فلسفة التفاعل:
درس سعاده معظم الفلسفات، منطلقاً من جذورها حتى آخر تبدّياتها مطلع القرن العشرين، ورأى أن انحياز الفكر الفلسفي إلى مدرستين متناقضتين، وفق التعليل الديني ونقيضه التعليل العلمي، كرس نظرةً جزئيةً إلى الإنسان والكون، فأسس سعادة، بناءً على معطيات العلم والفكر في مطلع القرن العشرين، رؤيةً جديدة لإنقاذ العالم من تخبّطه وضلاله، وهذه الرؤية هي فلسفة التفاعل الموحِّد الجامع للقوى الإنسانية، وهي نظرة تؤنسن الكون بدلاً من تشييء الإنسان، فالبعد الإنساني في هذه الفلسفة يشكل أساس منهجه في التفكير والتحليل.
التفاعل عند سعاده لا يكون تفاعلاً حقيقياً إذا لم يكن تفاعلاً توحيدياً في معركة الصراع من أجل البقاء والارتقاء . إنه تفاعل طبيعي تعاوني موحد ضمن الأمة التي حققت وحدة مجتمعها بعد زوال جميع أشكال التجزئة والاستغلال. وهو أيضاً تفاعل طبيعي تعاوني موحّد بين جميع الأمم على أساس احترامٍ متبادل لمبدأي الحرية والسيادة القوميتين بعد زوال الإمبريالية والتخلف، وكل نزعة استعمارية استغلالية توسعية.
وبالتفاعل الطبيعي التعاوني الموحّد على الصعيدين القومي والعالمي تُزال عوامل التصادم في المجتمع التي يعرقل بعضها، ويضّيع «جزءاً غير يسير من فاعلية وحدته الحيوية»، فتـتجه قوى الإنسان إلى التفاعل مع الطبيعة من أجل توظيف إمكاناتها في سدّ الحاجات المادية والنفسية بما يحقق تطور الإنسان وارتقاءه. وإعاقة التفاعل التعاوني تسبب تناقضاتٍ قوميةً واجتماعيةً.
يعتمد سعاده الصراع الذي تمليه ضرورات التحرر القومي الاجتماعي من الاستعمار وأدواته وأشكاله المختلفة، ومن القوى الاجتماعية الداخلية المتحالفة، ضمناً أو علناً، مع قوى الاستعمار المضادة لمصلحة الشعب والدولة القومية.. إنه صراع قومي من أجل تحرر الوطن من جميع أشكال الإمبريالية والاستعمار والسيطرة، ومن أجل وحدة الوطن، وإلغاء جميع أشكال التجزئة.. وهو صراع اجتماعي من أجل تحرير المواطن من الاستغلال والظلم والقهر، ومن أجل وحدة الشعب بعد إزالة جميع أشكال التجزئة والتفرقة والانقسام.
ويرى سعاده أن الصراع الفعلي في التاريخ يجري بين الجماعات، وأن هذا العصر يتميز بأنه عصر التنازع على البقاء أو على السيادة والتوسّع بين الأمم المتقدمة، وبأنه عصر نضال الأمم الناهضة من أجل التحرر والبناء والازدهار، إضافةً إلى كونه صراعاً اجتماعياً تقوم به الفئات الواعية المحرومة والمضطهدة من أجل إلغاء جميع أشكال الاستغلال والقهر.
إن هذا المفهوم للتفاعل يشكّل نظرة سعاده إلى تطور الاجتماع الإنساني، أما نهجه في تحليل جميع الظاهرات والبنى، فسنحصرها في ثلاثة مستويات:
التفاعل بين الأساس المادي والبناء الروحي (المدرحية)، التفاعل بين الإنسان والمجتمع (الإنسانـ المجتمع)، والتفاعل بين الجماعة والبيئـة (الأمة).
يرى سعاده أن بنية الوجود الاجتماعي الإنساني مركّبة من عاملين متفاعلين يسميهما الأساس المادي والبناء النفسي، وقد عبّر عنهما بكلمة واحدة: المدرحية.
الأساس المادي: هو مكونات وعناصر البيئة الطبيعية الضرورية لسدّ حاجات المجتمع المادية والنفسية، مباشرةً أو مداورةً، بالعمل المباشر أو بالواسطة.. فالبيئة الطبيعية هي البيئة التي تقوم عليها جملة السلوكيات والتصرفات والعلاقات الاقتصادية التي تدخل في أساس الروابط الاجتماعية. يقول سعادة: «الرابطة الاقتصادية هي الرابطة الاجتماعية الأولى في حياة الإنسان أو الأساس المادي الذي يقيم الإنسان عليه عمرانه، فلا نستطيع أن نتصوّر مجتمعاً يقوم على غير أساس التعاون الاقتصادي لسدّ الحاجة...»(1). «الاقتصاد هو نقطة الابتداء في بحث حالات الاجتماع. حتى أننا نرى الحالة الاقتصادية تؤثر على الحالة البيولوجية أحياناً. والتطور الاجتماعي هو دائماً على نسبة التطور الاقتصادي…»(2). «ولسنا نقصد بالضرورة الاقتصادية أن الاقتصاد هو أساس أو مرجع جميع المظاهر الاجتماعية، فلا نزعم أن الاقتصاد هو الدافع إلى الحب والزواج والعناية بالبنين أو أنه الباعث على محبة الموسيقى، ولكننا نزعم أنه لا يكاد يعقد الزواج حتى يدخل العامل الاقتصادي أساساً لكيانه وبقائه، وأن محبة الموسيقى من حيث هي مظهر اجتماعي، تبقى عقيمةً أو أوليةً دون الأساس الاقتصادي، ولا يمكن الفصل عملياً بين الحياة ومقوماتها…»(3). «إذا كانت الرابطة الاقتصادية أساس الرابطة الاجتماعية البشريـة، فالعمل ونظامه التعاوني مصدر نظام الاجتماع وأساس بناء المجتمع»(4).
إن سعاده لا ينظر إلى الاقتصاد على أنه باعث للحياة، بل هو أحد مقوّمات الحياة وليس كلّها. ولهذا، فهو لا يقول بالتحتيم الاقتصادي المطلق للبناء الاجتماعي، بل الترابط الحياتي، والتناسب بين التطور الاجتماعي والتطور الاقتصادي. فالحالة الاقتصادية، على أهميتها الأساسية، هي جزء من الحالة الاجتماعية العامة، تؤثر فيها وتتأثر بها من ضمن العلاقة التفاعلية وعلى درجتها. فالمجتمع الضعيف لا ينشأ فيه اقتصاد قوي، في المقابل، يضعف الاقتصاد القوي عندما تضعف حيوية التفاعل. والاقتصاد، في نظر سعادة، ليس مقتصراً على وسائل الإنتاج، بل يتضمن الموارد الطبيعية في البيئة.. لذلك كلُّ مجتمع يعطي لنظامه الاقتصادي شكلاً خاصاً محدداً، بشخصيته، ومؤهلاته، ومشكلاته، وأهدافه، في نطاق تفاعله مع البيئة الطبيعية والاجتماعية التي تحيط به.
