حضرة رئيسة مؤسّسة سعاده الأمينة د. حسان الجزيلة الاحترام،
حضرة نائب الرئيس الأمين د ادمون ملحم الجزيل الاحترام،
السادة الأمناء والرّفقاء والمواطنين المحترمين،
شكرا لك أمين إدمون على دعوتك وثقتك التي تزيدني مسؤولية في ما سأتلوه، فيكون ذا قيمة على منبر مؤسسة قيمة رصينة كمؤسسة سعاده وموضوعه سعاده، علّه يزيد شيئا جديدً على ما كتب رغم غزارته، فلا يكون فقها يزاد على كثير من الفقه الذي أصبح يراوح مكانه.
الواقع أنني اخترت عنوان الديمقراطية التعبيريّة" بين إبداع سعاده وقصور التّلامذة"، وقد سقطت ربما من العنوان كلمة الديمقراطية التعبيرية بين الأمين إدمون والرّفيقة عبلا خوري، ومع ذلك فقد عدّلت في عنوان المحاضرة ومضمونها حتى نبقى في سياق الإتجاه النقديّ نفسه.
وربما إنّ كلمة قصورفي العنوان قد أثارت بعض الاستفزاز، لذلك المقصود هي ما قصّرنا كتلامذة عن إدراكه أو متابعته أو أن نكون على مستواه، دون أيّ إساءة أو تقليل من جهود. وإذا نشر النص أتمنى أن يكون بعنوان: "أسئلة برسم تلامذة سعاده".
بدايةً كل الفكر القومي الاجتماعي إنطلق من سؤال أساسي: ما الذي جلب على أمّتي هذا الويل؟ من مقدّمة واحدة، إلى آخر صفحة، الى الكتاب المحجوز قسراً، كلّه مترابط مشدود منسجم، هو خلاصات فكريّة عمليّة متوازية لا تنفصل، لأن ّ القوميّة الاجتماعيّة وضعت قاعدة اساسية عبر صياغة الاسئلة النقدية و توليد الاجابات الفكريّة العملية. وسؤالي اليوم: ماذا قدّم سعاده؟ وماذا قدّم التلامذة؟ ما هي الأفق أو الأبواب التي فتحها سعاده وماذا كان دور التّلامذة في هذا العمل؟ هل أكمل التلامذة ما بدأه سعاده؟
حتى لا يقود السؤال إلى تقليل من قيمة أي نتاج نتيجة وجود كم هائل من النّتاج الفكريّ للتّلامذة في غضون أكثر من تسعين عاماً، سأحصر مداخلتي في ما فتحه سعاده وكان يستوجب إستكمالا ولم يحصل. ويجدر التّمييز بين الأفراد والمؤسّسات لأنّ القسم الأكبر من المسؤولّية تتحمّله المؤسّسات لا الأفراد.
كثيرة هي المسائل التي فتحها سعاده سأحصرها هنا في المجالات التّالية: الفلسفة، السّياسي-الاجتماعي، التّاريخ، الاتّجاه العمليّ.
-أوّلاً – الفلسفة: سأعرض ثلاث قضايا: المدرحية، الفرد والجماعة، الأخلاق
.1 المدرحية:
إذاً بين مدرحية الوجود ومدرحية الحياة ومدرحية التطوّر ومدرحية المنهج، أين إسهامات التّلامذة ورعاية المؤسّسات؟
ثانياً - في العلاقة بين الفرد والجماعة:
كل النّقاش الفكريّ إذا كان وجود الفرد ام وجود الجماعة هو الأساس. وأيّهما أوليّ من حيث الأوليّة التاريخيّة، أو الأولية التراتبية.
حسم سعاده هذا الّنقاش بأن الجماعة أقدم بكثير من الفرد. في أدنى درجات التطوّر، عبثاً نجد الفرد وحتى في ظهور شخصية الفرد، لقد كانت حدثا لاحقا. لذلك فالحقيقة الكاملة هي حقيقة وجود الجماعة، والمجتمع هو وحدة ثقافيّة مكتملة لا يمكن فصل الفرد عنها، أقلّه ثقافة واقتصاد..
ما أراد قوله سعاده أنّ المجتمع ليس مجموع أفراد. ألمجتمع نسق معقّد من الافراد يرتبطون بعلاقات ووظائف معقّدة جدّاً هذا في مواجهة الفلسفة الفردانيّة التي ترى أن الفرد حقيقة، منبثقة مباشرة من الله كما قال برداييف، وعليه فالحق هو حق الفرد والحريّة حريّة الفرد والأفراد متساوون في الحقوق وعلى النّظام السياسي والاجتماعي تشريع هذه الحقوق وتنظيمها. لذلك هو حقيقة وهو غاية الحياة.
