الثورة بحسب الموسوعة العربية هي «أسلوب من أساليب التغيير الاجتماعي تشمل الأوضاع والبنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وعملية التغيير لا تتبع الوسائل المعتمدة في النظام الدستوري للدولة وتكون جذرية وشاملة وسريعة، وتؤدي إلى انهيار النظام القائم وصعود نظام جديد». والثورة بمعانيها السياسية، وبرمزيتها الأخلاقية، تتجلى في صيغة رفض شامل لكل أشكال الظلم والإذلال والعبودية والقهر التي تقع على المواطنين من أبناء الأمة أو الشعب.
ونظرا لأهمية الثورة وسحرها المبين في حياة الشعوب يعدّ مفهوم الثورة من أكثر المفاهيم السياسية والاجتماعية استخداما وتواترا وحضورا وأهمية وتشويقا في الفكر السياسي والاجتماعي في تاريخ المجتمعات الإنسانية، وما زال هذا المفهوم يثير جدلا واسعا بين المفكرين والباحثين في ما يتعلق بدلالاته وإسقاطاته التي تتصف بالغنى والتنوع والثراء.
عمليا، ان كلمة الثورة، بما تنطوي عليه من دلالات وأفكار وتصورات، هي كلمة حاضرة في مختلف مستويات الكلام والمواقف والإشارات، وتطلق على عدد كبير واسع من الحوادث التي تتصف بالعنف والشدة بهدف التغيير. وهي أيضاً تتداخل بشكل فريد مع عدد كبير من مفاهيم التمرد والعصيان والانقلاب والمقاومة والخروج والهوجة والانتفاضة على النظام في اي موقف من المواقف التي تنزع إلى إحداث تغيير كبير مقصوداً كان أو غير مقصود.
تأسيسا على هذا التصور يمكن القول إن كلمة «الثورة» حديثة الاستخدام نسبياً في الثقافة السورية والعربية بشكل عام، وقد استخدمت لوصف الحركات التي اندلعت ضد الاستعمار، خاصةً الاستعمار الغربي، فسميت الحركات المسلحة المناهضة للاستعمار العثماني والفرنسي والبريطاني والإيطالي ثورات التحرير، ومنها الثورة السورية الكبرى والثورة الجزائرية والثورة الفلسطينية والثورة العراقية وثورة عرابي في مصر وثورة الخطابي في المغرب وثورة عمر المختار في ليبيا وغيرها من الثورات التي اندلعت في مختلف أنحاء العالم العربي.
لكن ليس كل حركة مسلحة هي بالضرورة ثورة، وليس كل غضب وهياج هو دليل حالة ثورية جديدة. وإذا درسنا «الثورات» العربية عن كثب، فسوف ندرك أن معظمها لا يفي بمعايير «الثورة» بالمعنى الاجتماعي والسياسي المعاصر للمصطلح. لم تصل معظم هذه الثورات إلى مستوى الثورة الحقيقية، لأنها حدثت إما بشكل مفاجئ دون تخطيط أو كرد فعل على وضع غير مقبول أو كجزء من صراع على السلطة. وهكذا فإن ما يسمى «بثورات» الربيع العربي لا يمكن تصنيفها على أنها ثورات بالمعنى الصحيح للمصطلح، لأنها لم تستهدف تغيير أساس البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في الدولة والمجتمع، فتغيير الحرس القديم في السلطة كان كل ما أمكنها تحقيقه. وهذا لا يكفي لتصنيفها على أنها «ثورات» لأن الثورة كما يعرفها كرين برنتون مثلاً في كتابه «تشريح الثورة» انما هي «عملية حركية دينامية تتميز بالانتقال من بنيان اجتماعي إلى بنيان اجتماعي آخر»، وهذا ما لم يحدث في الربيع العربي.
من هنا تميز الثورة القومية الاجتماعية الأولى التي أعلنها سعاده في تموز 1949عن غيرها من «الثورات» السورية والعربية بأنها لم تكن مجرد حركة شعبية مسلحة ضد الطغيان، بل كانت أيضاً محاولة حقيقية للقفز بالبلاد من حالة اقتصادية- اجتماعية- سياسية بالية إلى حالة تقدمية جديده. لقد كان هدفها المعلن يشير الى «تحول كبير في بنية المجتمع» وليس الى احداث تغيير في شكل النظام القائم فحسب، وهو ما نلمسه بوضوح في بلاغ قيادة الثورة القومية الاجتماعية العليا الأولى.
