في فترة تولي لمسؤولية رئيس مكتب الطلبة في ستينات القرن الماضي انتمى عدد جيد من الرفقاء في جامعات بيروت وفي ثانويات العاصمة والمناطق اذكر من بينهم الرفقاء (الأمناء لاحقاً): غالب نورالدين، ناصيف الغريب، امل إبراهيم، فؤاد أبو فيصل، فارس بدر، امين عبد الصمد وكثيرون غيرهم..
لفتني الأمين غالب نورالدين بطلّته البهية، بصفاء نفسيته، وبثقافته القومية الاجتماعية وعندما غادر الأمين غالب الى مراكيبو في فنزويلا وكنت انتقلت الى مسؤولية عميد شؤون عبر الحدود تابعت حضوره اللافت الى جانب خاله الأمين عادل الشعار، يا ليت الأمين غالب كتب الكثير الحلو مما لديه عن الحزب في عيناب[1]، في مراكيبو، وفي فنزويلا.
لبيب ناصيف
*
عد بنا الى 1962, وطفلان على اكمة حجارة، يبكيان ويقذفان الحصى على الدرك الذين يأخذون والدهما الى السجن.
أنا وأخي سامي، لم يتجاوز كبيرنا الثامنة، حاولنا الدفاع عنه برشق الحصى والبكاء، فزجرنا: "عيب يا بيي هؤلاء اصحابنا، انا ذاهب وسأعود قريباً".
مضت شهور ونحن ننتظر، الى ان عاد نحيلاً متعباً ذا لحيةٍ طويلة. رأيت أثار جراح على ظهره، فسألته، قال: "هذه أوسمة ونياشين". لم أفهم يومها، الى ان مرّت سنوات عرفت عبرها كيف تصبح الجراح أوسمة، والحياة وقفة عز فقط.
عد بنا الى فايز ملاعب، ناظر التدريب في المنطقة، كيف أنكر ان يكون احدا غيره على علم بالانقلاب، فافتدى الجميع، وداس على اربعة اعوام من عمره في السجن من اجل وقفة عز تساوي كل الأعمار.
هل سمعت بذلك القومي في المعتقل كيف انتحل اسم رفيقه ليجلد بدلاً عنه، اذ رآه متعباً من شدّة التعذيب؟ الاول هو الرفيق نعيم حسن من بلدة عبيه والثاني والدي توفيق نور الدين.
في بداية الخمسينات كان الشاعر وليم صعب يعمل مدرساً في احدى قرى اعالي كسروان، ويسعى لنشر تعاليم النهضة القومية الاجتماعية هناك. كانت اضاليل التعصب الطائفي قوية، فأبناء القرية يكرهون الدروز، وعندهم قناعات غريبة عجيبة عنهم تتغذى من ذكريات فتنة 1860.
عبثاّ حاول وليم تغيير قناعاتهم فلم يفلح، وفي أحد الأيام دعى الى القرية بعض اصدقائه من الشوف، وهم شعراء زجليون منهم خطار ابو إبراهيم، ومازن صعب، ومزيد حمزه، فاستقبلهم اهل القرية الطيبون الكرماء، واخذت اشعار المعنّى والقرّادة والعتابا تزيّن السهرة وتبعث الالفة والحب. قال ابناء القرية: "يا وليم لماذا لم تعرّفنا على هؤلاء الشباب الطيبن من زمان؟".
