في أدبيات الحركة السورية القومية قول له قوة معنوية كبرى، وأثر بالغ على فهم أعضاء الحركة لمعنى الفداء، ولوعة فقدان زعيم الحركة بالشكل المأسوي المعروف. والقول هو: "إن موتي شرط لانتصار قضيتي"، وقد ورد أيضاً: "إن موتي شرط لانتصار عقيدتي". وقد ظهر هذا القول في الأدبيات الحزبية في أوائل الخمسينات، وأصبح جزءاً ثابتاً من المخزون النفسي في الحركة القومية. ولعل المضمون المعنوي لهذا القول هو ما منع تدبره بنظر فاحص، ومحاولة الإجابة على سؤالين:
السؤال الأول هو: هل يعقل أن يكون سعاده قد قال هذه العبارة، أي هل تتوافق هذه العبارة مع مفهوم سعاده لشروط انتصار القضية؟ والسؤال الثاني هو: هل فاه سعاده فعلاً بهذا القول وما الدليل على ذلك؟
لا شك في أن طرح هذين السؤالين أمرٌ سوف يثير الكثير من العواطف السلبية، والاعتراضات الخطابية، والتحذلق الكلامي، والتعالي المناقبي المزيف، والكثير من الشتائم الأدبية! لكني أتمنى أن يثير في الأفئدة الفاهمة شعوراً بالمسؤولية عن الصورة التي نرسمها لزعيمنا الذي كدنا نغيّب حقيقته عبر تصريحاتنا النمطية، وأدبياتنا الملوثة باللطخة الدينية، والتهور اللفظي... والتي يجب أن تعود إلى الصراط المستقيم.
تشبه هذه العبارة، من ناحية الشكل، التعليلات التي يقدمها اللاهوتيون لتبرير كل حالات التناقض المنطقي التي تواجه الإيمان الديني، من مثل إجابتهم على سؤال: لماذا يسمح الخالق بعذاب المخلوقات؟ فيجيبون بأن العذاب الدنيوي هو لصقل النفوس لتستحق المكافأة السماوية! أو السؤال: كيف يصلب الإله ويموت؟ بالجواب أنه مات من أجل خطايانا ولخلاصنا، مما دفع أبا العلاء المعري إلى التساؤل: أين كان أبوه؟
فربط الحدث المأساوي بمأمول فريد، اسلوب متكرر في حل الأحجية الدينية، وهو يستعمل لعدة غايات منها المواساة، ومنها التحفيز على عمل ما، أو غير ذلك. وفي العبارة موضوعنا، الحدث المأساوي الذي هو اغتيال مؤسس الحركة القومية يتم ربطه بمأمول هو انتصار القضية والعقيدة.
هذا من ناحية الشكل، أما من ناحية المنطق الداخلي للعبارة فإن الحالة أغرب. الموت شرط للانتصار؟ الشروط نوعان: كافيه وضرورية.
فهل كان موت سعاده كافياً للانتصار؟ بالطبع لا. إذا لم يكن موته شرطاً كافياً فهل هو شرط ضروري؟ إذا كان الجواب بالإيجاب، فلماذا تأخر حتى عام 1949؟ لماذا لم نع أو يع سعاده هذه الضرورة فيسمح لعمال الانتداب الفرنسي باغتياله خلال سجنه الأول أو الثاني أو الثالث كما كانوا يتمنون؟ من الواضح أن جعل موت سعاده شرطاً لانتصار القضية القومية هو من الترهات الخطابية اللامنطقية، ونكتفي بذلك.
بالإضافة إلى الشكل الديني الدخيل، والفساد المنطقي لهذه العبارة، علينا أن نسأل كيف ترتبط بالمسار التاريخي؟ أن موت سعاده هو بالتأكيد شرط لانتصار أعدائه على قضيته! ولهذا التأكيد قرائن تاريخية عديدة كان سعاده يعرفها، ويرددها في كتاباته حيث نجده يصف عمل أعداء النهضة على استهدافه شخصياً، وبأولوية دائمة، ومتكررة، لان الأعداء عرفوا قبل المقربين، أن زعيم الحزب هو ضمانة سلامة العقيدة، وسلامة العمل، وسلامة الأمل بالنصر.
لقد كان الغرض من هذه العبارة تعزية القوميين وتحفيزهم على الاستمرار بالإيمان والعمل من أجل القضية، وهذه غاية نبيلة. ولكنها على حساب تأصيل تفكير غيبي في الأدبيات الحزبية، يحتفل بالإعلانات المفترقة عن التفكير القومي العقلاني، ودليل لوثة دينية نحن بغنى عنها. ومن عوارضها أيضاً القول: "أتممت رسالتي وختمتها بدمي"، وهو ما يصح في الرسالات الدينية المغلقة على النمو والارتقاء، وليس على العقيدة القومية. وكمْ كنا بغنى عن الأختام الدموية!
تموز 2023