يحتل الاقتصاد والمسائل المتعلقة به أهمية محورية في حياة الانسان والمجتمع، ويقع في رأس أولويات اهتمامات الحكومات والدول على مدى العالم، ذلك أن الشأن الاقتصادي شأنٌ لصيقٌ بحياة الانسان وبنوعية هذه الحياة ومستوياتها المختلفة ويحدد الى حد كبير مسار النمو والتطور الاقتصادي والاجتماعي وانعكاس هذا التطور على الاستقرار السياسي والأمني والاجتماعي وعلى غيرها من المستويات.
بالطبع، مفهوم الاقتصاد واسع وشامل وعميق، وله أبعاد مختلفة ومتنوعة ومتشعبة، وكلها ذات تأثير مباشر على حياة الانسان بتفاصيلها وآفاقها في الحاضر والمستقبل.
ويعتبر النشاط الاقتصادي أساسياً في حركة الانسان، فمن خلاله يسعى الى تأمين متطلبات عيشه التي أصبحت في عصرنا الحاضر متشعبة ومتفرعة، وتتعدى الحاجات الضرورية المادية واشباعها لتأمين استمرار الحياة، الى متطلبات تأمين واشباع الحاجات الروحية والنفسية المتأتية من اقتناء الأشياء المادية التي تضيف الى الانسان بعداً نفسياً هاماً يكون في كثيرٍ من الأحيان حاسماً في تحديد مستويات العيش والرفاهية على مستوى دولةٍ ما.
لذا ومع التطور العلمي والتقني والتكنولوجي، والتقدم الهائل الحاصل في العقود الأخيرة من القرن العشرين، وبداية القرن الواحد والعشرين، ولاسيما على مستوى تقنيات التواصل بين البشر، وعلى مستوى وسائل المواصلات على أنواعها، وتصاعد فكرة العولمة مع فتح الأسواق العالمية على بعضها البعض، ويُسرانتقال الرساميل والاستثمارات النقالة حول العالم، وسهولة انتقال السلع والبضائع من دول المنشأ الى أسواق الاستهلاك، كل هذا التطور أعطى للاقتصاد ديناميات جديدة محِّركة ومحفِّزة للنمو الاقتصادي وانعكاساته المباشرة على قضايا النمو والتنمية في عالمنا المعاصر.
لذا وكي تسهل قدرتنا على مواكبة كل هذا المتغير على مستوى الاقتصاد العالمي وخصائصه الأساسية، كان لا بد من اعادة قراءة معمقة لهذا الاقتصاد على ضوء قواعد ومحددات واضحة ولا لبس فيها في الفكر القومي الاجتماعي، والتأسيس لرؤى اقتصادية تشكل الأساس النظري للبرامج والخطط الاقتصادية العملية التي من المفترض ان تشكل الاطار الواسع والرحب لمجمل حركتنا الاقتصادية حاضراً ومستقبلاً، سواء على مستوى الدول، أي تحديداً القطاعات الحكومية فيها، وكذلك على مستوى القطاعات الخاصة من مؤسسات وشركات وبنى وحتى أفراداً.
والاتجاه الذي يطبع السنوات الأخيرة على مستوى العالم كله، يتمثل في اعادة الاعتبار الى الدولة باعتبارها الموجِّه والمخَطِّط والقائد والمموِّل للعمليات الاقتصادية الرئيسية، والمقرِّر في تحديد قطاعات الاستثمار والانتاج وفق ما تمليه مصالح هذه الدول والشعوب، ولنا في تداعيات الأزمة المالية العالمية التي ضربت العالم واقتصادياته الكبرى العام 2008 خيرُ دليل على عودة "الدولة" باعتبارها لاعباً اقتصادياً أساسياً وصاحبة الكلمة الفصل في القرارات الاقتصادية الكبرى، كذلك أزمة انتشار الوباء العالمي كورونا covid 99.
ما هو مفهوم الاقتصاد القومي الاجتماعي؟ ما هي محدداته؟ ما هي اتجاهاته؟ ما هي أولوياته؟
هذه الأسئلة هي بالضبط ما حاولتُ الاجابة عنه في هذا البحث.
لم تصل المجتمعات الانسانية الى مستوى التطور الذي وصلت اليه اليوم الا في سياق متصلتطورات متلاحقة تاريخية ارتبطت بنقلات في أنماط المعيشة والحياة وأساليب الانتاج التي تماعتمادهافي تحصيل القوت والغذاء وفي تأمين كل الاحتياجات والمتطلبات النفسية والمادية للبشر.
