إن شعبنا بأسره يعاني من الويلات والتراجع والإنهزامات ومن التخلف والظمأ والجوع والتلوّث والأمراض والفساد. فهو محاصر بكم هائل من مشاكل السياسة والاقتصاد والبيئة والصحة والسكن والمياه والغذاء والتعليم والعمل والبيروقراطية والتهجير. وهو عاجز تجاه أوضاعه المأساوية، فاقد الثقة بنفسه ولا يمتلك إرادة التغير، ومنشغل عن قضايا حياته الأساسية بأمور المعيشة وتأمين مصالحه الخاصة والمحافظة على سلامته مفضلاً التراجع والطاعة والخضوع لسلطوية الأنظمة الأبوية ومؤسساتها الخاضعة بدورها لنظام عالمي تقوده الولايات المتحدة الأميركانية التي تفرض مشيئتها على الدول بما يفيد مصالحها وتمنع تشكيل الدولة الحديثة في أمتنا. لذلك ليس غريباً ان يتكون عند غالبية الشعب شعور بالإغتراب والضعف والإنسحاب من ميدان الفعل والمسؤولية وعدم المقدرة والعجز الكامل عن التأثير في الأحداث أو عن تقرير المصير وأن يزداد قبولها بالوضع الراهن وإنغماسها في الغيبيات وفي الفكر الخرافي.
الإصلاح الحقيقي هو حاجة ملحّة في كل شأن من شؤون حياتنا ولا يمكن التغاضي عنه. ولكن كيف يمكننا ان نعالج أزماتنا السياسية ومشاكلنا الإقتصادية وأمراضنا الإجتماعية ان لم نبادر إلى إجراء إصلاحات جذرية تؤدي إلى إسقاط النظام الفاسد الذي يشرعن الإمتيازات الطائفية ولا ينتج إلا الحروب الأهلية؟ لا بدّ لنا من إصلاح حياتنا وتنقيتها "من القبائح والمفاسد و"الأدران النّفسيّة والصّدأ العقليّ". ولكن كيف نصلح حياتنا؟ أننتظر الحلول لتأتينا من الخارج؟ أم نتوقع الحلولً السحرية والمعجزات لتهبط علينا من الغيب؟
لكي نتمكن من تحقيق الإصلاح المطلوب، لا بد لنا من اعتماد السبل التالية:
الخطوة الأولى تبدأ بدراسة واقعنا الحالي وفهم طبيعته ومشاكله والكشف عما يعتريه من انقسامات وأمراض وعصبيات.. هكذا دراسة توضح حقائق هذا الواقع الاجتماعي والعلاقات الناتجة عنه وتقودنا إلى اعتماد الحلول الناجعة. فالحلول لا تأتي بالتمنيات وبحصول المعجزات والعجائب بل بالدرس والإبداع والابتكار وبالارتكاز على الحقائق والسير بأنوارها.
لا بد لنا من أن نعتمد العقل شرعاً أعلى ونأخذ بأحكامه ونعمل بمقتضاها. فالعقل يمثّل النور والضياء واليقين والقوة الخلّاقة المبدعة. هو، كما يقول سعاده: "موهبة الإنسان العليا."[1] ونحن يمكننا أن نتحكم بواقعنا وأن نحقق مطالبنا في الحياة بعقولنا النيّرة وإرادتنا الخيّرة. فالعقول وما ينتج عنها من أفكار هي ثروة الأمم وقوتها الحقيقية وهي التي تقود الشعوب نحو التقدم والفلاح.
يجب أن نتخلى عن معالجة شؤون حياتنا بالتكاذب والشعارات الوهمية وبعقلية الخنوع والاستسلام والاتكال على الخارج، فالإصلاح لا يتحقق بالأحلام الطوباوية والتمنيات وبتغيير المجالس والحكومات ولا يتحقق بالجعجعة والبهورات السخيفة وبتحريك العصبيات المذهبية ولا بإعتماد الحلول الإرتجالية الترقيعية والتسويات الطائفية وغيرها من المسكّنات.. بل نراه نابعاً من ذواتنا بالعقل والإيمان، بالإدراك والإبداع، بالإرادة الفاعلة والبطولة المؤمنة، بالتخطيط البديع والرؤيا الواضحة، وببناء النفوس بناءً جديداً في المعرفة الفاضلة والعقيدة الصالحة والمناقب الجديدة التي تزرع الفضائل النبيلة وتؤسس حياة جديدة للأمة فيها البحبوحة والخير والحق والجمال.
