"بعزيمة كأنها القضاءُ والقدر"
عزيمةٌ عليها يبني سعاده مشروعَ نهضتِه الفكريةِ والمجتمعيّة. هذه العبارة التي تبعث القوةَ والأملَ في النفوس، نجدُها في صلبِ موضوعِ هذا الكتاب.
يأتي هذا الكتابُ بأسلوبه الموسوعي والتوثيقي الدقيق ولغته المبسّطة على فكرتين محوريتَين. تتمثّل الأولى في تِبيان دَهاء زينون الرواقي وإسهاماتِه في الفلسفة اليونانية معَ تمسّكِه بأصوله السورية. وينقّب الكاتبُ عن آثارٍ فكريةٍ قيّمة وإنجازاتٍ حضاريةٍ جادّة، يّردُّها الى أصلها وجذورِها منعاً للالتباس والتحوير.
فيما الفكرةُ المحوريةُ الثانيةُ تكمن في تِبيان عبقريةِ سعاده في فهم هذه الفلسفة ونقدِها. وفي الدعوةِ الى الانتقال من زمن التحليل والتنظير إلى مرحلة ابتكار الحلول العملانية الفعّالة.
من الناحية الفلسفية المنطقية، نرى تقديمَ زينون لدور العقل في إدارة الواجبِ الأخلاقي والسلوك الفعّال. نشدد على دورِ العقل، ولكن ليس كلُّ فكرٍ عقلاني فكراً عملانياً مثالياً بالضرورة. فما يميّزُ أطروحتَي زينون وسعاده في إطار فلسفة العمل والإنتاج، هو، النشاطُ العقليّ المنطقيّ الرياضي المتسلّحُ بالأخلاق والمعرفةِ العلمية (العقليّة الأخلاقيّة لدى سعاده). أما الفلسفاتُ العملانيةُ الأخرى فإمّا تنطلقُ من المادة فتتحولُ إلى فلسفاتٍ منفعيةٍ فرديةٍ وإمّا تنطلقُ من الحاجةِ الإنتاجيةِ والعقلِ الاستهلاكي كالفلسفة البراغماتيةِ الأميركية التي لا تعنيها المعرفةُ كقيمة.
من الناحية الفلسفية الوجودية، نلاحظ تميّزَ الرواقيةِ عن سواها من الفلسفات فيما يخصّ نِظرة َالانسانِ الى الوجود. فالفلسفة اللّذية مثلاً، hedonism، تتخذ المتعةَ واللّذّة هدفاً لها. فيما الفلسفةُ العدميةُ، nihilism، فتبرر القدريةَ باللاجدوى. أما زينون وسعاده فيُسيّران القدرَ باتجاه الارتقاء، باتجاه الحق والخير والجمال.
من الناحية النفسية، تَشُدّنا قراءةُ الكتاب صفحةً بعدَ صفحةٍ إلى مراجعةِ أنفسِنا ومساءلتِها، إلى تفعيل عقلِنا النقدي، على ضوءِ ما يدعونا إليه المفكّرين. هذا الكتابُ لا يقتصرُ، إذاً، على تثقيفِنا بل يضعُنا أمامَ مرآةِ النفسِ والفكر لنسألَها من نحن؟ وماذا نريد؟ هل نتحلى بتلك الفضائل؟ وهل نطبّقها فعلاً كما دعانا سعاده؟
بالعبارة "إنّ زينون قد خطط، أما سعاده فخطّط وبنى" ختم سعاده مقالتَهُ المعنونةَ "من عهد زينون إلى عهد سعاده"، بهذه العبارة، يبيّن سعاده أوجهَ الشبهِ بينَه وبينَ زينون المتجليّةَ في التخطيط، وأوجهَ الاختلافِ والتميّزِ المتجسدةَ في عمليات التنفيذ والبناء. من هنا، نرى أن التوقفَ عند الحالات التطبيقية التي قام بها سعاده تجسيداً لفلسفته كان ليُغنيَ النصّ (مع إمكانية تقليل الاقتباسات). فما أكثرَ وِقفاتِ العزّ التي أثبتَ فيها سعاده أن التاريخَ لا يُصنعُ بالأماني والنيّاتِ إنّما بالأفعالِ والوقائع.
في المقالة نفسِها، التي أظنها المدوّنةَ الأساسيةَ التى بنى عليها المؤلّفُ أهمَّ فرضياتِه، ومنها توسّع في بحثِه، يذكر سعاده المتوسِّط ستَّ مرات. والفكرُ المتوسطي، إذا ما أردنا دراستَه على ضوء فلسفة سعاده المدرحية ذاتِ الأبعاد الاجتماعية والسياسية والأخلاقية، قد نستنبط بناءً فلسفياً كاملَ العناصرِ، فيه حلقاتٌ بحثيةٌ، تنطلق كلٌّ منها من الفكر القديم المتجدد، العميقِ الجذور، لندرس من خلالِها أحدَ المفكرين السوريين وعلاقتَه بفكر سعاده. (تماماً كما فعل دكتور إدمون في كتابه هذا، الذي يمثّل حلقةً من هذه الحلقات). ومع اكتمال حلقات مفكريّ سورية ومُبدعيها، يمكنُنا التوسعُ لتشمَلَ الدراسةُ مفكرينَ متوسطيينَ من خارجِ الأمّة السوريّة أو مفكرينَ تأثروا بالفكر المتوسطي، كابنِ خلدون وابنِ رشد ونيتشه وأغوست كونت. بذلك نكون قد أظهرنا أهميةَ هذه المنطقةِ الحضارية وأهميةَ فكرِ سعاده. فالنزعةُ المتوسطية التي تضمُّ زينون وسعاده والمعرّي وغيرَهم من المفكرين، تتميّز بالعلاقة التفاعليّة الأفقية والعَمودية (أي مع الأرض والإنسان) ذاتِ الاتجاه الارتقائي، وبالانفتاح على العالم. هي تمثّل الاستقلالَ الفلسفيّ والتجديدَ والمثاليةَ المطبقةَ كذلك الوجوديةَ المختلفة عن الوجودية الغربية العبثية.
أقترح ذلك لأنني، وفيما أتعمق في بحثي الفلسفي، أرى طيفَ سعاده في كلِّ فلسفة. كذلك أراه فاعلاً في عددٍ من مفكّري الأمّةِ السورية المعاصرين، أدباءَ ومفكّرينَ وباحثين، يَكُدّون لإظهار الحقيقة ويَجْهدونَ لتحقيقِ الارتقاء، تماماً كما فعلَ دكتور إدمون في هذا الكتاب بـِعزيمة واخلاص.