وعليه، فالنّظم السّياسيّة الاجتماعيّة الاقتصاديّة قد تمّت صياغتها على هذا الأساس. الديمقراطية الليبرالية، الاقتصاد الليبرالي، المفاهيم المؤسسة: المساواة الحق الحرية، على قاعدة مصلحة الفرد كلّها، وليدة النّظرة الفرديّة الى العالم والاجتماع.
يبقى أنّه على المدرسة القوميّة الاجتماعيّة أن تقيم صياغة نظامها السياسيّ والاقتصاديّ على أساس نظرتها، وهذا من أهم تحدياتها. بعد سقوط الفكر الماركسي ينحصر النّقاش بين الليبراليّة والقوميّة الاجتماعيّة ونحن حملة هذا الفكر وهذا دورنا.
ثالثا - الأخلاق:
هل يمكن قيام حياة دون أخلاق؟ وما دور الأخلاق في الحياة وبأي معنى؟ هذا سؤال تاريخيّ مفصليّ. كلّ المدارس الأخلاقيّة ركّزت على الأخلاق بمعنى الفضائل كالصدق والأمانة والإخلاص والتّفاني. سعاده أضاف عنصراً هامّاً جدًّا يوازيها جميعاً هو الواجب وهو من الابتكار السوري إبتكره زينون. وللأمين أدمون ملحم مساهمة قيّمة في هذا المضمار. ألواجب تقابله التّضحية. وهذا فتح لم يسلّط عليه الضوء.
قال سعاده إنّ الأخلاق في صميم كل نظام يكتب له الحياة. ألسّياسة هي فن خدمة. ألزعامة هي موقف أخلاقيّ (أقف نفسي). ألسّلطة مسؤوليّة أخلاقيّة. ألحزب في فلسفة وجوده، هو مسؤوليّة أخلاقيّة تجاه الأمّة. ألنّهضة مسؤولية أخلاقيّة. ألواجب مسؤوليّة أخلاقيّة، التعاقد هو تعاقد أخلاقيّ. وهذا من خطّ الفكر السوري. في فكر سعاده هذه مسألة جوهريّة: لا يمكن إقامة حياة بلا قيم. والسّؤال هو: ما هو دورنا كتلامذة في الخوض في هذه المعركة؟
من ناحية أخرى، نسجّل قيام المفكّرين الأوروبيين بالفصل بين المعرفة والأخلاق. والأخلاق بمكوّنها الاساسي القيم. لا أدري من الذي نجح في معركة فصل المعرفة عن الأخلاق. وحاول مكيافلي فصل السّياسة عن الأخلاق، والمناهج الغربيّة في فصل العلوم نفسها فأصبح الحديث عن الحقيقة الموضوعيّة والعلوم محايدة. إنّ الفصل هذا هو عملية تحرّر من القيود الأخلاقيّة. واليوم نحن نعيش مفاعيل هذا الفصل، دخلنا عصراً مخيفاً هو عصر الرأسمالية المتوحشة والمعرفة التي سطت بعيدا عن القيم. تَمَّ فصل السّياسة عن الأخلاق والعلوم عن الأخلاق. ماذا تعني سطوة المعرفة بلا قيم ولا ضوابط أخلاقيّة؟
الثّابت في القوميّة الاجتماعيّة أنه لا يمكن إقامة عالم بلا فضائل، بلا قيم. هو سيكون عالما متوحّشا كما أصبح اليوم. ونحن في صلب هذه المعركة.
والسّؤال: هل القوميّة هي مدرسة الدفاع عن القيم والفضائل والأخلاق؟ أين دور التّلامذة في قراءة الواقع والعالم والعلاقات الإنسانية على أساس المدرسة القوميّة الأخلاقيّة؟ أيضا إعادة صياغة أخلاق الجماعة لا أخلاق الفرد هو تحدي للاختصاصيّين.
