المشرقية
هذا نص كلمة ألقيت في مؤتمر اللقاء المشرقي المنعقد في بيروت يوم الأربعاء 16 تشرين الأول 2019... ما رأيكم بمضمونها؟
المشرقيّة هي حضنٌ حضاري ثقافي يمتدّ على مساحة العراق وسوريا ولبنان والاردن وفلسطين، لكنّنا نريد تحويلها من مفهوم مجرّد للحضن الى حاضنةِ جغرافية حسيّة، على أمل أن تأخذ شكل الكيان السياسي الاقتصادي الذي يحفظ هذا الكمّ الحضاري والإرث الثقافي غير المسبوقين في تاريخ البشرية.
المشرقية تنطلق من تاريخٍ مشترك لتشكّل مشروعاً رائداً مطوّراً لشعوبها ومستنداً الى رؤية سياسية واقتصادية تتكامل مع الفضاءِ العربي من دون أن تتناقض معه.
تتميّزُ مشرقيتُنا بأن أبناءها كانوا روّاد النهضة العربية التي عمّت مصر وبلدان المهجر آنذاك.
أبناء المشرقيّة هم الذين أيقظوا العروبة في وجهِ التتريك، وهم أوّل من تصدّى للصهيونية بعقيدتها، وبمشروعها القائم على تمزيق فلسطين وخلق كيان أحاديّ بديل عنها، وتوليد توتراتٍ من حوله بهدف تشليع كل الكيانات المتنوّعة المحيطة.
أبناءُ المشرقيّة هم الذين أشعلوا حركات التحرر والاستقلال واحتضنوا الحداثة والمدنية والعلمنة، فحافظوا على الخصوصيات من دون تقسيمٍ ولا تقوقع.
إنّ مشرقيتَنا تنشدُ الوحدة الاقتصادية طوعاً لأنها تنبع من قيَمٍ ومصالح مشتركة، لا يفرضها ديكتاتور ولا عقيدة، بل يقودها الوعي والقرار الحر الذي يحفظ لكل دولة من دولنا استقلاليتها وحريةَ قرارها ويعزّز المشترك الجامع بينها.
إلاّ أنّ المشرق الذي ظهرت دوله مع بداية القرن الماضي، يعيش جلجلةً بدأت مع ولادةِ إسرائيل كمشروعٍ صهيوني عنصري غريبٍ عن نسيج المنطقة، تسبّب بمأساة فلسطين وولّد حروباً كثيرة تفجرت قتلاً وارهاباً في دول العراق وسوريا ولبنان فأرهقتها واستنزفت مواردها وأعاقت اقتصادها ودمّرت ثقافاتها ومزَّقَت نسيجها الاجتماعي.
ردُّنا على ذلك هو في ان تنتج مشرقيتُنا اطاراً يحضن تنوّعنا وينظم اقتصادنا ويبني مستقبلاً مشتركاً يتحقّق فيه الازدهار على أساس تكامل الانتاج بين الدول فتصبح المشرقية قوةً عظيمةً باتحاد قدراتها وناسها.
لدينا إرث كبير، لا يكفي أن نحافظ عليه، بل يجب أن نستثمره ونفعّله لصالحِ خير انساننا؛ فمشرقيتنا انفتاح وتنوّع، وهي تحضن عروبتنا وآراميتنا وكرديتنا.
نحن لا نعزل أحداً ولا ننغلق على أنفسنا، لكننا نعزل كلّ عنصريةٍ تناقض تاريخنا المشترك، وأخطرُ العنصرياتِ اثنتان: إسرائيل التي تحتلّ أرضًا مشرقية، والارهابُ التكفيري الذي يحتلُّ عقولاً منغلقة.
إنّ أرضنا تميّزت عبر تاريخها بالتنوع، وانسانَنا تميّز عبر الحضارات بالتفوّق والابداع.
أرضُنا ابراهيميّة، كنعانيّة، يهوديّة، مسيحيّة، اسلاميّة. في مشرقِنا نجمةُ داوود لا تطفئ النجم الذي أضاء درب المجوس الى مغارة بيت لحم. وهيكلُ سليمان لا يُلغي المسجد الأقصى ولا كنيسة القيامة.
وانسانُنا تميّز منذ الفينيقيّة بقدرته على الإبحار بعيداً، وعلى حملِ الحرف والتجارة معه، ليفتح بهما عوالم جديدة، وليثبّت تميّزه بالنجاح والاندماج في أيّ مجتمعِ يدخل اليه.
