الغالبية الساحقة من الكتّاب اللبنانيين تعتقد أن التفاهم المسيحي - الإسلامي يؤدي إلى وحدة وطنية، وأن الاستقلال الذي أُنجز عام 1943 حين اتفق رئيس الجمهورية الماروني بشارة الخوري، ورئيس الوزراء السنّي رياض الصلح، حافظ على الكيان الذي لم يكن موجوداً قبل عام 1920 حين اخترعه الفرنسيون عبر تقسيمات سايكس - بيكو. وسُمّيَ هذا الاتفاق السنّي - الماروني «الوفاق الوطني».
لا تزال هذه التركيبة الطائفية سارية حتى يومنا هذا باسم الوطنية، بالرغم من اللامنطق الذي يشوبها، ذلك أن الإيمان بأن هذه المعادلة تؤمّن «الوطنية»، كالقول بأننا إذا أضفنا تفاحة حمراء إلى جانب تفاحة صفراء نحصل على بطيخة! والحقيقة هي أن لا علاقة للدين بالمبدأ الوطني، فالدين له مفاهيمه، والوطنية لها أسس ومفاهيم مغايرة تماماً، وخلط الأثنين لا يؤدي إلا إلى المآسي التي مرّ بها لبنان منذ نشأته. ولفت نظري العديد من المقالات التي صدرت الأسبوع الماضي، والتي لا تزال تؤكد أن التوافق الطائفي/ الديني هو مرادف للوطن.
ففي مقالة للصحافي سامي كليب، بعنوان «كيف يفكر جهاد أزعور؟» («أساس ميديا»، 18 حزيران 2023) يقول: «يعتقد البعض أن الثنائي [الشيعي] يحتاج في نهاية الأمر إلى تفاهم أو اختراق لضمان غطاء مسيحي، والإبقاء على الشراكة الوطنية». فيما أيمن جزيني يرى أن «الراجح من أمر الجلسة البرلمانية أننا أمام أزمة إدارة سياسية متمادية، لا أمام أزمة نظام. المشكلة الفعلية أن هذا النظام، بما هو عقد وطني، دستوري، وُضع منذ البداية تحت احتلالين، الأول سوري، والآخر إيراني» («أساس ميديا»، 18 حزيران 2023). بينما يشبّه الكاتب محمد السماك صخرة لبنان الوطنية، بصخرة سيزيف الذي لا يفتأ يصعد بها إلى رأس التلة، إلا أنها تتدحرج عائدة إلى مكانها الأصلي! («أساس ميديا»، «أسطورة الوحدة الوطنية في لبنان»، 18 حزيران 2023). وربما السماك لامس الواقع في قوله إنها «أسطورة»، ذلك أن واقع الدولة الوطنية في العالم نشأ في البداية في أوروبا، خلال القرن السابع عشر، وتمحور حول الأرض، وحقوق شعب محدد على أرضه. فالدين لا صلة له بالأرض، بل بإيمان الفرد الذي يستطيع أن يحتفظ بإيمانه أينما ذهب، بينما المواطن الذي يغادر بلده إلى غير رجعة يخسر هويته الأصلية، كما يحصل أولاده وأحفاده على هوية البلد الذي يقيمون فيه.
البراهين والأدلة كثيرة بأن لبنان ليس وطناً، ومنها أن لا حقوق مواطنة لنا، لا في الترشح للانتخابات، ولا في التصويت على مرشحين، إذ إننا نقوم بهذه المهمة كـ«رعايا» كما تظهر البطاقات الرسمية للدخول والخروج، كما يبرز ذلك في القيد الشخصي الطائفي الذي على أساسه يتم تقاسم السلطة. ومرجعية المؤسسات الخاصة، كما العامة، في لبنان هي طائفية، وتتدخل الدول الغربية إجمالاً في تقرير الشؤون اللبنانية عبر مساندة هذه الطائفة أو تلك، وليس أدلّ من ذلك الضغوط الحاصلة اليوم من قبل الدول الغربية لانتخاب رئيس للجمهورية، فترسل مبعوثاً من هنا، وسفيراً من هناك في تدخّل سافر في الشؤون اللبنانية، دون أن يمتعض أحد، أو يعترض، بل الكل ينتظر القرار الخارجي دعماً لسيادة لبنان واستقلاله! وحتى المؤسسات الخاصة هي إمّا طائفية أو أجنبية داعمة لطائفة معينة، من مدارس وجامعات، إلى مصارف ومستشفيات.
في المحصلة، لبنان تم اختراعه على أساس أنه «لا وطن»، وجرى استعمال كلمة وطن للتغطية على اتفاق طائفي ماروني - سنّي لاقتطاع أجزاء من بلاد الشام مع نهاية الحرب العالمية الأولى، من أجل إعطاء المسيحيين الأفضلية في تبوّئهم للسلطة، وبالتالي ديمومة مرجعيتهم للغرب الذي اخترع لهم هذه المعادلة.