ثانيا- الشأن السياسي الاجتماعي:
خالف سعاده كل من سبقوه في هذا الشأن. النّقطة المهمّة التي سأعرضها: الدّولة والعقد الاجتماعيّ. روسو قال ان الدولة هي عقد اجتماعي. عقد بين السلطة والافراد. الثابت كما يتبين من كتابات سعاده أنّ الفرد لا يمنح سلطة. هو ليس طرفا في التعاقد. هو مجبر. يصبح عقداً عندما تتوفّر الارادة، عندئذ يصبح تعاقداً إراديّاً كن هنا دقة استخدام سعاده ل مفردة تعاقد. هذا فتح فكريّ كيف نحوّل الإجماع من إجماع مطاوع الى إجماع فاعل؟ إجماع بدون إرادة الأفراد الى إجماع بإرادة الافراد؟ يصبح فاعلاً عندما تتوفّر فيه إرادات الافراد بالوعي. كيف نصوغ هذا المفهوم في نظام سياسيّ حقوقيّ؟ سعاده كان يبني الحزب على هذه القواعد الفكريّة، ولمّا رحل قبل أن يستكملها، رحنا نفتّش في نصوصه وتخبّطنا. عجزنا عن استكمالها، وضِعْنا وسادنا التخبّط.
في السياق نفسه أتابع: هل كان سعاده يؤسّس لنظام سياسيّ-اقتصاديّ، عنوانه الشراكة؟ هل الدولة القوميّة الاجتماعيّة التي يتكلّم عنها سعاده هي نظام الشراكة وهي مخالِفة لكل أنظمة الدول في العالم؟ يخاطب الأمين شوقي خيرالله القوميّ الاجتماعيّ فيقول:" أنت شريك لا مملوك" . هل يمكن أن تكون المضامين الفكريّة والأخلاقيّة في هذا المفهوم؟ هل إنّ سعاده رفع قيمة الفرد فجعله شريكا؟ السّؤال الأساسيّ: كيف يصوغ التّلامذه هذا الفتح في السياسة والاجتماع وخاصة في نظام حقوقي؟
في ثلاثينات القرن الماضي كانت النازية والفاشية في قمّتها. الفلسفة النازية ومؤرخيها وجامعاتها ومراكز أبحاثها وإعلامها. كلّها في خلاصة واحدة العرق الآري النقي المتفوق. القوميّة هي قومية السلالات. كان سعاده وحيدا يردّ عليهم: السلالات النقيّة خطأ علميّ. القوميّة ليست سلالة هي إجتماع بشريّ. أمّا ما هي الأمّة؟ هي سمات لجماعة نشأت واكتسبت من الاجتماع البشري وتتطوّرت بالاختلاط الثقافيّ الفيزيولوجي بين البشر. أعاد صياغة مفهوم الأمّة والقوميّة على قواعد علميّة. سقطت الايديولوجيا وبقيت الصياغة العلمية. واليوم في نقاش الهويّة، يجتاح العالم نقاش العولمة والهويّات القوميّة، العولمة والدولة القوميّة. ما مدى مساهمة التّلامذة أمام هذه التحديات الفكريّة؟ في عدد كامل من عالم المعرفة عن القوميّة منذ تاريخها حتّى اليوم في كل نظرياتها. نصاب بالخيبة أن الصياغة الوحيدة الصّحيحة العلميّة هي صياغتها على قاعدة الاجتماع البشري الطبيعي التي صاغها سعاده. من هنا تلازم الاجتماعي مع القومي في كل تراث سعاده فنخلص أنّه في كثير من الأماكن إذا غاب سعاده فهذا من قصور دورنا.
3-التاريخ
في علم الاجتماع:
حتى لا نتحوّل إلى نموذج للفكر الدينيّ المغلق كلّما واجهته معضلة راح يفتّش في كتابه عن نصّ.سأعرض هنا لمسات مفصليّة هي ماهية فكرنا وأولوياته وخطورة تحولّه الى إيديولوجيا.
الفكر القومي هو كما خلص الأمين جبران عريجي بشكل رائع هو "منهج علميّ في مقاربة واقع متغيّر"، وأنا أضيف على قواعد فلسفيّة أخلاقيّة (اكرر). هذه القاعدة هي التي أخرجت الفكر من مأزق الايديولوجيا وأعطته قابليّة للتجدد والتطور. هل وعى القوميّون هذه القاعدة وتعاملوا معها؟ هل نحن جاهزون لقراءة الظّواهر على قاعدة المناهج العلمية الحديثة وتفسيرها؟ أعتقد هذا هو تطوير الفكر القوميّ الاجتماعيّ لمن يطالبون بتطوير الفكر.
لم يدع سعاده مفهوماً لم يتعامل معه. الدّولة، السّياسة، الارادة العامة، الدّيمقراطية، الأمّة، الهوية القومية، السّلطة، الشّرق، الدّيكتاتورية، الأمم المتحدة، وغيرها.