البناء النفسي: هو مجموعة الثقافات، والقيم، والمعارف، والاتجاهات الوجدانية والفكرية، والتصرفات والعلاقات التي تتعيّن بها صورة الاجتماع وحيويته الذاتية ومستوياته في الظهور. وهي تتشكّل من خلال صيرورة المجتمع ونشأته التفاعلية مع محيطه الطبيعي، وتتمثل في كيفية تنظيم التعاون الاقتصادي، وفي نظام الأخلاق والشرائع، وفي الاعتقادات والعلوم والفلسفات والفنون. ولكل جماعة أو مجتمع بناء نفسي خاص به، يعبر عن حاجاته ونزعاته وتطلعاته، وفيه مخزون خبراته وتجاربه وتالياً، استعداداته ومؤهلاته وإمكاناته التي تشكلت في سياق التطور التاريخي العام. وغالباً ما يختصر سعاده هذا كله بعبارة الحياة النفسية أو الحياة العقلية، ويتوسع على نحوٍ خاص، في تحليل تطور الدولة التي هي من أهم مظاهر البناء النفسي في الاجتماع البشري. وهو يعتبرها مظهراً ممتازاً للحياة العقلية على مستوى الجماعة أو المجتمع، ليس في ذاتها، بل بما تنطوي عليه من حقوق وواجبات.
وفي كتابه «نشوء الأمم» يناقش سعاده تطور مفهوم الدولة، ويرهن ارتقاءها بارتقاء الحاجات المادية النفسية.. ومن هذا المنطلق يرفض الدولة عندما تتحوّل إلى مجرد سلطةٍ أو «إرادةٍ خصوصية تفرض نفسها على المجموع الذي تشمله»، وهو مع الدولة عندما تصبح «النظامَ والهيئة الممثلين لإرادة الأمة». وعلى كل حال، لا يعتبر سعاده «الدولة وحكومتها مظهرين اجتماعيين نهائيين»، ولا ينظر إليهما على أنهما مظاهر مطلقة قائمة في ذاتها، «بل تقومان على ما هو أعمق منهما، على حياة المتّحد وإرادته».. ولذلك لا ينفي إمكانية تطورهما في أشكال وصيغ سياسية حقوقية عندما تدعو الحاجة إلى ذلك، كما يطرح إمكانية إلغائهما في المستقبل عندما تتوافر الشروط اللازمة.
هذا هو مفهوم سعاده للأساس المادي والبناء النفسي، وإلى اعتماد هذه النظرة المتقدمة في إنسانيتها دعا العالم «إننا ندعو الأمم إلى ترك عقيدة تفسير التطور الإنساني بالمبدأ الروحي وحده، وعقيدة تفسيره من الجهة الأخرى بالمبدأ المادي وحده، وإلى التسليم معنا بأن أساس الارتقاء الإنساني هو أساس مدرحي، وأن الإنسانية المتفوقة هي التي تدرك هذا الأساس، وتشيد صرح مستقبلها عليه»(5). واعتبر أن هذه النظرة هي «القاعدة التي يمكن عليها استمرار العمران وارتقاء الثقافة»
(6)، وهي القادرة على «تحويل الصراع المميت إلى تفاعل متجانس يحيي ويعمر، ويرفع الثقافة، ويسير بالحياة نحو أرفع مستوى»(7).
إن فلسفة سعاده ليست توفيقيةً، ولا ثنائيةً، ولا وسطيةً، بل هي فلسفة وحدوية الأبعاد، تعبّر عن الوجود الإنساني، كما هو في طبيعته. ويرى سعاده أن التلاحم المتين بين الوعي (العقل والوجدان) وظواهر الوجود المادي هو دليل عملي على وحدة الفكر والواقع.. ولذلك، فالمدرحية هي وحدة المادة ـ الروح في تفاعلٍ واحدٍ متماسكٍ متجانسٍ.
المدرحية نابعة من إدراك سعاده ضرورةَ احترام بنية الوجود الاجتماعي المركبة من أساس مادي وبناء نفسي حتى تتم عملية تطوّر الحياة الاجتماعية الإنسانية على نحوٍ سليم وكاملٍ.
وفي واقع الأمر، فإن الذين يقولون بتطور الاجتماع الإنساني على أساس الفلسفة المادية لم يتمكنوا من تجاهل الفاعلية الروحية المتمثلة في الوعي، والعقيدة والظاهرات النفسية، والذين يقولون بتطوير الاجتماع الإنساني على أساس الفلسفة الروحية لا يستغنون عن المادة والفاعلية المادية المتمثلة في وسائل الإنتاج، والتكنولوجيا، وسائر الظاهرات المادية في الاجتماع الإنساني. أما المدرحية فتنطلق من الاعتراف بهذا الواقع الطبيعي، ومن العلاقة التفاعلية القائمة بين المادة والروح، وترك النظرة الأحادية إلى الاجتماع الإنساني.
وهي تدعو إلى فهم العالم انطلاقاً من جذرية الظاهرية الإنسانية والقوانين التي تحكم تعدّديتها. ونزوعها الدائم إلى الارتقاء، وتالياً، الاهتمام بتنمية قوى الإنسان المادية وقواه الروحية في إطار المتحد الاجتماعي على مختلف مستوياته.
إن المدرحية في تجاوزها الأسس الميتافيزيقية والأنطولوجية للكائن الإنساني تنقض المذاهب الفكرية المثالية ماديةً كانت أم روحيةً. إذ يرى سعاده أن مجال المدرحية لا يشمل الماورائيات وهي تالياً،لا تجيب عن الأسئلة التي تثيرها ثنائية المادي والروحي، كما أن المدرحية توجه نقداً صريحاً للفلسفات الأحادية التي لا ترى في الوجود بأسره إلاّ المادة وأشكالها أو الروح وأشكالها. وهي تتجاوز السؤال الفلسفي التقليدي المحكوم بمنطق أسبقية المادة أو الروح إلى سؤال بديل يجعل من وجود الإنسان شرطاً أساسياً لفهم ظواهر الوجود المادية والروحية. ويرى سعاده أن العلاقة بين الإنسان والوجود هي موضوع الفلسفة الاجتماعية وفيها الإجابات الحقيقية عن الأسئلة الكبرى التي تطرحها الفلسفة الميتافيزيقية. وانطلاقاً من هذا المنهج الفكري الجديد، يصبح فهم الظاهرة الإنسانية، نشوءاً وارتقاءً، مدخلاً لفهم المسائل المادية والروحية على اختلافها. وهنا تكمن نقطة الافتراق الفكرية بين سعاده والميتافيزيقيا في مذاهبها المادية والروحية.
