يقولُ جبران خليل جبران في كتابِ النبي، أنّكَ في ضيقَتِكَ وفي حاجَتِكَ تلجأ الى الصلاة، التي تستوحيها من خلالِ الإصغاءِ الى الجبال والبحار والأحراج، وهي تصلّي بهدوءٍ وخشوع، في سكينةِ اللّيل...
والشعرُ لنا، هو أحدُ أنواعِ تلكَ الصلاة، نلجأ اليهِ عندما تعجزُ لغةُ العقلِ عن تحريكِ إحباطِ النفوس ويباسِ الوجدان...
فليسَ الأمسُ سوى ذكرى اليوم، بحسب جبران، وليسَ الغدُ سوى حلمُ اليوم.. فيجب أن نجعلَ الحاضرَ يعانقُ الماضي بالتذكارات، والمستقبلَ بالحنينِ والتشوّقات..
ويتابعُ مخاطباً الناسَ عن الحرية: تكونونَ أحرارًا عندما تُمنطقُكُم همومُ الحياةِ وأعمالُها بالجهادِ والعمل، وتثقلُ كاهلَكم بالمصاعبِ والمصائب، ولكنّكُم تنهضونَ من تحتِ أثقالِها أحراراً طليقين؛ إذ كيفَ تستطيعونَ أن ترتفعُوا إلى ما فوقِ أيامِكم ولياليكم إذا لم تحطِّموا السلاسلَ التي أنتُم أنفسُكم، في فجرِ إدراكِكم، قيدتُم بها ساعةَ ظهيرتِكم الحرة؟
"إنّ ما تسمونَه حريةً إنما هو بالحقيقةِ أشدُّ من هذه السلاسلِ قوّةً، وإن كانت حلقاتُهُ تلمعُ في نورِ الشمسِ وتخطُفُ أبصارَكم”.
جوهرُ هذا النشيد الذي نطلقُ اليوم، هو هذا الربطُ بين الماضي والحاضرِ والمستقبل، وأنَّ شرطَ الحريةِ هو حتميةُ النهوضِ من بينِ المصاعبِ والمصائب، وتحطيمُ السلاسلِ التي نقيّدُ أنفسَنا ومجتمعَنا بها، للارتفاعِ من قاعِ همومِ الأيام والليالي..
ففي غمرةِ موجاتِ التيئيسِ والتفتيتِ والحصار، والحروبِ المستمرة على مجتمعِنا وشعبِنا وبيئتِنا الطبيعية، وإحباطِ شبابِنا ودفعِهِم الى الهجرةِ للهروبِ من جحيمٍ خيّم على بلادنا، كانَ لا بدَّ من التأمّل في تاريخِنا وتراثِنا الفكريّ وأساطيرِنا القديمة، وما تختزنُه من دمارٍ الى حدِّ الاندثار، ثم نهوضٍ وتجدّد، لدوراتٍ متتالية، من الانحطاطِ ثم النّهوض..
من رمزيةِ قصّةِ طائرِ الفينيق، الى موتِ أدونيس وعودتِهِ من العالمِ السفلي، الى صراعِ الخضر ومار جرجس مع التنينِ وصرعه، وكلُّ ما يختزنُه تراثنا الروحيِّ والتاريخيِّ من تجدّدٍ وانبعاثٍ وقيامة، الى كل الثوراتِ والانتفاضاتِ ومحاولاتِ النهوض، في وجه الاستعمارِ والاستعباد والفساد والتبعيّة.. كلُّها ومضاتٌ من الماضي، نستلهِمُ منها طريقَ النهوض، لتغييرِ الحاضرِ والتأسيسِ لمستقبلٍ أفضل.
وهذا بحاجةٍ الى إعادةِ ترسيخِ الثقةِ بأنَنا قادرونَ على النهوضِ مجدداً. فكان لا بدَّ من سردٍ سهلٍ لقصةِ ماردٍ جاءَ في ظروفٍ صعبةٍ للغاية، وشقّ طريقاً للنهوض، وحيداً، على أساساتٍ صلبة، وتوقعَ، كما جبران، أن يأكلَ الشوكُ كلَّ طريقٍ جديدٍ الى الحرية، لكنَّ الرهانَ يبقى على الأجيالِ التي لم تولد بعد، لأن النهوضَ مجدداً، حتميٌ لا محالة، ولو كانَ بحاجةٍ الى إيقاظ النفوسِ الكبيرة، وتهيئةِ اكتافِ الجبابرة لتضطلعَ بحملِ الحريةِ الثقيل... ولأنَّ ما ينقَصُنا غالباً هو وعيُ حقيقتِنا، وتحفيزُ وجدانِنا الاجتماعي، وإعادةُ بثِّ روحَ ثقةِ القومِ بأنفسِهم في وسطِ الرّكام، كانت هذه القصيدة...
كتبتُها في تشرين الماضي، كخواطرَ على صفحتي الفايسبوكية، فاتصلَّ بي الصديق الأستاذ أنطوان الصافي وقال هذه قصيدةٌ يجب أن تلحّن، وبدأَتْ مسيرةُ العملِ المضني الى أن ولدَ نشيدُ الوعي.