بعد سعاده جاءتنا مفاهيم وافدة منها الاشتراكيّة، اليسار، الثورة، العنف الثوريّ، الكفاح المسلّح، كيف تعامل المفكّرون القوميّون الاجتماعيون مع هذه المفاهيم؟ تخبّط وتشويش وتبنّي. هل من المعقول أن نقارب هذه المفاهيم بمقاربات متعدّدة إذا كانت المنطلقات واحدة؟
في ظل المدّ الشيوعيّ وعز الماركسيّة لم يبقَ مثقّف لم ينبر لمواجهة الماركسيّة من هنري حماتي وعبدالله سعاده وشوقي خيرالله وأحمد صالح ووسيم زين الدين وحيدر حاج اسماعيل وغيرهم. واليوم في العشرين سنة الأخيرة في سطوة سيادة الفكر الدينيّ لماذا صمتنا؟ لماذا أحجمنا؟ عندهم إنتحاريّين؟ لماذا غاب تلامذة سعاده عن النّقاش حول الدولة والدّين؟
سؤالٌ آخر قد يكون جريئا ما أطرحه: هل في الحزب أو النّهضة مفكّرين؟ حتّى لا أنتقص من قيمة أحد، كم مفكّر؟ إثنين ثلاثة، أو أربعة؟ لا أبغي الإساءة طبعاً ولكن حزب بهذا الإبداع لا ينتج مفكّرين؟ ظاهرة تستحق التفسير. في الماركسيّة عشرات المفكّرين من المستوى العالميّ. لماذا قلّ المفكرون في الحزب؟ هل استفزتكم كلمة قصور؟ السّؤال موجّه إلى من انتفض وجدانه.
واليوم، أمام مفاهيم الاستعمار والحداثة وما بعد الحداثة والعولمة والجندر وحقوق الانسان والغرب والديمقراطية، هل نجد مقالةً واحدة أو دراسة تعيد صياغة هذه المفاهيم على قاعدة المنطلقات القوميّة الاجتماعيّة؟ حقوق الإنسان مثلا بالمنظار القوميّ الاجتماعي؟ ما هي القراءة القوميّة الاجتماعيّة لكل هذه المفاهيم؟ سؤالي اليوم ما هي القضايا الأساسيّة التي تشغل فكرنا اليوم؟ هل نساهم بشكلٍ ما في نقل فكرنا في مناقشة قضايا فكريّة تناقش عالميّاً أو محليّا؟
الآن ننتقل الى الاتجاه العمليّ.
بأهمية كل الفتح الفكري، هو الاتجاه العمليّ الذي يضمن عدم جنوح الفكر نحو الإتجاه النظري البحت. فالمعرفة شأن عمليّ للتطبيق. قيمتها نتائج تحقيقها. وهذه القاعدة من أهم قواعد خط الفكر السوري العقلي العمليّ الأخلاقيّ. تبدى مع زينون في اختلافه عن الاتجاه اليونانيّ بقوله قيمة الحقيقة تحقيقها. ومع المسيح في قاعدة مرتا مرتا تهتمين بأمور كثيرة والمطلوب منك واحد. ومع سعاده في وضع قاعدته المشهورة المعرفة التي لا تفيد كالجهالة التي لا تضر.
وعليه التلازم الاول هو هذا التلازم البنيوي بين الفكرة والحركة. هذا ليس تفصيلا. هذا إتّجاه أساسي. والتّلازم الثّاني بين نظام الفكر والنهج والشكل؟ هذا بأهمية المتصل المدرحي.
من أروع من أسهموا في تطوير هذه الافكار الأمين هنري حماتي حين قال ما النهج؟
النهج هو الفكر نفسه في حيز التجربة الانسانية. عندما يدخل الفكر في حيّز الاجتماع يتحول الى نهج، ويكتمل بصياغة هذا الفكر في نظام اشكال منسجم متناغم في الفكر فيحقق أغراضه. وكما قال الامين هنري: "الاشكال موجودة لتحقيق أغراض فكريّة. هذا ما قلته يجب على الاشكال ان تظهر المضامين الفكرية الأخلاقية التي أنتجها الفكر. أوضح الاشكال في الأخير هي المؤسّسات. إن نظام الفكر والنهج والشكل من أهم الفتوحات التي صاغها سعاده، هل أعطاه التّلامذة حقّه؟ هل إن جذور الفلسفة البراغماتية هي من سوريا؟ هل يمكن أن يكون سعاده رائد الاتجاه البراغماتي؟ من الاسئلة الجميلة التي طرحها د علي حمية: "ماذا لو أن سعاده لم يؤسّس الحزب وبقي منصرفاً للفكر والتأليف؟
من أهم تطبيقات الاتجاه العملي: ما هو المطلوب من الفكر القوميّ؟