إن الاتجاه الحقيقي للمدرحية يبدأ من البحث في اجتماع الإنسان وأشكالها، وتعيين مسار التفاعل بين المادي والروحي في إطار الوجود الإنساني والحياة الاجتماعية. المدرحية تترك حرية المعتقد بالنسبة للأسئلة والمعضلات المطروحة ما قبل وما بعد الوجود والتي تدخل في إطار ومجال الماورائيات. وبهذا المعنى، المدرحية هي فلسفة اجتماعية وليست فلسفةً ميتافيزيقيةً.. تعنى أولاً بالوجود المجتمعي وهذا ما يقودنا إلى دراسة التفاعل بين الإنسان والمجتمع، ونظرة سعاده إلى الإنسان ـ المجتمع.
الإنسان ـ المجتمع
إن تفكير سعاده في الاجتماع وتطوّره مبنيٌّ على العلاقة «المثلثة الأضلاع: الجسم والنفس (الدماغ) ـ المحيط». فكل طرف من هذه الأطراف الثلاثة أمرٌ واقع، أياً كانت العلة النهائية لوجوده. والإنسان يتميّز، بين الكائنات الحيّة، بنوعية علاقته مع المحيط. «فالإنسان هو الوحيد بين جميع الكائنات الحيّة الذي أمكنه إيجاد علاقة تفاعلية مع الطبيعة، وخصوصاً مع البيئة»(8). وطبيعي أن تكون غاية هذه العلاقة التفاعلية هي البقاء والارتقاء في الحياة، إذ إنّ اشتمالُها على البعد النفسي الفكري يعطيها وجهةً ومعنى غير موجودين في سائر الكائنات الحيّة.
وفي هذا السياق يرى سعاده أن اجتماعية الإنسان قديمة قدم الإنسان نفسه لأنّ الاجتماع البشري «أمر واقع ملازم للبشرية، وأنّ خصائصه ملازمة لخصائص الإنسان». ويمتاز الاجتماع البشري ويفترق عن غيره بسبب «ظهور الفكر الذي له كلّ الأهمية في الحياة والاجتماع الإنسانيين»(9).
إنّ اجتماعية الإنسان تقوم على ظاهرتين، أو بالأحرى تتشكّل بهما، وهما: الشخصية الفردية والشخصية الجماعية.
وهو يقول: «كان ظهور شخصية الفرد حادثاً عظيماً في ارتقاء النفسية البشرية وتطور الاجتماع الإنساني. أمّا ظهور شخصية الجماعة فأعظم حوادث التطور البشري شأنّاً، وأبعدها نتيجةً، وأكثرها دقّةً ولطافةً، وأشدها تعقداً. إذ إنّ هذه الشخصية مركّب اجتماعي ـ اقتصادي ـ نفساني يتطلب من الفرد أن يضيف إلى شعوره بشخصيته شعورَه بشخصية جماعته، أمّته، وأن يزيد على إحساسه بحاجاته إحساسه بحاجات مجتمعه، وأن يجمع إلى فهمه لنفسه فهمَه نفسية متّحده الاجتماعي، وأن يربط مصالحه بمصالح قومه، وأن يشعر مع ابن مجتمعه، ويهتم به ويودّ خيره كما يودّ الخير لنفسه».. «إن عقيدتنا الاجتماعية، تنظر إلى الإنسان من زاوية الحقيقة الإنسانية الكبرى ـ حقيقة المجتمع لا من زاوية الفرد، الذي هو في حدّ ذاته، وضمن ذلك الحدّ، مجرّد إمكانية إنسانية»(10).
يعدّ سعاده ظهورَ الشخصية الفردية وتمايز الشخصية الجماعية منطلقاً لفهم الظاهرة الإنسانية، وأن الإشكالية الفكرية ليست في إثبات أو نفي وجود هاتين الظاهرتين، بل في التناقض في فهم العلاقة العضوية القائمة بينهما التي ينظر إليها سعاده من زاوية تفاعلية تنطلق من الأسبقية الواقعية «الاجتماعية» كحالة سابقة على الفرد، وكل حالة اجتماعية تطبع الفرد بطابع نفسي يعبر عنها ويحمل خصائصها. ومن جهة أخرى، يتصل الفرد بعد نشوء شخصيته، بعلاقة تدفعه إلى الانضواء في حياة الجماعة. وهي علاقة غير محددة بقوالب حتميّة، لكنها محكومة بصيغة الحياة العامة التي تملي على الفرد شرطَ تحقيق ذاته من خلال علاقته بجماعته، وإدراكه لشخصيتها ونفسيتها، ومصلحتها، وصيغتها العامة. المهم عند سعاده هو ما يشعر به الفرد، وما يتصوره ويقصده في علاقته بجماعته، وهو يميز بين إحساس الفرد بذاته والنزعة الفردية التي يعدّها هدّامةً للماهية الاجتماعية وتشكل خللاً في المواءمة بين شخصية الفرد وشخصية جماعته.
إنّ استقلالية شخصية الفرد هي في أساس حريته وشرط لإبداعه، وفي إطارها المادي والنفسي يبرز دور الفرد وتتحدّد مكانته على قاعدة أن المجتمع صيغة نوعية وليس كمّاً من الأفراد. ونسبة الفرد إلى حقله الاجتماعي تسقط كل نظرة توتاليتارية. فسعاده لا يؤمن بعدمية الفرد، بل بقيمته النوعية التي تتحقق بمقدار إسهامه في خير المجتمع وموقعه في حركة تقدّمه.
إنّ العلاقة التفاعلية الطبيعية الموحدّة بين الفرد والمجتمع هي في صيرورة الأفراد إلى إنسان ـ مجتمع، وتحقيق وحدة المجتمع بعد إزالة جميع أشكال التناقض والتجزئة والاستغلال. وذلك لا يتم إلا بعد إنجاز معركة الصراع، وسحق القوى المعطِّلة لهذا التفاعل، وقيام النظام الجديد والإنسان الجديد، والمجتمع الجديد.
إن منهج سعاده في التفاعل الطبيعي التعاوني الموحد يحكم علاقة الإنسان بمختلف الظاهرات انطلاقاً من تفاعل الأساس المادي والبناء النفسي (المدرحية)، وهذا التفاعل مرتبط بمستوى اجتماعية الإنسان وأشكالها وتفاعل الإنسان والجماعة (الإنسان ـ المجتمع) يتخذ طابعه الأشمل في تفاعل المجتمع مع البيئة، (الأمة) الذي نموذجه في هذا العصر الشكلُ القومي.
الأمّــــة
في تحديده للأمة، تخطّى سعاده الفكر الأوروبي الذي عرف القومية انطلاقاً من دوافع سياسية أحياناً وعرقية أحياناً أخرى، ونقض مفاهيم الرومانسية البورجوازية سواء الليبرالية منها أو الفاشية وبخاصة تلك التي اعتبرت الأمة وجوداً إرادياً أو روحياً أو لغوياً أو سلالياً، متجاهلةً أن الشأن المادي يلعب دوراً عميقاً في تكوين الجماعة القومية. كذلك دحض سعادة، انطلاقاً من نظريته القومية الاجتماعية، الاتجاهات الذرائعية إلى تكريس مفهوم الأمة الطبقة، والأمة الطائفة، وغيرها من النظرات الجزئية التي تجعل التناقض مبدأ لفلسفة الأمة.