مشرقيّتنا هي دعوةٌ مفتوحة للسلام بين الشعوب، وهي ليست أقليّاتٍ تتصارع في ما بينها، بل خصوصيّات ثقافيّة تتعاون في ما بينها؛ فلا يخشى أزيدي على حياته، ولا يخاف سرياني أو كرديّ على مصيرِه، ولا يقلق درزي أو علوي أو مسيحي على وجوده، ولا يتوجّس سني من المؤامرات ولا شيعي من الاضطهاد.
مشرقيتنا تحتضن عراقَ ما بين النهرين كما تحتضن سوريا وتضرب لهما موعداً مع النهضة الاقتصادية والاجتماعية.
مشرقيتُنا تحتضنُ أرضَ فلسطين وتريدها أرض سلامٍ، ولا سلام من دون حقوقٍ لأصحاب الحقوق. لا سلام من دون دولة فلسطينية تفتح بولادتها الباب على أُفقٍ جديد، وإلاّ سيستمر الصراعُ بلا أفق. مشرقيّتُنا تحتضنُ لبنان، دولة تنوّع وحرّيات ونموذجَ حياةٍ ديمقراطيّة يقدّم للمشرق صيغةً لحل مشاكله بالحوار لا بالعنف.
لبنانُ هو صاحب دورٍ في إطلاق التفاعل المشرقي، إقتصاداً ومالاً، صناعةً وزراعةً، علماً وثقافةً، نقلاً مشتركاً وسوقاً موحّدة... لذلك تقع المشرقيّة في صلب الرسالة اللبنانية التي كرستها الأمم المتحدة في الوثيقة التأسيسيّة لـ«أكاديمية الإنسان للتلاقي والحوار»، التي أطلقَها فخامة الرئيس العماد ميشال عون.
لبنان هو موئل الذاكرة المشرقيّة ومنصّة المستقبل المشرقي.
المشرق يعيش جلجلةً بدأت مع ولادةِ إسرائيل كمشروعٍ صهيوني عنصري.
نحن المشرقيين نتكامل بالمعرفة وبالاقتصاد، بالثروات وبالانسان. نتعاون مع امتدادنا العربي من الجزيرة الى اليمن، وننفتح على أفريقيا من بوابة مصر، ونتجاور مع تركيا وايران، ونتشارك مع اوروبا في حوضٍ متوسطي حضاري. نتفاعل ونبني مع الجميع علاقات الثقة التي ترتكز على الأمن المشترك والمصالح المشتركة. نحن أهل المشرقية التي يجب ان تكون تكاملية في الاقتصاد في ما بيننا، ومع جيراننا ومحيطنا.
نحن نتقاتل في ما بيننا بينما يبني الآخرون من دمائنا النازفة ومالنا المهدور وانساننا المنتشر قوّةً لدولهم، لذا يريدوننا متفككين متناحرين لتسهل السيطرة على مقدراتنا.
آن الأوان لأن نفكِر جميعاً بما وصلنا إليه وأن نخرج من هذا الوضع البائس حروباً ونزوحاً ولجوءًا وهجرةً.
إنّنا نملكُ الطاقة البشريّة إبداعاً وإقداماً، والثروة الطبيعية بحراً وبراً، المهمّ أن لا نكونَ أدواتٍ للخارج ونلتفت دوماً صوبه، بل أن نلتفت الى الداخل وصوب بعضنا فنحرّرُ قدراتنا وننفخ الأمل والثقة في شعوبنا. نحن يجب ان نكون أهل المشرقيّة المتكاملة في محاربة الإرهاب والغاء الفكر الإلغائي.
نحن قوّة عظيمة قادرة على تغييرِ وجه الشرق ووجهته، واستيلاد كيانٍ مشرقيّ نموذجيّ وفاعل، شرط أن نوحّد أهدافنا وننتظم في مشروع حضاري مستقبلي، وفي جبهةٍ مشرقية معاصرة تقدّم لمنطقتنا وللعالم قيمة انسانية مضافة.
أملنا كبير أن نعمل معاً داخل مساحتنا المشرقية ومع منتشرينا في العالم ونؤمّن الحشد الدولي والحاجة الاقليميّة لمشروعِنا لنحقّقَ هذه الأهداف الانسانيّة العالمية النبيلة.