قال: "سأعرفكم عليهم أكثر، انهم رفقائي وأحبائي دروز من الشوف"
منذ تلك اللحظة أخذت جبال من جليد تتكسر لتنشأ علاقة صداقة ووفاء بين ابناء تلك القرية وبعض الشباب من الشوف. قبل سهرة الزجل كانوا مسيحيين ودروز متباعدين متخاصمين، اما بعدها فما يزالون دروز ومسيحيين ولكن رفقاء متعاونين متحابين. ترى ما هو السّر الذي أدركوه؟
ملاحظة: وانا اكتب هذا المقال وردتني دعوة لمحاضرة يلقيها احد زعماء الطوائف بعنوان: "المحبة والعيش المشترك"
هل تعرف قصة ذلك القومي الاجتماعي في المهجر، وهو مسلم من دير الزور، كيف وهب احدى كليتيه لماروني من بشري رغم اعتراض احد رجال الدين؟ قل لي بربك. اين ترى وجه الله؟، في تلك الهدية؟ أم في ذلك الأعتراض؟
تعال معي الى بلاد تتشلع طوائف ومذاهب وعصبيات، وقد اضحت بتفاقمها واضاليلها مزابل، وعلى كل مزبلة ديك يصيح، وديوك المزابل غير الديكة التي نعرفها. يقال ان للديكة رادارات ترصد حركة الشمس، اما ديوك المزابل فراداراتهم مختلفة، فهى ترصد حركات الجيوش والاساطيل الغريبة وتدوزن صيحاتها على وقع اقدامهم. وفي هذا الضياع والتخلف هنالك بلبل يغرّد، وينادي شموساً تشرق من صدور الناس، وكلّما غرّد البلبل يرتفع صياح الديوك، ان ديوك المزابل لا تطيق أغاريد طيور الحرية.
سرّ سعاده هو الغصن المزهر الذي لا يراه البعض، لأن ظلال الغابات اليابسة تحاول ان تحجبه عن الأنظار، لكنه غصن حياة يسير الى المستقبل على وقع احلام من سنابل وحقول. اما الغابات اليابسة فتتمسك بالماضي وتخاف الغد الذي يحمل لها كوابيساً من فناءٍ ورماد. وفي ذلك الصخب هنالك بلبل يغرّد وينادي شموساً تشرق من صدور الناس.. وكلما غرّد البلبل يرتفع صياح الديوك. ان ديوك المزابل لا تطيق أغاريد طيور الحرية..
عام 2000 في مأتم والدي, الشيخ العجوز الطاعن في السن، جاء اناس من مناطق بعيدة، لا أعرفهم، أحدهم كان أرمنياً، انترانيك كارابتيان (انطون كربات) عرّفني عليه الرفيق جان دايه. كان زميلاً لوالدي في السجن وقد جاء ليلقي تحية الوداع على رفيق لم يره منذ ثلاثين عاماً.
اقترب مني احد الأقارب، وكان يحبني ولكنه يكره الحزب القومي، فلا يوازي حبه لي سوى اسفه لكوني من تلامذة سعادة، قال: "امر عجيب ان يأتي الى مأتم والدك اناس من مناطق بعيدة ومن طوائف مختلفة وهو لم يغادر بيته منذ ثلاثين سنة"
أجبت: "انه سر" فألح على معرفته، قلت: "السر اسمه انطون سعادة" وفجأة تجهّم وجهه، فعبس وتكهرب وسكت، لا ادري ما حصل له، ربما عصفت في أذنيه صياحات أحد ديوك المزابل. سامحه الله على هذا الصمت المتكهرب.
من عادات أبناء الجبل ان يعدد الابناء فضائل أبائهم قبل الصلاة والدفن، فقلنا فيه ما يمليه الحق والواجب، كأب وشيخ وحبيب، لكني احسست ان شيئاً في داخلي يريد ان ينطق، وفجأة، وثب قلبي ليمتشق يدي، فترتفع زاوية قائمة بكلمة تختصر الف خطاب وخطاب: "تحيا سوريا يا رفيق توفيق نور الدين"
[1] كان للحزب حضوره اللافت في "عيناب"، وكنت اشرت الى ذلك في اكثر من مناسبة، وتحدثت عن كل من الأمين منير
الشعار، الأمين عادل الشعار، عن الرفيق سليم خوري، عن الرفيق سليم زيدان وعن غيرهم. عن عيناب يكتب الكثير. يا ليت
تمكن الأمين غالب ان يكتب عنها.