ويشار إلى أن علم الاجتماع الماركسي حاول لاحقاً، تحت ضغط الحاجة النظرية، وضع تعريف اصطلاحي للأمة يتجاوز مفهوم الأمة ـ الطبقة.. وحسب هذا التعريف، تنشأ الأمة بفعل أربعة عوامل هي: اللغة والأرض والاقتصاد والعوامل النفسية. وهذا التعريف يقع بدوره في الجزئية والتخبط لجهة عدم تمييزه بين العوامل الأساسية والعوامل الثانوية، وفيه تصبح الأمة مجموعة عوامل لا رابط بينها، وتالياً، فإن غياب عامل واحد من هذه العوامل يبطل وجود الأمة من الأساس دون التفريق بين عوامل نشوء الأمة والعوامل الناشئة منها.
الفرق بين مفهوم سعاده للشأن القومي وما سبقه من نظرات ينبع من الافتراق في المنهج. وفي منهج سعاده يحفل علم الاجتماع الحديث في مختلف مدارسه المعاصرة بأبحاث هامة يمكن إرجاعها إلى خلاصات سعاده وكتابه نشوء الأمم. فالأمم لا تُصنع، وليست تأليفاً سياسياً أو اجتماعياً أو ثقافياً، إنما تنشأ وتتشكّل وتتم وفق قانونها الطبيعي في وقت سابق لإدراكنا لها. أما القومية، فهي تعبير إدراك الجماعة لشخصية الأمة وحصول الإرادة المشتركة.
لقد ذهب بعض العلماء إلى تعريف المتّحد بالصفات، فقالوا إنه جماعة يتمتع أفرادها بصفات مشتركة من عادات وتقاليد وأخلاق ولهجات، وذهب آخرون إلى تعريفه بالإرادة الواحدة، ولكن سعاده يرى واحدة هي من نتائج وجود المجتمع، والشيء بذاته وجوهره أما النتائج فلا يمكن أن تكون هي العلة الحقيقية لتكوين المتحد، لأن المتحد واقع طبيعي بحت، والعلة الجوهرية في تكوينه هي الاشتراك في الحياة الواحدة، وقيامه خاضع لمبدأي إرادة الحياة والوجود الجماعي. فالصفات تتبع المتّحد، لا المتحد يتبع الصفات. وأما الإرادة، فهي ملازمة لكل متحد، إلا أنها لا تكفي لتوليد متّحد اجتماعي. الشركة التجارية تعبر عن توافق إرادات عدة في مصلحة واحدة، لكنها ليست متّحداً اجتماعياً. صحيح أن رابطة المتّحد هي رابطة المصلحة، التي هي بالمعنى الحصري سدّ الحاجة، لكن «التوسع في معنى المصلحة يشمل كل ما تنطوي عليه النفس الإنسانية في علاقاتها»(11). فالمصالح الاجتماعية ليست بيولوجيةً اقتصاديةً فقط، بل هناك مصالح نفسية، وأخرى تتعلق بنوع الحياة الراقية، الجميلة، الجيدة، المتحسنة باستمرار. لذلك، لا يتكون متّحد اجتماعي من مجموع مصالح خصوصية متماثلة، بل من مصلحة مشتركة ذات بعد عميق في الحياة، يجتمع عدد من الناس في تحقيقها لأنها تشمل الكل. المتحد لا يلغي مصالح الأفراد الخصوصية، بل يضع فوقها مصلحة عليا مشتركة، ولذلك فمبدأ وحدة الحياة على بيئة طبيعية واحدة هو الشرط الأساسي في قيام المتّحد الأتمّ الذي هو الأمة، وفيه تكتمل دورة الحياة الاقتصادية والاجتماعية التي تعبر باتجاهاتها عن مدى حيوية الأمة وقدرتها على التمايز إرادةً، وفكراً، واقتصاداً.
ومفهوم سعاده عن المتّحد الأتم ينطلق من التعريف الموضوعي «الفلسفي العلمي» لحقيقة الأمة. وهذا المفهوم بلورته في علم الاجتماع الحديث دراساتٌ نقدية مقارنة لأفضل التعريفات المتداولة عن الأمة في العلوم السياسية والاجتماعية.
ومختصر ما توصل إليه أن الأمة، من حيث إنها متحد اجتماعي، لا تقوم على مجرد صفات مشتركة بين أفرادها، أو على إرادة مجموعية واحدة، أو ما شابه من عناصر مماثلة كاللغة والتاريخ والدين، بل تقوم أساساً على عامل الاتحاد في الحياة والوجدان الاجتماعي، الذي تنتج عنه وحدة الإرادة، ووحدة المصالح، والاشتراك في التاريخ واللغة، وغير ذلك. فالأمة مجتمع طبيعي، أيّ يتكون بعامل الترابط والتلاحم بين المصالح المادية والنفسية الذي يتشكل بطبيعة الحياة، وتحكمه خصوصيةُ البيئة (الأرض) وفطرةُ الجماعة (اتجاهاتها النفسية وثقافتها)، وليس بسبب السيطرة السياسية، أو بقانون سلطوي، أو شرع ديني، أو زمني. فالبيئة الجغرافية، بمكوناتها الطبيعية، ضرورية لحياة المتّحد، وتحكم خياراته، وليس هناك من أمة من دون قطر معين محدود، غير أن الحدود الجغرافية، على أهميتها، لم تشكل في الماضي حواجز نهائية، بل تمددت وتقلصت وفقاً لحيوية وقدرة الجماعة التي تعيش ضمنها. ونرى اليوم أن الأمم التي تنامت طاقاتها اتجهت إلى تشكيل التكتلات الدولية بهدف إطلاق حيويتها على مدى جغرافي أكثر اتساعاً. أما وحدة الأصل السلالي، فهي غير متوفرة في أي أمة من الأمم الحديثة. فأصول الأمة مركّب أو مزيج معين من عناصر إنسانية مختلفة، صهرتها الحياة المشتركة في تعاقب الأجيال والعصور. وهنا تصبح العادات والتقاليد الواحدة، عنصراً هاماً في المتحد القومي، وتجانسها يؤثر في حيوية الدورة الاجتماعية، وفي عمق الاشتراك في الحياة الواحدة، وهي، بحكم خلفيتها الوجدانية ومضمونها الثقافي، تتطور وتتغير في السياق الاجتماعي ذاته. في المقابل تشكل اللغة الواحدة، كوسيلة للتفاهم والتعبير عن الذات، عنصراً هاماً في تعميم المشهد الحضاري للمتحد القومي، وتكتسب بمنطوقها ومضمونها ميزات شتى في التعبير عن الشخصية القومية في المتّحد القومي، غير أنها لا تقرر وجود