية مجاناً، أو من خلال تقديم باقات اشتراك بالانترنت مدعومة بأسعار رمزية للطلاب والمعلمين.
2- فعالية التعلم الالكتروني: التعلم الالكتروني ليس فقط استخدام برمجيات الصف الافتراضي ليقوم المعلم بتلقين الطلاب من خلاله ما كان يقوم بتلقينه لهم في الصف العادي. بل هو اعادة هندسة عملية التعلم ليعزز عند الطالب كفايات التعلم الذاتي والبحث العلمي والعمل الجماعي والتفكير العالي، وهذا لا يتم بدون تحويل المناهح الى محتوى الكتروني تفاعلي ذاتي الشرح من خلال الوسائط المتعددة من صوت وفيديو وصور ومحاكاة، ومن خلال نظم ادارة التعلم لمتابعة تطور تعلم الطالب، ومن خلال اعادة هندسة بنية العملية التعلّمية ومساراتها، بما في ذلك استخدام الصف الافتراضي والتواصل المتزامن وغير المتزامن، وطبعاً تدريب المعلمين على هذه المقاربات الحديثة، التي بدونها تبقى المؤسسات التعليمية تنتج خريجين لا مكان لهم في سوق العمل وقدرتهم التغييرية في الاقتصاد والمجتمع محدودة وضئيلة، إلا من خلال المواهب الفردية الخام. وهذا ما تفتقده معظم وزاراتنا ومؤسساتنا التعليمية، وما يجب أن يكون التركيز منصباً عليه لتحقيق التغيير الجذري المطلوب، الذي كانت تتعامى عنه هذه المؤسسات وتنكره، وجاءت الكورونا لتكشف تخلفها وهشاشتها. وهو ما تستطيع التقنيات الحديثة والتطبيقات المعاصرة المرافقة لها من المساهمة في تحقيقه، فيما لو استخدمت بشكل ملائم لمتطلبات المجتمع وسوق العمل في هذا العصر.
يعتقد البعض ان التعلم الالكتروني هو ذلك التخبط والارتجال الذي وقعت فيه معظم الوزارات والمؤسسات التعليمية في منطقتنا، نتيجة تأخرها عن مواكبة العصر ونكرانها للتطورات التي حصلت في العقود الثلاثة الماضية على المنظومات التعليمية ودور التكنولوجيا في اعادة هندسة قطاع التعليم كما فعلت في الكثير من القطاعات الاخرى. والاسباب كثيرة لذلك، أهمها العنجهية والتوهم بأن التعليم بألف خير طالما أننا نخرج طلاباً يعملون بطريقة او بأخرى، محلياً او في المهاجر. لكن غياب التقييم الحقيقي لفعالية المنظومات المتهالكة، ونوعية السواد الاعظم من المتخرجين، ومدى قدرتهم على النهوض باقتصاديات بلدانهم وتطويرها، كان له دور اساسي في استمرار حالة النكران وعدم الاحساس بالضرورة القصوى لإحداث تغيير جذري في المنظومات التعليمية كي تستطيع تحقيق نهوض اجتماعي اقتصادي حقيقي يخرج المجتمعات من ركودها ومن كونها مجتمعات مستهلكة طيلة قرن كامل لما تنتجه الدول الصناعية. وعندما دخل العالم الى عصر المعرفة، حيث الرأسمال الاساسي الحاسم لتطور الدول وتحديث الاقتصاديات وتحرر المجتمعات هو الرأسمال البشري، لم تفقه حكوماتنا ومؤسساتنا التربوية لهذا التغيّر الجذري، واستمرت بنفس الاساليب والمقاربات. فلا هي واكبت التحول المطلوب من التلقين وحشو الطالب بالمعارف، الى صقل مواهبه وكفاياته وخبراته وطريقة تفكيره كي يستطيع التأثير على تغيير واقعه الاقتصادي ومواكبة العصر والتحول بمجتمعه من الاستهلاك الى الانتاج، ولا هي استطاعت تخطي التقاليد الاجتماعية والموروثات الطائفية والاقطاعية والقيم الانهزامية والفردية والانانيات الشخصية او الجماعية، لتنتج جيل جديد يستطيع قيادة عملية التحرر الاجتماعي وبناء منظومة قيم جديدة تؤسس للنهضة الاجتماعية الفكرية السلوكية التي تنهض بالمجتمع من حالات التخلف والتبعية والاستكانة والتجزئة الى التجدد والوحدة والابداع والعطاء الفكري من أجل مثل أعلى وحياة أجود وأفضل وأرقى.
ويتعجب المرء اليوم عندما يقرأ مقالاً ** لمفكر نهضوي رائد منذ قرابة التسعين عاماً، يقول فيه:
"إن وجود المدارس والكليات والجامعات في هذه البلاد مدة تكاد تقارب القرن الكامل كان يجب أن يؤول إلى بناء المجتمع القومي على أسس الفن والإختصاص ليجاري مجتمعات العالم الراقي.
ولكننا نلتفت حولنا فنجد نتيجة المؤسسات العلمية غير ما ذكرناه. نجد أنها خلقت في البلاد طبقة جديدة مستثمرة غير منتجة ذات سلوكية فردية عقيمة لا تحس عندها بحاجة المجتمع ولا إرادة واضحة للإصلاح ولا همة تدفعها إلى تغيير شيء من فساد النظام القائم.
وليس يلام الشعب إذا شعر ببداهته أن اكثار هذه الطبقة الطفيلية ليس بالغاية التي يتوق إليها وأن قضية خلاصه ورقيه سوف لا تخرج من أبواب الجامعات والكليات قبل أن يجري على نظام التهذيب القومي تغيير أساسي."
يومها كان صاحب المقال يعمل للنهوض بمجتمعنا من واقع التجزئة والجهل والتخلف الى النهوض والوحدة، وإحداث نهضة زراعية صناعية علمية تواكب التحرر الاجتماعي، كي نخرج من نظام الرق والاستهلاك والتبعية للدول الصناعية، ودخول العصر الصناعي الذي كان في أوجه.
نحن اليوم ما زلنا بحالة مشابهة لما كان عليه مجتمعنا في ذلك العصر، من حيث واقعه الاجتماعي الاقتصادي، ومن حيث تركيبة ومخرجات المؤسسات التعليمية، مع بعض التحسينات الشكلية، فنرى مجتمعنا قد تجذر فيه الفساد والتخلف والتجزئة، واقتصادياتنا ما زالت على ما كانت عليه من تخلف واستهلاك وتبعية، فيما العالم دخل الى عصر المعرفة، حيث تطور الابحاث العلمية والتكنولوجية والابتكار والاختراعات والابداع، الذي يجب أن تنتجه الأجيال الجديدة، هو معيار التقدم والانتاج الجديد. وهذا يحتم علينا العمل بجهد أكبر، على تطوير منظوماتنا التربوية، أولاً لإصلاح الخلل في القيم والاخلاق والسلوكيات وإحداث التحرر الاجتماعي والعدالة، وثانياً لنكون منتجين في هذا العصر معرفة وفكراً وغلالاً وصناعة وتقنيات، لا أن نبقى مستهلكين لمنتجات الآخرين كما كنا في العصر الصناعي السابق، الذي لم نستطع مواكبته الا بشكل محدود.
** "برامج التهذيب القومي وكيف يجب ان تتطور"، أنطون سعادة، مجلة النهضة – رأي النهضة – العدد 7- في 21 تشرين الأول 1937.