يجب أن نبدأ بتقرير قدرنا في الحياة بإرادتنا نحن بدل الاستسلام للقدر وللإرادات الغربية. نحن قادرون بعقولنا ونضالنا وجهادنا أن نعالج مشاكلنا وأن نخطط للنهوض والعز والكرامة. إن لدينا القدرة على الخلق والإبداع وعلينا أن نؤمن بنفسيتنا الجميلة وبما يختزن فيها من خير وجمال وإبداع. إن ما ينقصنا هو الإرادة الواعية المصممة التي تدفعنا إلى العمل المنظّم والإجماع على مشروع نهضوي بناء يوّحد اتجاهنا في الحياة.
لا بد لنا من اعتماد العلم في معالجة مشاكلنا. فالعلم هو ثقافة المعرفة البنّاءة والتقدم إلى الأمام، ثقافة تغيير المجتمع وتطويره عن وعي وإرادة وتصميم. نحن ما زلنا مكبّلين بأغلال التقاليد الباليةو وقيود الضعف الخوف والخمول. فإلى متى سنبقى مقصّرين عن البحث العلمي والتقني وعن الاستطلاع ومعرفة المجهول واعتماد منهج التفكير العلمي والمنطقي المنتج والأخذ بأسباب العلم ومناهجه؟ ألا ندرك أهمية العلم وفضائله في حياة الشعوب وتقدمها؟ ألا ندرك أنه بالعلم ترتقي الشعوب إلى أعلى القمم، وبدونه تهبط إلى أسفل القعور؟
إن تقدم الدول مرهون بقوتها العلمية والتكنولوجية وإنتاجها العلمي والثقافي وبإهتمامها بحرية الفكر والتعليم وبناء الطاقات البشرية والعلمية القادرة على إحداث تغيير في المجتمع. فهل نسعى إلى استغلال العلم وفوائد المعرفة لتحسين حياتنا ولصياغة مستقبل مُشِع لأجيالنا القادمة؟
إن إصلاح واقعنا الراهن لا يكون، في رأينا، إلا بمشروع نهضة حقيقية تشق طريق الوحدة بإيقاظ الروح القومية التي تحرّر النفوس من عبودية الإستسلام للحال الراهنة. وهذه الروح لا يولِّدها إلا الوعي القومي الصحيح لحقيقتنا الاجتماعية ولوحدة حياتنا ومصيرنا فيجمعنا شعباً واحداً بصفوف واحدة واتجاه واحد ويدفعنا لأن نقيم في المجتمع "نظام التعاون بدلاً من نظام التصادم الذي أسسته النهضة الرجعية"[2] .. هذا الوعي القومي هو الشرط الأولي للسير نحو المقاصد السامية لأنه يوّحد قوى الأمة الحية وإمكانياتها وعقولها ويجعل منها قوة فاعلة قادرة على تحقيق ما تريد. فهل سيتحقق ما نصبو إليه وتنتصر هذه الروح القومية؟
لا بدّ لنا من بناء العقل الجماعيّ الّذي يرى مصلحته في العمل لترسيخ ثقافة الوحدة والتّلاحم والدّفاع عن الهويّة الثّقافيّة – المجتمعيّة وتحصينها. إنّ بناء العقل الجماعيّ، القوميّ، المتّجه بتفكيره نحو الأمّة يستوجب التّخلّي عن التّفكير السّطحيّ – الرّجعيّ، والاعتناء بالتّخطيط الثّقافيّ الهادف لتأهيل المجتمع وتحصينه بتعزيز ثقافة المعرفة والعمل والإنتاج والاجتهاد والتّفاني في أداء الواجب، وبنشر الوعي القوميّ الّذي يضيء طريق الشّعب باتجاه المستقبل، وينبّهه إلى وحدة حياته ومصيره، ويكشف له تراثه الحضاريّ الغنيّ بالمآثر الثّقافيّة وبالعلم والفنّ والإبداع. إنّ الوعي القوميّ لا ينقذنا من تخبّطنا وتشرذمنا فحسب، بل يمَكِّننا من تعزيز الولاء الوطنيّ وبناء المجتمع المتماسك القادر على التّجديد والابتكار والتّفوّق في معترك الأمم والسّير نحو مقاصده السّامية.