هذه الشخصية. فبعض الأمم لا تتكلم لغةً واحدة، وبعضها يتكلم لغات الأمم الأخرى من دون أن يفقد المجتمع فيها ميزاته الحضارية وخصوصيته كمتّحد. أما الدين، فهو طبيعة عامة تتجاوز حدود الأمم. واشتراك عدة أمم في دين واحد لم يُلغِ عبر التاريخ الفوارق الحضارية الناجمة عن اختلاف البيئات، كما أن الرابطة الدينية لم تتقدم على الروابط الأساسية في المتحدات، ولم تُلغِ حقيقةَ أن المجتمع هو: «الحالة والمكان الطبيعيان الضروريان لنشوء الإنسان وارتقائه»(12). ومشهد العالم اليوم يوضح أن الجامعات الدينية لم تستطع إلغاء التمايزات القومية، لا بل إن كل أمة تتخذ لنفسها نسقاً إسلامياً أو مسيحياً، أو غير ذلك، ينسجم مع خصائصها الأصلية.. هناك أمم من العالم المسيحي ولكن لا وجود عملياً لأمة مسيحية، وهناك أمم في العالم الإسلامي دون أن يعني ذلك وجوداً حقيقياً لأمة إسلامية، وبالمقابل، هناك أمم يعتنق مواطنوها ديانات مختلفة من دون أن يؤدي ذلك إلى التشكيك في قدرتها على بلورة متّحد أتمّ. والسبب واضح، فالأمة سابقة في وجودها للدين، ولذلك فشخصية المتّحد القومي تطبع الممارسة الدينية بطابعها المميز، وفي الأمور المتنازع عليها تتغلّب مصلحة المجتمع على مصلحة الدين. وكذلك الأمر بالنسبة للثقافة فهي ذات طبيعة عامة كالدين، لكنها لا تعيّن الأمة تعييناً كيانياً، فكلُّ أمة تشترك بدرجة معينة في ثقافة العصر، ولكن ذلك لا يلغي احتفاظها بميزات ثقافية تعبر عن خصوصيتها واستقلالها الفكري. والدولة الواحدة نفسها ليست مقوّماً للأمة، ولكنها ضرورية لإبراز شخصيتها وتنظيم كيانها الاجتماعيـ الاقتصادي. وأخيراً، التاريخ الماضي فهو معطى من معطيات الوعي الاجتماعي، وتالياً هو تابع للحياة المجتمعية الفعلية التي تدرك ذاتها في نوع الوجدان الاجتماعي المسمى الوجدان القومي. وهكذا يتبين أن كل العناصر والخصائص التي ينطوي عليها كيان الأمة، من حيث هي أتمّ متّحد اجتماعي، تابعة لمبدأ الاتحاد الواعي في الحياة والمصير.
بعد أن عرّف المتحد الاجتماعي، وبحث في عناصر الأمة وضع سعاده خلاصةً منهجية في تعريف الأمة.. «الأمة جماعة من البشر، تحيا حياة موحدة المصالح، موحدة المصير، موحدة العوامل النفسية ـ المادية في قطر معين يكسبها تفاعلها معه في مجرى التطور خصائص ومزايا تميزها عن غيرها من الجماعات…»(13)، والقومية «هي يقظة الأمة وتنبهها لوحدة حياتها ولشخصيتها ومميزاتها ووحدة مصيرها»(14).
وحسب سعادة، فإن نقطة الابتداء الحقيقية الأساسية لنشوء الأمة تكمن في العلاقة الطبيعية القائمة بين الجماعة الإنسانية والأرض التي تقيم عليها، وشرط المجتمع ليكون مجتمعاً طبيعياً أن يكون خاضعاً لمبدأ الاتحاد في الحياة والوجدان الاجتماعي، أيّ أن تجري فيه حياةٌ واحدة ذات دورة اجتماعية اقتصادية واحدة تشمل المجموع كله، وتنبه فيه قيمة الشعور بوحدة الحياة ووحدة المصير، فتتكون من هذا الشعور الشخصيةُ الاجتماعية بمصالحها وإرادتها وحقوقها. وحالما تدرك هذه الشخصية ذاتها وميزاتها تترجم روحها الحضارية إلى مضمون قومي.
وعلى صعيد الواقع الميداني، رأى سعاده أن سوريا الطبيعية شكلّت عبر التاريخ، وفي مختلف محطاته بيئةً حضاريةً تحققت فيها الدورة الحياتية الواحدة والتامة في بعديها الاقتصادي والاجتماعي. أما وجود الكيانات السياسية، لبنان، قبرص، الأردن، العراق، الكويت، فلسطين، فشأن عارض ولا يلغي حقيقةَ أن سوريا أمة واحدة.
انطلاقاً من تعريف سعاده للأمة، فإن مفهوم القومية الاجتماعية يجمع في صلبه كلاً من القضية القومية والنظام الاجتماعي الاقتصادي الجديد معاً في وحدة عضوية كلية، من دون أن يحلّ أحدهما محل الآخر، أو يلغي أحدهما الآخر.
إن اعتماد مبدأ الأمة ـ المجتمع دحض كل المفاهيم التي تعتبر الأمة (الشأن القومي) شيئاً غير المجتمع (الشأن الاجتماعي)، وحال تالياً دون نشوء ازدواجية متناقضة بين الشأنين القومي والاجتماعي، كما هو حال سائر المدارس الأخرى.
ولأن القومية، في نظر سعادة، نتاج عملية تاريخية طويلة ومستمرة، فقد رأى أن عملية النهوض القومي هي محطة تاريخية في حياة الأمة، وهي بنزوعها الثوري ترمي إلى استنفار الطاقات الكامنة في الأمة. وكل ثورة قومية ذات مضمون نهضوي هي بالضرورة ثورة فكرية في السياسة والاقتصاد والاجتماع والأمن تستهدف في نهجها تحقيق «الوحدة القومية المتينة» في ظل النظام الاجتماعي الاقتصادي الجديد. يقول سعاده في هذا المجال: «الوحدة القومية القوية لا يمكن أن تحصل ضمن نظام اقتصادي سيئ. كما إنه لا يمكن أن تحصل ضمن نظام اجتماعي سيئ»(15). إن الوحدة القومية القائمة على إلغاء التناقضات والتجزئة القومية مرتبطة حكماً بمضمون اجتماعي جذري شامل يستوعب مشكلات التجزئة الاجتماعية بوجهيها النفسي والمادي لتحقيق الوحدة الاجتماعية القائمة على أساس النضال الثوري لدكّ أنظمة التجزئة والتناقضات الاجتماعية والاقتصادية السياسية الثقافية في سبيل النظام الجديد.
