في ظل واقعنا الثقافي المتردي وانحسار الهم الثقافي وانصراف المجتمع عن الثقافة والقراءة، وفي زمن التفاهة والإنقسامات والعصبيات والتحديات المصيرية، نحتاج، أكثر ما نحتاج إليه، إلى استنهاض الفعل الثقافي النهضوي وتطويره في مختلف الوسائل والمنابر لكي نتمكن من مواجهة التنين ولكي نخرج من واقع الانحطاط والكسل والانكماش الثقافي ونعود إلى ذواتنا، إلى مجتمعنا، إلى الطلبة والأجيال الجديدة وإلى عقول كل الناس، فندخل الجامعات والمدارس وكل حي وبيت وقرية في وطننا.
نحن حزب الفكر والعقل والإبداع، حزب الثقافة والإنتاج الفكري والأدبي والعلمي، حزب المفكرين والأدباء والشعراء والفنانين والمبدعين الذين تلقحوا بفكر النهضة القومية الاجتماعية وثقافتها العميقة الجذور فجاء انتاجهم إبداعاً ممتازاً ومعبّراً عن مطامح هذه النهضة العظيمة. هذا الحزب الذي جاء بتعاليم جديدة يهاجم بها الفوضى والمفاسد، لا يمكن ان يستسلم للخمول والتراخي والتواكل لأنه بطبيعته حركة صراعية هجومية لا حركة خنوع واستسلام. نحن، كما يؤكد سعاده "نهاجم بالفكر والروح، ونهاجم بالأعمال والأفعال أيضاً... ولا سبب عندنا لنخاف العراك من أجل تثبيت حقنا في الحياة."
الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي نشأ بإبداع الرجل العبقري: أنطون سعاده الذي حملَ هموم الأمة كلها وعبَّرَ عن حقيقتها وأراد تحقيق آمالها وأحلامها ورغائبها، هو ليس حزباً فقيراً وضعيفاً بالرغم مما يتعرض له من أزمات وما يواجهه من تآلب أصحاب المصالح الخصوصية والنزعات الفردية والقوى المعادية عليه وعلى دوره كحركة صراع وقتال، بل هو حزب غنيٌ بفكره وإمكانياته وأخلاقه، وقويٌ بعقيدته الصحيحة ونظامه البديع، ومتينٌ بالوحدة الروحية التي تجمع القوميين الاجتماعيين في كل فكرة وفي كل نظرة في حياتهم والتي تربطهم معاً كعصبة واحدة. ولذلك توجّه سعاده إلى أبناء عقيدته قائلاً: "أجل أنتم القوة في أنفسكم وإليكم يجب أن يسعى الناس، لا أن تسعوا أنتم نحو أشخاص آخرين."[1]
هذه هي حقيقة الحزب السوري القومي الاجتماعي، حزب العقيدة والمناقب والأخلاق، حزب الأمل والإيمان والوضوح واليقين، حزب الوعي القومي والثقافة الراقية الملتزمة بالمبادىء وبمصلحة سورية فوق كل مصلحة، حزب الخطة النظامية الدقيقة والعقل - الشرع الأعلى، حزب الواجب القومي والمسؤولية القومية تجاه الأمة والوطن، حزب الجهاد القومي والمقاومة لأعداء الأمة المغتصبين، وحزب الشهداء والعطاء اللامحدود والبطولة الواعية في أزمنة الصعاب.. بطولة المصارعين المؤمنين ذوي النفوس الكبيرة الذين لا يرضون إلا حياة الأحرار، والذين وضعت النهضة القومية الاجتماعية على أكتافهم عبئاً كبيراً عظيماً، لأنها تعرف أن أكتافهم أكتاف جبابرة وسواعدهم سواعد أبطال.