والقصيدةُ تبدأ بوصفِ حالةٍ من اليأسِ والذلِّ والهجرة، حينَ يأتي فردٌ مصمّمٌ على تغييرِ هذه الحالة، ويبدأ بوضعِ أساساتِ النهوض مجدداً للمجد والمعرفة والابداع، والتأكيدِ على مصارعةِ التنينِ الحالي، في أمةٍ كم من تنينٍ قد صرعَتْ، ولن يُعجزَهَا صرعُ التنينِ الجديد، الذي كبّلَ العقول وشلَّ الإرادة، ودفعَ الناسَ الى ارتضاءِ حياةِ الذل، والى الفرديةِ والحقدِ والادّعاءِ الفارغ، وعدمِ الجدية وفقدانِ الوجدانِ الاجتماعي والوعيِ القومي والشعورِ بالحريةِ والعزّ، أو الهروبِ الى المنافي الآمنة.
فكانت الدعوةُ الى استعادةِ الثقة وتأسيسِ إرادةٍ موحدةٍ ونفوسٍ جبارة جديرةٍ بوقفاتِ العز، لتجديدِ الهمّة ونهوضِ الأمة والسيرِ بها من قمة الى قمة، وبناء الأجيال الجديدة بفرحٍ وعزٍ وجهد. وترسيخ الإيمانِ بحتميةِ النصرِ الآتي، إن لم يكنْ في الجيل الحالي، فمن خلال الأجيالِ الجديدةِ المقبلة، بالبناءِ والعملِ والإصرارِ والمثابرة والإرادةِ والمحاولة المستمرة والتعلّمِ من الفشل.
كلماتُ القصيدة تمَّ تعديلُها ليصبحَ تلحينَها أسهل. وقد كان للأستاذ أنطوان مقترحاتٌ قيّمة لتسهيلِ اللغة وتعميقِ جمالِ الكلمة وقدرتها على التعبير ببساطة عن أعمق المعاني والقيم. وبعدها أبدعَ في التلحين، وأضفى التوزيعُ الموسيقيُ الغنيّ للأستاذ أنطوان الشعك رونقاً خاصاً، ونتج عن جهدِ الموسيقيينَ والمنتجينَ عملاً متكاملاً جميلاً، زادَ وهجُهُ برعاية معالي الوزير، وحضورِكم المحبّب. فشكراً لكل من عمل على انتاج هذا العمل، وشكرا لمعالي الوزير ولكم، ونتمنى أن ينال نشيد الوعي إعجابَكُم.
ختاماً، سألني صديق يعمل في الصحافة، لماذا تشرين؟ وهل تعني أن انتخابات الرئاسة في لبنان لن تحصل قبل ذلك؟ فقلت له إن كان الرئيس القادم يمتلك صفات المارد الذي يصفه النشيد، فلا بأس أن ننتظر الى تشرين!
كلمات نشيد الوعي
كانوا الناس مسلّمين ونايمين
بين الوهن والوهم عا صوت الأنين
وفي يوم متل الأمس، في تشرين
مارد وقف بيناتهم، كلّو يقين
تطلع بوج الشمس، بشمخة جبين
شاف بعيونوا موكب الموت الحزين
طل صوب البحر بوقت الغروب
شاف المراكب فاتحة دروب الهروب
شاف الجموع، يا بتهرب من الذل
يا بتموت، على حفافي الدروب
تمتم لحالو وقال: صار لازم نفيق
ننهض سوا للمجد، ننهض للإبداع
للمعرفة للحق، للإشعاع
وبس من وين الطريق....
ومين رح ينهض معي
ويمشي على دروب الوعي
ونصارع التنين
لصرلو بأرضي سنين
مكبّل عقول الناس
ومكتّف الحراس
ومشتت الأخوة
ومموّت النخوة...
ومين رح يتحرّك ويوعى
ويترك مجاهل ذل مقموعة
وبدل الأنا، منصير مجموعة
مسوّرة بالحب، وبجباه مرفوعة
ويمشي معي
بجدّ وسعي
وكلّو وعي
وما يدّعي
وعنّا إرادة موحّدة وحرّة
ونفوس جبّارة وما بتهتز
ولو نكّلوا فينا ألف مرّة، ومرة
نواجه قدرنا بألف وقفة عز
ومن بعد ما منجدّد الهمّة
نعلّي الفضا تا تنهض الأمّة
ونمشي الدرب، قمّة ورا قمّة
ونزرع ورد وشموخ ومحبّة
نبذل جهد، أجيالنا نربّي
حتى إذا هالدّهر حاصرنا
وإذا تأخّرنا، وقصّرنا
ومهما علينا الحمل كان تقيل
منرجع منتقمّص بتاني جيل
يحمل الراية
يجوهر الغاية
يجدّد يوحّد،
يعكس الآية...
يكمّل أحلامه
يبدّد أوهامه
وياخد الأمّة
من جديد من قمّة الى قمّة...
ومهما طوينا سنين خلف سنين
وتعبوا الشباب وختيروا الحلوين
بيرجع هدير النهر
يمحي سنين القهر،
وترجع الناس تفيق
تا تشقّ الطريق...
بقلوب فرحانين
ونفوس منتصرين
ومارد متل صنّين
كل ما شرق تشرين...
**********************