والثورة القومية في ظروف العالم الثالث بخاصة لها بالضرورة مضمون اجتماعي جذري شامل، وإلا فإنها تكون ثورةً هجينةً، كما أن كل ثورة لا ترتكز على القاعدة القومية تكون مبتورة الجذور.
إن الثورة الاجتماعية المرتكزة على الشأن القومي تتجه بطبيعتها إلى التناقض والاصطدام مع الاستعمار والتجزئة والعدو الخارجي، وهي تتجه في الوقت نفسه للتناقض الصدامي مع معرقلات النهوض القومي داخلياً، مع عصر الانحطاط ومفاهيمه، ومع التخلف والتجزئة الاجتماعية والظلم الطبقي والنظام القديم بكل مضامينه وأشكاله.
إن الثورة الاجتماعية، بمفهوم سعادة، تنطوي في العمق على محاربة كل أشكال الظلم الطبقي دون أن تنحصر فيه، لأن ظروف العالم الثالث وظروف أمتنا بخاصة تفرض على الثورة مواجهةَ واقع مركّب ومتداخل من المشكلات المادية ـ النفسية. يقول سعادة: «إن نظام الطبقات الرأسمالي لم تكن له نتيجة اجتماعية غير الحفز على نظام حرب الطبقات…»(16).
وكما تكونت ضمن المجتمع الواحد الطبقات والنظام الطبقي بعامل الثورة الصناعية، كذلك تكونت بذلك العامل عينه الطبقات الأممية والنظام الطبقي الانترنسيوني الذي يضع طبقة من الأمم الاستعمارية ذات النزعة الإمبراطورية والنفوذ الواسع، وطبقة من الأمم المتوسطة، وطبقة من الأمم المنحطة أو المضغوطة، المحرومة.
لقد ربط سعاده مباشرةً بين تشكّل الطبقات الاجتماعية ومساوئ النظام، ورأى أن الصراع بين هذه الطبقات يُضعف المجتمع ويعوقه عن بلوغ إنسانيته لا سيما أن الصراع الطبقي يفلسف «الحق» من منظور فئوي، ويختصر المصلحة العليا إلى مصالح جزئية، ويطرح مبدأ استنسابياً في العدالة الاجتماعية الاقتصادية. أما البديل في نظره، فهو الصراع الاجتماعي الشامل الذي يشكّل الصراع الطبقي إحدى حلقاته، لأن المشكلة التي تواجهها الفئات المقهورة في المجتمع لا يمكن اختصارها فقط في بعد مادي اقتصادي، وقضايانا الكبرى لا تحلّ بمجرد تغيير علاقات الإنتاج.
إننا نواجه مشكلات طائفية وإثنية وعشائرية وعائلية وذهنية قدرية وتقاليد بالية ومؤسسات عتيقة، ومن هنا كانت ثورة سعاده الجذرية الشاملة. فالثورة التي نحن بحاجة إليها هي ثورة لعصرنة المجتمع، وهي، في الوقت نفسه والاتجاه نفسه، ثورة ضد الاستعمار والصهيونية والعدو الخارجي، ويشكل الصراع فيها من أجل الحرية والسيادة والتقدم مضمون الثورة الاجتماعية بوجهيها المادي والاقتصادي والنفسي الثقافي العقلي المناقبي. فالثورة الاقتصادية لتغيير علاقات الإنتاج لا تحقق نتائجها من دون الثورة الثقافية لتغيير المفاهيم المعوقة لحركة التقدم، والتأسيس لعقلية جديدة تفتح الآفاق أمام الإنسان الجديد.
انطلاقاً من القانون الطبيعي لنشوء الأمة وتكوّن الظاهرة القومية، رأى سعاده أن العالم العربي يتشكل من أربع أمم لكل منها ميزاتها المادية ـ النفسية.
ووحده اعتبر أن الانتقال من الكيانية إلى العالم العربي يتطلب أولاً تحقيق وحدة الكيانات على بيئاتها الطبيعية، كخطوة للتقدم في اتجاه عالم عربي موحّد. ونظراً للأهمية الاستراتيجية التي يشكلها هذا الهدف وضع سعاده مطلب «السعي إلى جبهة عربية» في غاية الحزب التي تشكل مدخل دستوره. وبناءً على هذا المشروع، كان رفضه للدعوات القومية الرومانسية التي مدت حدود الأمة على المدى اللغوي، أو العنصري، أو الديني مسقطةً دونما اعتبارٍ تكاملَ الدورة الاجتماعية الاقتصادية ومسبباتها وعواملها.
إن القومية الاجتماعية، بمضامينها الفلسفية والعلمية وبنظرتها الاستراتيجية، تقدم دليلَ عملٍ واضحاً للنهج الوحدوي في العالم العربي كله وليس في سوريا الطبيعية وحدها.
إن رفض سعاده لمقولات الفكر القومي الرومانسي ينبع من أساس علمي لا سيما أن معظم تلك المدارس يرتكز على النعرات العنصرية اللغوية أو الدينية معتبراً أنها الروابط الأساسية للشأن القومي.. يقول في كتابه «التعاليم السورية القومية الاجتماعية»: «إن هذا المبدأ ينقذ سوريا من النعرات الدموية، التي هي من شأنها إهمالُ المصلحة القومية العامة والانصراف إلى الانشقاق والفساد والتخاذل. فالسوريون الذين يشعرون ويعرفون أنهم من أصل آرامي لا يعود يهمهم إثارة نعرة دموية آرامية ضمن الأمة والبلاد ما دام هنالك اتباع لمبدأ الوحدة القومية الاجتماعية والتساوي في الحقوق والواجبات المدنية والسياسية والاجتماعية، من دون تمييز بين فارق دموي أو سلالي سوري. ولذلك، فالذي يعلم أنه متحدر من أصل فينيقي (كنعاني) أو عربي أو صليبي لا يعود يهمه سوى متّحده الاجتماعي الذي تجري ضمنه جميع شؤون حياته، والذي على مصيره يتوقف مصير عياله وذريته وآماله ومثله العليا. هذا هو الوجدان القومي الصحيح».
ويرى سعاده أن الجدل بين دعاة الأصل الفينيقي والأصل العربي الذي كان سائداً في الثلاثينيات، كان منطلقاً خاطئاً لفهم الفكرة القومية. وعلى خلفية هذا الجدل ذاته قامت الدعوات إلى الأصل الكردي والأصل الآشوري والأصل العربي والأصل الفينيقي، وهو بكل حيثياته وأدبياته «جدل عقيم يهمل الواقع المحسوس ويتثبت باللاحسي، جدل يحلّ علم الكلام محل علم الاجتماع». (المحاضرات العشر ص60).
والطريق العلمي والعملي للخلاص من هذا التمزق هو التسليم بأن لا حاجة إلى أصل واحد معين لنشوء الأمة، لنشوء القومية. فالأمة موجودة بتفاعلها ضمن بيئتها ومع بيئتها، وأصل الأمة الوحيد هو وحدة حياتها. (المحاضرات العشر ص62).