نعم! نحن في زمن صعب يمور بالمتغيّرات السياسية والتحولات الفكرية والثقافية. زمن تسوده الويلات والمظالم الاجتماعية والثقافات المزيّفة، فالأمة في حالة جهل وتشتّت وتفكك وانقسامات، والشعب يئن من الفقر والجور والجوع ومن كل أوضاعه المعيشية الصعبة بعد أن مني بالخذلان من قياداته المستهترة وأحزابه الطائفية من حيث تطلعاته القومية والوطنية.
في هذا الزمن الرديء المحكوم بنظام التفاهة والبهرجة والابتذال وبسياسة التجهيل وامتهان الإنسان والفكر والثقافة، لا إنقاذ للأمة من الهلاك إلا بنهضة سعاده الصحيحة وفكره الواضح المولِّد لثقافة مجتمعية عالية وأدب جديد وحياة جديدة راقية للأمة. لذلك نحن، أبناء النهضة القومية الاجتماعية، مدعوون لنبذ الكسل والخمول والتحجر الفكري والعمل على تفعيل ثقافتنا النهضوية وتجديد آلياتها وتوجهاتها لتفعل فعلها التنويري والتغييري داخل المجتمع. نحن نرفض التراجع والجمود ونؤمن بالحركة والتقدم والانتصار لأننا ندرك "أن الحياة والحرية صراع ومن أبى الصراع رفضته الحرية."[2] وبهذا المعنى، يقول سعاده: "أما الـحركة ذات المبادىء الصحيحة فسيرها دائماً إلى فوق نحو قمة مطالبها، مهما اعترض سيرها من انحناءات هبوطية."[3]
نحن مدعوون لأن نفتح أبواب الصراع الفكري والانطلاق من عقيدتنا إلى كل مجالات المعرفة والحياة المعاصرة واضعين مصلحة سورية فوق أية مصلحة، ومعتمدين المنهج النقدي والعقل شرعاً أعلى ومستفيدين من تراكم المعرفة الهائل في توسيع الآفاق وامتلاك المهارات والقدرات وإثراء الإبداع.
نحن مدعوون إلى تعميق ثقافتنا المعرفية - العلمية وإلى إنتاج خطاب المعرفة النقدية لأوضاعنا والثقافة القومية الاجتماعية المُبدعة، والمُتجدّدة، والمُتصلة بالعصر، والمُنطلقة من فهم الواقع ومشاكله، والملبّية لاحتياجاته الحقيقية والمتنوعة... ثقافة معرفية تواكب الإعلام المرئي وتطور وسائل الاتصالات وعالم المعلومات وتواكب أيضاً الهموم الثقافية والمواضيع الساخنة وأوجاع المجتمع وتحولاته والحياة المعاصرة بشكل عام.
نحن مدعوون للإنتقال من زمن عتيق يُمَثّل الانحطاط والخمول إلى زمن جديد يُمَثّل النهوض والسير إلى الأمام نحو مثل عليا جديدة، ومن حالة حياة قديمة واهنة إلى حالة حياة جديدة قوية: حالة في جوهرها هي شعور جديد بالحياة العزيزة، الجيدة، التي نراها عزاً وإخلاصاً وشجاعة وصدقاً وإقداماً وإباء. هي انعتاق من اليأس والتفاهة والخمول إلى الإيمان والتفاؤل والأمل بالمستقبل والتطلع إلى الطموحات والأحلام الكبيرة، ومن الشعور بالعجز والضعف إلى الشعور بالإمكان والقدرة على الخلق والإبداع.