فمن قراءة أولية للبلاغ يتبين لنا ان غاية الثورة لم تقتصر قط على «إسقاط الحكومة وحلّ المجلس النيابي»، كما كان الحال لدى المعارضة السياسية في البلد آنذاك، بل تخطت هذا المطلب العام لتطالب بما هو أعمق من ذلك بكثير: دستور جديد للبلاد، نظام علماني قوامه فصل الدِّين عن الدولة ومنع رجال الدِّين من التدخل في شؤون السياسة والقضاء القوميين، استئصال الطائفية الاجتماعية قبل السياسية، التأسيس لمجتمع مدني، وإقامة نظام اقتصادي جديد يرتكز على سياسة اقتصادية قومية لا تشمل لبنان فحسب بل تشمل البلاد السورية كلها. وإذا تفحصنا هذه المطالب جيدا نجد انها تنطوي على قضايا مهمة تتناول حياة المجتمع في جميع نواحيها، وتطالب بما هو أكثر من تعديل في الاشكال السياسية والبنى الفوقية، الى نظرة جديدة الى الحياة تعتمد اعتمادا كاملا على العقل.
ان الثورة القومية الاجتماعية الأولى، وفقا لهذا التصور، تشكل انكساراً رئيساً في المسار العام للوضع السياسي الراهن، وهي في جوهرها تهدف الى تحرير المجتمع من المعاناة الوجودية التي كان يرزح تحتها. لذلك، لم يكن الهدف من اعلان الثورة مجرد اسقاط حكومة الخوري- الصلح من اجل الاسقاط او من اجل استبدالها بحكومة من سياسيين معارضين ينتمون الى المدرسة السياسية التقليدية نفسها. فلو كان الامر مجرد الإطاحة بالحكومة لكان سعادة وحزبه انضما الى التحالفات القائمة وسعيا الى اسقاطها من خلال الضغط السياسي المعتاد. وهنا يستوقفنا قوله «إن سقوط أعدائنا لا يعني نهوضنا نحن»، مما يعني ان أهداف الثورة القومية الاجتماعية الأولى لم تكن مقتصرة على اسقاط الحكومة فحسب بل كانت الغاية أيضا احداث حالة مؤاتيه تستجيب لمتطلبات النهوض الشامل.
بالإضافة لهذه الشمولية، نجد أيضا ان الثورة القومية الاجتماعية الأولى كانت رائدة في الإصلاحات التي طرحتها وجريئة وواضحة في مضامينها ورؤيتها للمستقبل. فقد كانت السباقة في تحديد الأهداف وتعيين المهمات وتقديم الحلول بأسلوب تجاوز معنى الثورات التقليدية التي تصل للسلطة بدون رؤية أو مشروع وطني مُهَدّفْ، فتذبل وتموت أو تستقر كسلطة أمر واقع، وتفقد مع الوقت معناها ومشروعيتها. بل ان الثورة القومية الاجتماعية الأولى سبقت ثورة يوليو المصرية (1952) في التطرق الى مشاكل اجتماعية واقتصادية تمس الفئات الأكثر ضررا من الحالة الراهنة. فمنذ البداية تضمّن بلاغ الثورة القومية الاجتماعية الأولى بنوداً تطالب بإزالة الحيف عن العمال والمزارعين وبالقضاء على الاحتكار والطغيان الرأسماليين. وهذا ما سعت اليه ثورة يوليو في مرحلة لاحقة بعد نجاحها.
ثم ان الثورة القومية الاجتماعية الأولى بدعوتها الى إلغاء جميع الأحكام المعطلة الحقوق المدنية والسياسية، تخطت الثورة المصرية من حيث رفضها لشتى التسويات والتنازلات أكانت لمؤسسات دينية او مدنية. لقد قامت ثورة سعادة على مبدأ ان «الأمة مجتمع واحد» وان المواطنين متساوون تماما في الحقوق والواجبات خارج القيود الدينية التي كانت تراعى كل المراعاة. وهذا مبدأ لم تتطرق إليه ثورة يوليو المصرية أو تتبناه بشكل جدي فبقيت مصر ترزح تحت طغيان المؤسسات الدينية وعبء التقاليد والعادات المتأصلة عميقا رغم الإصلاحات التي حققها عبد الناصر في المجتمع المصري.
هذه الشمولية، التي تتجلى في اهداف الثورة القومية الاجتماعية الأولى، وبالكاد نجدها في «الثورات» المعاصرة، هي امتداد للتزاوج بين المعطى القومي والمعطى الاجتماعي عند سعاده. لذلك لم يكن مضمون بلاغ الثورة محض سياسي قومي، بل كان لا بد لها من مضمون اجتماعي جذري شامل يستوعب المشكلات الاجتماعية بوجهيها المادي والروحي. وهنا قد يتساءل البعض، إذا كانت الشمولية هي السمة الرئيسية للثورة، لماذا لم يطالب سعادة في بلاغ الثورة بتفكيك كيان لبنان ودمجه في سورية؟ والجواب هو لأن سعادة كان يرى أن الوضع القومي النهائي للبنان يجب ان يعتمد بشكل كامل على ارادة اللبنانيين شريطة أن يُسمح لهم أن يختاروا بحرية المكان الذي يفضلون أن يكونوا فيه. فهو لم يؤمن يوما بالتفكيك بالقوة أو بالدمج السياسي الاعتباطي بالقوة.