إن التفاعل الحيوي بين الإنسان والبيئة (أرض الأمة) يؤتي نتائجه في الحقل الاجتماعي عبر تفاعل أفقي يشترك فيه أبناء المتحد القومي كافة، وهذا التفاعل الموحد هو الأساس في تفعيل دورة الحياة الاقتصادية الاجتماعية، وترجمته العملية هي الاتحاد في الحياة.. إنها الدورة الصاهرة لمختلف السلالات والأصول الدموية. وسعاده يرفض على قاعدة هذا المفهوم النظريات العنصرية اللغوية سواء السامية أو الآرية ليؤكد أن الأمم هي مزيج مختلف السلالات التاريخية، وأن وحدة الحياة تلبي حاجات الجماعة الحيوية للارتقاء والتقدم بصرف النظر عن الدم ونوع السلالة والدين.
وانطلاقاً من هذه الرؤية، يشير سعاده إلى خطورة الإيقاع الديني الذي يقوم عليه الفهم التقليدي للعروبة. «.. هذه العروبة الدينية التي تزيد الشقاق والتنافس بين الأقطار العربية، وتمنع التفكير القومي من النمو وفتح الآفاق للأمم العربية اللسان.. هي نكبة أو لعنة لجميع الأقطار العربية على السواء»(17).
إن اللعنة التي أشار إليها سعاده باكراً لم تكن من قبيل الدفاع عن عقيدته، بل هي استشراف منطقي لنتائج البلبلة واللاعقلانية التي ميزّت اتجاهات الفكر القومي الرومانسي في العالم العربي الذي انصرف في أدبياته إلى استلهام الماضي على أنه مثال للمستقبل. ولم يكن غريباً أن الكيانية في العالم العربي تجذّرت أكثر فأكثر على إيقاع هذه الأدبيات التي ناصبت فكر سعاده العداء، تارة تحت عنوان «العداء للعروبة» وتارة أخرى تحت عنوان «الإقليمية»، على الرغم من أنه لا يدعو إلى تجزئة عالم عربي موحّد، بل يدعو إلى توحيد عالم عربي مجزّأ وفق منهج علمي يأخذ بالواقع الاجتماعي أساساً للتحرّك الوحدوي.
وهذه حقيقة تغافل عنها جميع المتشنّجين ضد فكر سعاده الوحدوي خصوصاً الذين اعتبروا في غلوّهم الرومانسي أن سعاده يمزق وحدة عربية قائمة ويحيلها إلى أقاليم!! بينما عوّل سعاده على الرابطة العربية منذ 1932 في قيام عالم عربي ذي وزن دولي كبير يحتضن أمم العالم العربي، ويتقدم بها ككتلة متماسكة قادرة على بلورة حالة «عربية» ذات مدى مؤثر في العالم. وهو منذ الأربعينيات في أوج نضاله القومي ضد الاستعمار الفرنسي والبريطاني في سوريا الطبيعية يقول «إن الحزب السوري القومي الاجتماعي يقول بتوحيد جبهة الشعوب العربية ما أمكن. أما غيرة هذا الحزب على كرامة العالم العربي وتعاون أقطاره فأمر ثابت في صلب خطته السياسية. وإني أكرر هنا ما قلته سابقاً. إنه متى كان الموقف متعلقاً بكرامة العالم العربي كله فنحن جبهة العالم العربي وسيفه وترسه ونحن حماة الضاد ورافعو لوائها» (جريدة الزوبعة آذار ـ 1943).
ومن الطبيعي أن العلاقات العربية والمصالح المشتركة نمت نمواً أوسع باطّراد التطور، ما يجعل صيغ التوحيد تخضع لنمو وتشابك المصالح العربية المشتركة. ولقد استشرف سعاده هذه الظاهرة عندما أعلن في النص المشار إليه أعلاه دعوته «لتوحيد جبهة الشعوب العربية ما أمكن» جاعلاً الإمكان هو القاعدة لنسبة التوحيد. وهذا الإمكان مستند إلى قاعدة الدورة الاجتماعية الاقتصادية التي لم يجد سعاده أنها واحدة في العالم العربي، ولو أنه وجدها كذلك لكان نادى بالمجتمع العربي الواحد. من هنا كان اعتراضه على الفكر الرومانسي ودعوته «التي تهمل المبادئ الجغرافية والإقليمية والسلالية والتاريخية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية الاجتماعية. أي جميع العوامل التي توجد الواقع الاجتماعي وتتكفل بحفظه». (الإسلام في رسالتيه
ص213).
كما أن القومية العربية الرومانسية تتجاهل حقيقة أن أي مشروع وحدوي لابد أن ينطلق من بدهية توحيد الكيانات المترابطة عضوياً في بيئة جغرافية واحدة، كخطوة في اتجاه إقامة جبهة عربية. أما القول إن العالم العربي يشكِّل بمجموعه أمةً واحدةً فهو تجاوز للأسس الموضوعية التي تحكم نشوء الأمة عبر التاريخ. فتنوع أقاليم الأمم العربية، وواقعها «الجغرافي، ومعدل كثافة سكانها، وإمكاناتها الاقتصادية لم تؤهل هذه الأقطار لإنشاء مجتمع واحد مترابط بدورة دموية واجتماعية ـ اقتصادية منتظمة» (الإسلام في رسالتيه ص214).
من الواضح أن سعاده يقدم الشروط الموضوعية لنشوء المجتمع القومي على الشروط الظرفية العارضة في السياق التاريخي، حتى إذا ما توافرت تلك الشروط الموضوعية، أمكن التحدث عن وجود هذا المجتمع على أساس الدورة الاجتماعية الاقتصادية الواحدة. والبحث فيما إذا كان العالم العربي يشكل أمة تامة يبدأ بالسؤال: هل حقاً تقوم دورة اجتماعية اقتصادية واحدة في العالم العربي؟ هل في المغرب العربي مثلاً دورة اجتماعية اقتصادية أكثر حيويةً وتجانساً من تلك التي تعبر عنها العلاقة القائمة بين المغرب العربي والجزيرة العربية؟ إن الإجابات عن هذه الأسئلة بالتحديد هي إجابات علمية موضوعية، مستقلة عن الرغبة أو النية أو الأماني والآمال. إذا لا يجب أن تحل الرغبات أو الآمال في توحيد العالم العربي محل الشروط الموضوعية الاجتماعية الاقتصادية. فليس موقف سعادة، وهو القائل: «نحن لا نقول بالوحدة العربية، بل نعمل لها» موقفاُ سلبياً من الوحدة العربية بحدّ ذاتها: بل هو موقف علمي وعملي يحرص على توافر الشروط الموضوعية لأي تحرك وحدوي حتى لا يبوء بالفشل أو يتعثر بالنكسات، كما حدث في مسيرة الثلاثين عاماً التي أعقبت ما قاله سعاده في «المحاضرات العشر». والتي أثبتت تجاربها أن تواصل دورات العمران في الأقاليم العربية وتشابك المصالح المادية والاقتصادية وتفاعل المجتمعات ـ بعد توحيد كل منها في بيئته الطبيعية، هو الطريق الوحيد لبحث الأسس السليمة لقيام أية صيغة اتحادية عربية عامة على أسس سليمة. فوحدة أوروبا تمت في مجتمعات حققت وحداتها الطبيعية أولاً على أسس مادية ـ نفسية تعبر عن ميزات كل منها، وانتقلت من طور الانفعال بمعطياتها إلى أطوار الفعل بتلك المعطيات، وتمكنت بالثورة التكنولوجية العلمية والاجتماعية أن تطيح معرقلات توحيد مجتمعاتها. ونرى عبرةً كبرى في تحقيق أمم أوروبا وحدتها على اختلاف قومياتها بينما أحبط مشروع سعاده الذي شكّل باكراً المشروعَ الوحيد في القرن العشرين لوحدة العالم العربي.