نحن مدعوون للفعل الثقافي البنّاء والتغييري.. الفعل المبدع المعبّر عن نفوسنا الجميلة والهادف إلى محاربة الجهل والفساد والعصبيات وإنهاء أوضاعنا المزرية وتوليد التعاون والتلاحم الاجتماعيين لنحقق وحدة مجتمعنا ونسير به باتجاه التقدم والارتقاء. فلا قيمة للثقافة إن لم تكن فعلاً يبني النفوس ويصقلها وعياً وتهذيباً ومناقب ويحقق "تأليف القلوب وجمع فئات الأمة في مطلب واحد وعقيدة واحدة."[4] ولا قيمة للثقافة إن لم تكن فعلاً تغييرياً غايته سحق المثالب الانحطاطية وإحياء المناقب الجميلة في حياتنا وتجويد هذه الحياة وتنزيهها من كل معطّلات نموها وتطورها. باختصار، يجب توظيف الثقافة في سعينا لإقامة الحياة الجميلة الراقية، وبهذا الاتجاه، يقول سعاده إن “قصد الثّقافة أو التّربية هو دائماً تقويم الاعوجاج وتوجيه قوى الحياة نحو الأفضل."[5]
نحن في حالة حرب وجودية تستهدف إلغاء وجودنا وهويتنا وتسفيه تراثنا وتخريب ثقافتنا وقيمنا من خلال الترويج للقيم الاستهلاكية والترفيهية وتعميم القيم المبتذلة والساقطة وضخ أفكار وثقافات ترمي إلى تثبيط هممنا وزرع روح الإحباط وعدم الثقة بنفوسنا وقتل عزائمنا وإلى استلاب إنساننا وانتزاعه من وطنه وأسرته وبيئته. أعداء الأمة يستعملون وسائل الاتصال الهائلة وكل أنواع الأسلحة لتشويه مداركنا واغتصاب عقولنا وتهشيم شخصيتنا وتزوير تاريخنا وسرقة أساطيرنا وتفتيت وحدتنا وتحويل مجتمعنا إلى أقليات مستفردة وإلى مشاريع حروب أهلية، وبالمحصلة، تكريس سقوطنا في مستنقعات الجهل والتخلف والتشرذم والاقتتال ليتسنى لهم الهيمنة واستنزاف ثرواتنا، فنصل بمجموعنا إلى مرحلة اليأس والاغتراب والتبعية والقبول بعدونا الألد الصهيوني كأمر واقع. وفي خضم هذه الحرب الإفنائية، أيجوز أن نبقى مقصّرين عن واجبنا القومي بمحاربة "ثقافة الخنوع والهزيمة" و"ثقافة التطبيع" واسقاطهما وبمقاومة مشروع عدونا الاستيطاني - التدميري وما يرافقه من غزو ثقافي وحضاري وضخ إعلامي في تحقيق أغراض هذا الغزو؟ أيجوز أن نرضخ لعقلية الضعف والخوف والتسكع وفقدان الثقة بالنفس والاتكالية والاستسلام؟ أيجوز أن نسكت عن تخبّط مجتمعنا بالقبائح والرذائل وبقضايا التفكير الانحطاطي وانغماسه في الشعوذة والغيبيات وفي ثقافات القرون الوسطى وجهله لهويته القومية واستسلامه لعقلية السحر والخرافة والأوهام والأعاجيب؟
نحن حركة قومية - ثقافية أصلية معبّرة عن وجود الأمة ونفسيتها الجميلة وعن تراثها وهويتها ومقوماتها وخصائصها الذاتية. وهذه الحركة القائمة على المبدأ القومي والمعجونة بالأخلاق الجديدة، تقول بالتعاون والحوار والانفتاح والتفاعل مع العالم وتؤمن بقوة العقل والمعارف وحقائق العلوم وبالصراع الفكري والتطور وترى أن مجتمعنا قادر بإرادته الواعية أن ينهض من انحطاطه وأن يكون مشاركاً وفاعلاً في ثقافة العصر وفي تقدم البشرية. لذلك ندعو إلى تضافر الجهود في هذه الحركة الثقافية - النضالية الهادفة للقضاء على البلبلة الثقافية والفوضى الفكرية والساعية لتحرير المجتمع من كل المفاسد والأمراض والعوامل التي تعرقل نموه وتقدمه. فالثقافة باتت محوراً رئيسياً في نهوض المجتمع وتنميته ويجب ان تكون شاغلاً أساسياً للجميع. يجب كما يقول سعاده أن نجعلها في مقدّمة القضايا الّتي يجب أنّ نوليها اهتماماً خاصّاً، وأن نخطّط لها الخطط ونرتّب الصّفوف." [6]
فتعالوا أيها المثقفون لنهتم بتاريخنا القومي وتراثنا الثقافي وندرسهما بتعمق وامعان بدل أن نستهلك التاريخ المزوّر الذي يكتبه لنا الغرب بغاية السيطرة على عقولنا وحاضرنا ومستقبلنا وتقرير هوياتنا وشخصياتنا وأبطالنا. فلنكتب تاريخنا المجيد الغني بالإنجازات والمعارف والبطولات ونستخرج منه الكنوز الثمينة المضيئة التي تحصّن مجتمعنا وتهيئه لمواجهة الغزو الحضاري الممنهج والتشويه الحاقد من قبل الرواية اليهودية التي تُزوّر المعطيات الأثرية والتاريخية لأمتنا.