إن تغيير واقعنا المأزوم لا يتم إلا بمشروع نهضة حقيقية، بنّاءة، تنبع من صميم مجتمعنا، من داخلنا ومن نفوسنا، وتسعى إلى بناء النفوس بناءً جديداً في العقيدة الصالحة، وإلى تطهير المجتمع من الفساد والفوضى والمثالب وتعمل على تجديد معالم حياتنا وعلى أرساء أسس الدولة العصرية الديمقراطية العلمانية. فلا يمكن لنا إحداث نهضة حقيقية تجديدية بدون اعتماد اتجاه جديد في التفكير – هو التفكير العلمي والعملي المرتكز على موهبةِ العقلِ المُبدعِ ِالإرادي الفاعل في الوجود. فالعقل هو مفتاح القضية التنويرية. والعقل المجتمعي هو قوة الأمة الحقيقية وهو طريقها إلى التقدم والفلاح.
إن إصلاح المجتمع الجدّي يستوجب منا ان نستثمر في التربية القومية الصحيحة بواسطة المؤسسات الجديدة النابضة بالحياة وأن نباشر بإعداد أجيال واعية متسلحة بالعلم والأخلاق والوجدان.. أجيال تدرك معنى الحرية والكرامة والإستقلال فلا تتأثر بالثقافات الغربية والظلامية الممنهجة ضد أمتنا بل ترتبط بهموم مجتمعنا وبحاجاتِهِ ومصالِحِه وتعمل بناءً وإنتاجاً وإبداعاً لخير الأمة وتقدمها. إنَّ اعتمادنا على التّربية القوميّة الصّحيحة الخالية من المبادىء العنصريّة والطّائفيّة، والقائمة على الحقائق والعلم الصّحيح وعلى “المبادىء الشّعبيّة الصّحيحة يقوّي في أجيالنا روح احترام النّفس والثّقة بالنّفس”، وينمّي في نفوسهم "الرّوح السّليمة والمدارك العقليّة العالية."[3]
النهوض القومي يستلزم بالدرجة الأولى الاعتماد على التّخطيط القوميّ الشّامل للتّقدّم في المجتمع. فبدون التخطيط لا يمكن لنا أن نحقق نهوضاً. والتخطيط يجب أن ينطلق من رؤية مستقبليّة، واقعيّة، واضحة، وخالية من غياهب الأوهام والأحلام السحريّة.. رؤية متلائمة مع قيمنا الإنسانيّة ومعبِّرة عن طموحاتنا وآمالنا السّامية في الحياة.
باعتمادنا على التخطيط النهضوي الإستراتيجي، سنتمكن من إزالة عوامل الجهل والكسل والتبعية وبناء المجتمع الإنتاجي الإبداعي من خلال بعث الهمم والعزائم والحثِّ على العمل الجاد والإنتاج والطموح البعيد واستنفار طاقات المجتمع وتنظيم موارده الطبيعية والبشرية والمالية وترشيد استخدامها.
ان الإصلاح الحقيقي هو عمل نهضوي شاملٌ يعتمد على التخطيط السليم وقوة الإبداع والعقل الواعي والفاعل وغايته إصلاحُ العلةِ في أهلِها وإيصالُ الشعبِ إلى خيرِه وتمكينه من تحقيق تطلعاته ومثله العليا. وهذا الإصلاح لا يمكن ان يتحقق على أيدي الانتهازيين والنفعيين والفاسدين المراوغين.. فإصلاح هؤلاء هو إصلاح شكلي وترقيعي عقيم، وإصلاح وصولي تدجيليٌّ قائم على النفاق والخداع والمنفعة لأن غايتُه إبقاءُ القديمٍ على قِدَمِه. أما الإصلاح الحقيقي فلا يحققه إلا المصلحون الأخلاقيون، المصارعون، الذين آمنوا بمناقب جديدة كفيلة بإنقاذ المجتمع من فساده وانحطاطه.