الأقلـيـات :
عالج سعاده موضوع الأقليات الطائفية والإثنية بنظرة موضوعية علمية نابعة من تفهّم واقع هذه الأقليات، ومبرر استمرار وجودها، وأسباب خوفها وانعزالها.. داعياً إلى التحرر من عقد التجزئة، والانخراط في وحدة حياةٍ على أساس المواطنية الواحدة، والمساواة في الحقوق والواجبات، دون تغليب طائفة على أخرى أو إثنية على سواها، معتبراً أن مختلف الهجرات الوافدة إلى سوريا انصهرت عبر التفاعل في متّحد الأمة، وأن التنوّع الموجود في المجتمع السوري كان دائماً عامل غنى ثقافي وروحي عبّر عن ذاته في العمران، والفن والأدب، كما في الاقتصاد والسياسة، ولم يَحُلْ هذا التنوع دون استقلال الخط النفسي للحضارة السورية عبر التاريخ. وانطلاقاً من هذه النظرة العلمية الإنسانية، فإن سعاده يعتبر أن الموارنة والأكراد والسريان والعرب وسائر الشعوب التي تفاعلت مع بيئتنا وعليها هي من مكونات أمتنا، في أساسها. وعلى هذا الأساس يرفض الهواجس التي يبرّر بها بعض الطائفيين دعواتهم الانعزالية والانفصالية التي ليس لها أي مبرّر في القومية الاجتماعية كونها تقوم على قاعدة استيعاب جميع الأقليات دون غلبة أو قهر.
مقارنة بين المنهج المدرحي والمنهج الماركسي:
لا شك في أن الماركسية أطلقت جدلاً فكرياً كبيراً شغل العديد من المدارس الفلسفية في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، لا سيما أن أساسها النظري ولد من رحم نقدي حاسم للفلسفات المادية والمثالية التي سبقتها. لكن الماركسية لم تطرح سؤالاً فلسفياً جديداً بل أجابت من منظور نقدي عن السؤال الفلسفي التقليدي الذي استهلك قروناً من الأخذ والرد. واستفادت من مفهوم الجدل الهيغلي ومن قوانينه ذاتها، بعد أن استبدلت الأساس الروحي (عند هيغل) بالأساس المادي. ولذلك لم يستطع النهج الماركسي أن يتحرر من مفهوم «الحتميات» في نظرته إلى الإنسان والوجود، الأمر الذي حوّل الماركسية، كما باقي الفلسفات السابقة لها، إلى «لاهوتٍ» جديدٍ. وهنا نقطة اختلاف أساسية مع المنهج القومي الاجتماعي الذي لم يحدّد لحركة التاريخ أيَّ مسارٍ حتمي، بل رهن تقدم المجتمعات الإنسانية إلى العوامل الموضوعية التي توفرها البيئة، وديناميات الجماعات البشرية، ومدى حيويتها في التفاعل مع بيئاتها، وقدرتها على الصراع من أجل حقوقها وفرض إرادتها.
ولمزيد من الوضوح نحصر المقارنة في العناوين الثلاثة الآتية:
1 ـ المادة والروح:
ينطلق المنهج الماركسي من مقولة أسبقية المادة على الروح، وعلى أساسها يعتبر أن البنى المادية تحكم وحدها، وعلى نحو حاسم، مصير الإنسان، وأن الشأن الروحي هو انعكاس مباشر لما يجري في المستوى المادي، وأن ما يجري في مستوى العقل من فكر وثقافة وإرادة هو «انعكاس للمادة، كما تنعكس الأشياء على المرآة». وهو في هذا السياق يعتبر التناقضات الفكرية، والدينية، والنفسية، شأناً فوقياً عابراً لأنه لا يتصل بأساس مادي (اقتصادي)، بينما حركة التاريخ تنتج من التناقض المادي وحده.
أما المدرحية ـ وعلى الرغم من إقرارها بأسبقية الأرض على الحياة من حيث المنشأـ فإنها تنقض السؤال الفلسفي الذي اعتمدته الماركسية وغيرها من الفلسفات التقليدية وتستبدله بسؤال: من أين جاءت الحياة(18)؟ «وكيف انتشرت الإنسانية في الحياة». وهذا السؤال يحيل الفكر إلى المبدأ الذي فيه أن الإنسان هو مظهر من مظاهر الحياة، نشأ وارتقى بعامل التطور، وانتقل من مرحلة الاحتكاك مع الطبيعة، حيث كان عقله بدائياً، إلى مرحلة التفاعل مع الطبيعة حيث نما عقله وأصبح بإمكانه ممارسة رد الفعل والتأثير . وينطلق سعادهـ كمفكر اجتماعي ـ من الوجود الإنساني حيث يتمتع الإنسان بعقل مدرك واعٍ فاعل قادر على التفاعل مع الطبيعة على أساس جدلية الفكر والواقع.
إن حركة الظواهر الاجتماعية لا يمكن أن تُختزل في قوانين تجريدية، أو مقولاتٍ فلسفية ذات منحى إطلاقي، بل تبدأ من الأساس الموضوعي لهذه الظواهر، ومن فهم علاقاتها الداخلية والخارجية والمبادئ التي تحكم هذه العلاقات. الواقع الاجتماعي يختلف عن الواقع الطبيعي لوجود دور وفعل للإنسان الذي يتمتع بمصالح مادية روحية، ويمتلك إمكانات وقوى قادرة على الاختيار والفعل والوعي والتخيل والتذكر. إن مأزق المناهج وقصورها هو في عجزها عن تفسير ما يبدو من تناقض بين حتمية قوانين التطور الاجتماعي وحرية الإرادة الإنسانية. وذلك نتيجة تغييبها لدور الإنسان وفعله بينما المدرحية تعطي الإنسان أولويةً في نظرتها. وكل فلسفة اجتماعية لا تنطلق من الإنسان ذاته تحك