تعالوا أيها النهضويون لنعمل على هدى المعلم، ونحيي الأفعال الثقافية والفنية الجادّة التي تعيد ألق النهضة وحيوتها..
تعالوا يا أصحاب القلوب والأدمغة وقوةِ السواعد نبني الإنسان الجديد وعياً ومناقب وثقافة.. الإنسان الحرّ المسكون بهاجس النهضة والملتزم بمناقبها ومعاييرها... الإنسان المحصّن بالوجدان القومي والتفكير العقلاني والتربية السليمة.. تعالوا نعمل معاً لتوعية شبابنا بالجوانب المُشرقة من ثقافتنا وبتحصين مناعتهم الأخلاقية والروحية والسلوكية بمناقب النهضة وفضائلها.
تعالوا لننشر ثقافة المحبة القومية والإخاء القومي في مواجهة ثقافة التخاصم والتنابذ والتباغض.. وتعالوا نزرع الثقة والأمل والفضائل الجميلة بالنفوس ونعمل بإيمان واحد وإرادة واعية على بعث نهضة سورية قومية اجتماعية تعيد الأمة إلى حيويتها وتنتشلها "من فوضى الانحطاط إلى نظام النهوض ومن مصير الاضمحلال إلى مصير الوجود الحي، العامل، بوعي كامل، لأغراض الحياة الجيدة ومقاصد النفس القومية الكبرى."[7] إن فينا قوة، يقول المعلم، "لو فعلت لغيرت وجه التاريخ."
رفقائي! رفيقاتي!
أمل الأمة بإصلاح شؤونها منوط بنا جميعاً. فنحن أمل الأمة الوحيد. ولكن الأمل يكمن في العمل والجهاد لا في القعود والكسل. سعاده ينادينا قائلاً: "إلى هذا الجهاد أدعوكم! وما أغنت النيات عن الأعمال، ولا قامت التمنيّات مقام الأفعال. فاختاروا لأنفسكم أحد المصيرين: مصير الاستسلام والانحلال، أو مصير الثقة بالنفس والجهاد في الحركة القومية، حتى يتم النصر ويقوم حق الأمة السورية!"[8]
[1] خطاب الزعيم في الشوف، 19/01/1937
[2] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثامن 1948 – 1949، ملحق رقم 4 - خطاب الزعيم في دده الكورة
[3] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد السادس 1942-1943، "خطاب الزعيم في العيد القومي".
[4] أنطون سعادة، الأعمال الكاملة، المجلد السادس 1942-1943، "خطاب الزعيم في العيد القومي".
[5] أنطون سعاده، الإسلام في رسالتيه، الطبعة الرابعة 1977، ص 73.
[6] محاضرة الزعيم في مؤتمر المدرسين، النظام الجديد، المجلد 1، العدد 5، يوليو/ تموز ـ أغسطس/ آب 1948.
[7] المرجع ذاته.