تتكرر من حين إلى آخر الدعوة إلى إعادة محاكمة أنطون سعاده. ويصفها المطالبون بها بأنها إعادة اعتبار للمظلوم الذي تم اغتياله في مثل هذا الشهر. وتستند هذه الدعوة إلى حقيقة ناصعة هي أن المحاكمة الصورية المستعجلة كانت تغطية تقنية لعملية اغتيال سياسي وقح. ويعدد المطالبون بإعادة المحاكمة جميع الشواهد على غياب العدالة في مجرى المحاكمة، وتنفيذ الحكم. وهذه جميعها أمور صحيحة. فلا ريب في أن المحاكمة التي جرت بعد ظهر السابع من تموز 1949، وكانت نتيجتها قتل رجل عز نظيره قبل شروق شمس الثامن من تموز، هي أسطع مثال على خرق حقوق الإنسان.
وتلك المحاكمة وَشْمٌ على جبين الدولة اللبنانية يعلن فساد نخاعها، وقيح مكنونها، ونتانة القائمين عليها. إن في المطالبة بإعادة المحاكمة من الدولة عينها، التي ليس من دليل أنها ارتقت، بل لقد تفاقمت سمومها جِيلاً بعد جيل، إن هذه المطالبة لا تتنبه إلى شروط ضرورية يجب تقريرها قبل هكذا مطالبة.
الشرط الضروري الأول هو وجود دستور في هذه الدولة يعترف بحقوق الإنسان، ويكرس العدل الحقوقي لكل أفراد الشعب، وتنتج عنه قوانين تصون هذه الحقوق الإنسانية، وتجسّد وترعى ممارسة العدل الحقوقي. والدستور اللبناني، كما هي الدساتير السورية عامة في كافة دول الهلال الخصيب، أبعد الكائنات عن الحقوق الإنسانية، والعدل الحقوقي. فهذه الدساتير هي نتيجة المساومات بين أهل السلطة والحزبيات الرجعية والتناحر المذهبي، وهي في أفضل حال، ليست أكثر من ورقة عمل سياسي، واتفاقية تشارك في التسلط على الشعب، وتنكيل مستتر بحقوق المواطنين أجمعين. ولا يمكن اعتبار أي من الدساتير السورية، في لبنان والشام وفلسطين والأردن والعراق والكويت، أنها تحتوي على ما يحفظ حقوق الإنسان في صلبها، وفي القوانين الصادرة عنها.
الشرط الضروري الثاني هو وجود قضاء نزيه ومستقل يقوم بتحقيق حكم العدالة، إن وجدت قوانين عادلة منبثقة عن دستور صحيح! وفقدان الشرط الأول يجعل الشرط الثاني غير قابل للتحقيق. لكن دعونا نعالج لبرهة الشرط الثاني هذا منفرداً، فماذا نجد؟
إن لنا في الحركة القومية معرفة عملية طويلة الأمد مع القضاء في لبنان، من عهد الانتداب حتى يومنا هذا. ويمكن اختصار صفة هذا القضاء بعبارة مقتضبة: إنه جارية في خدمة السلطة!
في فترة الانتداب، خضع سعاده والقوميون لمحاكمة أولى في محكمة مختلطة ترأسها قَاضٍ فرنسي. وكانت إرادة المحكمة ما أراده الحاكم الفرنسي! وكان جرم القوميين ممارسة حقوقهم السياسية الأولية أي حق إبداء الرأي في الحياة القومية.
وفي الاعتقال الثاني في صيف سنه 1936، كانت مهمة القضاء المماطلة في التحقيق، والإذلال، والقمع، حتى انتهت فصول تدبير المعاهدة الفرنسية اللبنانية. عندها تم الإفراج عن سعاده ورفقائه دون محاكمة. وهكذا خدم القضاء إرادة الحاكم اللبناني المستجدي للحماية الفرنسية.
وفي الاعتقال الثالث، بعد احتفال الحزب في شباط سنه 1937 في بكفيا، تم اعتقال سعاده والقوميين لأنهم مارسوا حقهم السياسي في إبداء رأيهم في مصير الدولة التي هم أَعْضَاءٌ فيها. ولا نتناول هنا الأحكام العرفية خلال الحرب العالمية الثانية لاستثنائيتها.
ثم نصل إلى محاكمة تموز سنة 1949، التي هي استمرار لخرق حقوق الإنسان، منذ مُنع سعاده من العودة إلى الوطن (أي خرق حق العودة)، إلى مذكرة التوقيف إثر خطاب العودة (أي خرق حق حرية الرأي والتعبير)، إلى منع صحف الحزب (أي خرق حرية الرأي مكرراً وتكراراً)، إلى منع اجتماعات الحزب واحتفالاته، إلى مداهمة مراكز الحزب ومنازل القوميين بعد حادثة الجميزة في حزيران 1949، والتصريح أن هدف هذه المداهمات هو إبادة الحزب (أي خرق جميع حقوق المواطن)، إلى محاكمة تموز 1949 المعروفة.
وإذا انتقلنا سريعاً إلى سنة 1962، وجدنا استمرارية لهذه الممارسات الشاذة، الخارقة لحقوق الإنسان، من تعذيب وتخريب، وقتل وسحل، وتدمير واعتقال وحرمان وسرقة وتعديات. وقد عرف رئيس الحزب آنذاك طبيعة القضاء اللبناني، وعقلية العصابات المسيّرة له، وإن طريقة التعامل معه هي كما يتوجب مع العصابات فقال عبارته الشهيرة: "إن أعدمتم أعدمنا". لأنه لا يتعامل مع قضاء بل مع مجموعة موتورة من القتلة والمجرمين.
ولا نظن أن أحداً يجهل أن ممارسات القضاء اللبناني تجاه القوميين لم تتبدل كَثِيراً!
ويكفي عند الحديث عن القضاء الشامي أن نذكّر بمحاكمة الأمينة الأولى في دمشق إثر اغتيال العقيد عدنان المالكي سنه 1956.
ولا حاجة لنا لتعداد شروط أخرى نراها ضرورية لإعادة المحاكمة إذا فسد الشرطان الأوليان في هذه المعادلة. فكيف يقوم رفقاء ورفيقات لنا يطالبون بإعادة المحاكمة لإعادة الاعتبار؟ هل يحتاج سعاده إلى إعادة اعتبار؟ أم تحتاج الدولة اللبنانية إلى إعادة اعتبار؟ وهل تكون إعادة الاعتبار للدولة اللبنانية على حساب سعاده والقوميين مُجَدَّدًا؟ وهل علينا أن نقول لهم عند نهاية المحاكمة: شُكْرًا، شُكْرًا، ويقطع ثالثتها الرصاص؟