وبقدر ما قامت الثورة القومية الاجتماعية الأولى على تخطيط ورؤية واضحة المعالم فهي تتخطى المفهوم السيكولوجي لمصطلح الثورة الذي ينظر إلى الثورات بوصفها انفجارات سيكولوجية اجتماعية. وبهذا الخصوص يعتبر غوستاف لوبون، الرائد في هذا المجال، ان الثورة إذا حدثت يأتي حدوثها تحت تأثير انفعالات جماهيرية لاشعورية مدمرة يكون فيها اللاشعور الجمعي المحرك الأساسي والفاعل الحيوي الذي يفسر قيام هذه الثورات وانطلاقها. اما سعاده، فلم يكن نصيراً لمبدأ الحدس او مبدأ اللاشعورية، بل كان يؤمن بالعقل ولا شيء غير العقل، خاصة في مجال الثورة.
قد يقول البعض ان قيمة الثورة الحقيقية تتمثل بمدى شعبيتها، وبمدى ما تعبر عن الجماهير الواسعة ومدى ما تعبئه من قوى هذه الجماهير وانه، بناء على ذلك، لا يمكن اعتبار الثورة القومية الاجتماعية الأولى أكثر من مجرد عصيان مسلح ضد الحكومة. غير ان هذا الاستنتاج ينقصه الكثير من الاستدلالات الواقعية والقرائن والمقارنات العلمية والمنطقية. فالواقع سنة 1949 كان واقع امتداد شعبي واسع للحركة السورية القومية الاجتماعية في مختلف الطوائف والأوساط الاجتماعية في البلاد، فقمع الثورة في المراحل الأولى لانطلاقها لا يعني أنها لم تكن تعبر عن مصالح وإرادة الجماهير الشعبية الواسعة. على كل حال، فقد يحدث «تغيير» ما تشارك فيه «جماهير واسعة»، كما حصل في ما يسمى «ثورة الأرز»، على سبيل المثال، ولكن هذا لا يعني بالضرورة ان ثورة قد حصلت فعليا. لكي تسمى «ثورة» يجب ان تؤدي الى حالة أفضل لها معالمها وأهدافها الواضحة، وليس فقط الى تغييرات او تعديلات تحت عناوين وشعارات عامة مثل «محاربة الفساد» دون تحديد وتعيين البديل غير الفاسد.
وأيضاً، قد تحدث ثورة حقيقية في مكان ما او زمان ما بواسطة نخبة معينة من دون ان تشمل مشاركة جماهيرية واسعة، تماماً كما حصل في ثورة يوليو المصرية عام1952. إن كلمة ثورة لا تنطبق إلا على الثورات التي يكون هدفها التغيير الجذري نحو الأفضل.
وقد يقول آخرون ان الثورة القومية الاجتماعية الأولى كانت أقرب الى انقلاب منه الى ثورة. وهذا تعليل خاطئ أيضاً لا يأخذ بعين الاعتبار التمايز الجوهري بين مصطلح الانقلاب من جهة ومصطلح الثورة من جهة أخرى. فالانقلاب يهدف إلى الاستئثار بالسلطة دون احداث تغيرات سياسية اجتماعية او اقتصادية او قانونية شاملة وعميقة، وهو نوع من انتقال السلطة بين أطراف النظام الواحد باستخدام وسائل العنف الرسمية دون إحداث تغيير في وضع القوة السياسية في المجتمع أو في توزيع عوائد النظام السياسي. أما الثورة، على خلاف الانقلاب، هدفها احداث تغيير جذري في النظم والأوضاع القائمة على نحو شامل ومتكامل في جوهره. فاذا تفحصنا بلاغ الثورة القومية الاجتماعية بدقة وشفافية نجد ان الثورة كانت تهدف إلى إحداث تغييرات جوهرية في النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي وليس إلى إعادة توزيع السلطة السياسية بين هيئات الحكم المختلفة أو الأشخاص القائمين به، كما هو الحال مع الانقلاب.
لم يكن سعادة مفجرًا وزعيمًا لثورة حقيقية فحسب، بل كان مفكرًا، ومؤسسًا وقائدًا لأول ثورة شاملة بالمعنى الحديث لمفهوم الثورات. فكانت ثورته تحررية واجتماعية ووحدوية وإنسانية، تداخلت معطياتها، وتوحدت أهدافها، وتجاوزت معنى الثورات التقليدية التي طالما كانت، وما زالت، تسعى الى مجرد تغيير في القشور والأشكال السياسية دون تغيير في المضمون والجذور، أي في المجتمع وبناه الاقتصادية والحقوقية والسياسية.