لأربعٍ وسبعين سنة انطوت، أجرى «الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد»، تصفيةَ حساب مع انطون سعاده. وكانت تصفيةً جسديّة، حسب المسؤولين عنها، يومذاك. أنّهم بفعلتهم الشنعاء تلك، قد اقفلوا الباب بمواجهة الريح التي استشعروها تزعزعُ العروش ... ولو تأتّى لهم ان يدركوا انّ قتلَ الجسد لوضع حدٍّ للمدّ النهضوي العاصف، سيطلق الروح تجتاح الحدود والسدود، لكانوا أحجموا عن ارتكاب جريمتهم، لكانوا وفّروا على نفوسهم وعلى الامّة جمعاء غيرَ بلاءٍ وغير ويلٍ موصولٍ بويل، موصول بويل الأنانيّات المستفحلةُ في النفوس المريضة تعمي البصائر، فتفتح بعماها الدروب واسعة امام المزيد من الفواجع والمواجع والفظائع.
لأربع وسبعين، خاب ظنُّ الذين ما أحسنوا، لا الظنّ ولا التقدير ولا الحساب. فسرعان ما انشقّ بعد فعلتهم»حجابُ الهيكل». وهبّ الغضبُ المبارك يومذاك عاصفةً تثأر لحقّ العدالة، فتطيح الحكّام حرّاسَ القبور في لبنان والشام، وتطيح الزارعين على طريق النهضة الطحلب والشوك والعوسج، وتقتلع زارعي رياح التخلف والفتن من عروشهم.
منذ ذلك اليوم، فتح التاريخ له في بلادنا، صفحةَ حسابٍ جديد، هيهاتِ ينطوي على صفحةٍ أخيرة. لا، ليست النهضة لتقف عند صفحة أخيرة تنتهي بسطر اخير مقفلٍ بنقطة اخيرة. انها حسابّ مفتوح مع اعداء النهوض بالحياة، انها كتاب مفتوح على ثالوث الزمن.
فماذا ترانا نقرأ في الكتاب المفتوح، اليومَ عشيّةَ الثامن من تموز، هذا العام؟ عشيّةَ هذا اليوم يتنادى «القوميّون الاجتماعيون»، وعلى اختلاف الاجنحة المتكسرة، لاحياء ذكرى اغتيال المنقذ من الضلال، ذكرى استعادة الامة أغلي ودائعها اليها، ذكرى انتقال انطون سعاده الى فضاء خلوده... ولطالما كان الاحتفال، كان ولا يزال يجري بمراسم استقبال، بالقاء كلمات تُشيد ولا تَشيد، كلمات هيهات يبقى أثرٌ لها أو أصداء بعد انتهاء الاحتفال.
من مفاهيم النهضة التي جاءت « لتحرق وتضيء»، ان كل ذكرى نحتفل بها عابرة من دون عبرة فاعلة في دفعنا الى الامام، هي ذكرى لا تعدو كونَها عبوراً مجّانيّاً في الزمن. والعابرون اذّاك، مماجنون لا يصحّ فيهم الذي يصح قوله في «جماعةٍ لا يقصدون في الحياة لعباً».
في المناسبة عينها، نعيد، نستعيد الكلام ايّاه عن امجاد الاستشهاد في ماضينا مرارا وتكرارا. استهلكنا رصيدنا، استنفدناه. اما حان لنا أن نتنبّه الى حقيقة ان امجاد ماضينا تفقد معانيها، ان لم تكن موصولة بأمجاد حاضرنا مُطلّة بالوعد الصادق على مجيد اَتينا؟
في ذكرى اللهب الذي لا ينطفىء لهذا العام، يأمل الثابتون منّا على الايمان، رغم كل ما وصلنا اليه من تردٍّ، يأملون ان يصحو المسؤولون من اهل الرِّدة، المحاولون ارجاعنا باسم الحرص على الوحدة، الى جاهلية ما قبل النهضة. نأمل ان نصحو معاً وجميعاً على ان لا سبيل الى التحليق بأجنحة متكسّرة بمباريات جمع «الجماهير» في الاحتفالات المتقابلة، بل باستعادة الحزب هوّيته، وحدته، على قاعدة عودته الى الجهاد بالفعل، لا بخطب في المناسبات.
على معتلي المنابر في المناسبة، الا تأخذهم العزّةُ بالاثم: اثم الشقاق، واثم خطاب الذين يقولون ما لا يفعلون.