وهذا التطور الحاصل في كل هذه المجالات ينتج عن حركة تفاعل الانسان بالبيئة التي قادها العقل البشري والتي أدت الى نمو قدراته الذهنية في عقل البيئة والمحيط والأشياء واستخدامها في تأمين حياته ومعيشته وتطوير نوعية هذه الحياة، التي تؤدي نتيجة التراكم المستمر والمتواصل الى تطوير بنية المجتمع وخصائصه وسماته وميزاته الاقتصادية والثقافية والاجتماعية وعلى كل المستويات.
في كتابه "نشوء الأمم" ص. 92 تحت عنوان "المجتمع السابق العمران وتطوره" يقول أنطون سعاده :" لا مشاحة في أن المجتمع العمراني، أو مجتمع السلالات العمرانية الأسيورية (الأسيوية الأوروبية)، لم ينشأ منذ البدء مع أول نشوء هذه السلالات الراقية، بل نشأ مع تطور جماعات هذه السلالات الى حين بلوغها الدرجة العمرانية التي هي درجة الزراعة والاقامة في الأرض"، أي أن تطور الجماعات الانسانية الى حين وصولها الدرجة العمرانية ما كان ليحدث لولا تطور متراكم لأنماط انتاج مختلفة وصولاً الى اعتماد نمط الانتاج الزراعي، أي بكلام أخر، الزراعة هي في أساس فكرة الاستقرار في المكان والتفاعل مع البيئة ونشوء العمران ومراكمة أسباب الحضارة الأخرى وما نشأ عنها من تطورات لاحقة في أنماط وأساليب عيش السكان.
نلاحظ اذاً مدى الترابط بين تطور المجتمع الانساني ونمط الانتاج الذي يعتمده هذا المجتمع في الحياة الاقتصادية التي يعيشها، والذي يجسد مستوى التطور العقلي والذهني ودوره وفعاليته في قيادة حركة الفعل الاقتصادي الانتاجي على مستوى المجتمع الانساني. وهذا ان دل على شيئ فانما يدل على رمزية وقيمة الانتاج وأنماطه في تطور المجتمع على الصعد الثقافية والسياسية والاجتماعية المختلفة.
ومرَّ في مكان أخر، قوله"ان الانسان هو الوحيد من بين جميع الكائنات الحية الذي أمكنه ايجاد علاقة تفاعلية مع الطبيعة، وخصوصاً مع بيئته. وما ذلك الا باجابته على مطالب البيئة بنمو الجهاز الذي أعطاه أن يعقل الطبيعة: الدماغ ".
اذاً الانتاج – بالمعنى الاقتصادي- وبما أنه حاصل هذا الاحتكاك بين الانسان والطبيعة والذي ارتقى في مراحل لاحقة من درجة الاحتكاك الى درجة التفاعل الحقيقي هو الذي يقود عملية تطور المجتمع الانساني ورفع مستوى امكاناته في تأمين الاحتياجات والمتطلبات الحياتية، ومدى استجابته لمطالب البيئة وتحدياتها، وهذا هو لب وجوهر علم الاقتصاد الحديث.
لاشك أن الزراعة هي أساس الثقافة العمرانية، حيث أنها جسدت التفاعل بين الانسان والبيئة التي عبر عنها بالاستقرار في الأرض والبيئة، وارتقاء علاقته بها الى درجة التفاعل الايجابي. بيد أن الزراعة مرت أيضاً بمراحل ومراتب تطورية ارتقائية فمن زراعة المعزق الى زراعة المحراث الى زراعة البستان وصولاً الى الانتاج التجاري، أطوار امتدت في الزمن لتشهد على تطور علاقات الانسان ببيئته وأرضه وصولاً الى العصور الحديثة.
يقول ويدال دلابلاش في كتابه "مبادئ الجغرافيا الانسانية" :" الزراعة كانت أسلوب العيش الوحيد الذي مكن الناس منذ البدء، من أن يحيوا معاً في مكان معين وأن يحشدوا فيه مقومات الحياة". ويزيد "ليس زارعاً الذي يحرق العشب وينثر مكانه بضع حفنات من البذور، ثم يرحل عن المكان، بل الذي يحصد الغلال ويخزنها هو الزارع".
اذاً، مع اعتماد الزراعة نمطاً للعيش، أصبحت الحاجة ملحة لأن يحيا الناس مع بعضهم البعض على أرض واحدة، ويتعاونوا على تأمين مستلزمات عيشهم ومتطلبات حياتهم المختلفة، وليساعدوا بعضهم بعضاً في حرث الأرض وزرعها وحصد الغلال وتخزينها ومن ثم توزيعها أو اجراء عمليات مقايضة أو مبادلة.
يقول سعاده في نفس المصدر (نشوء الأمم ص. 107 ): "لا يمكننا أن ندرس الثقافة ومراتبها وتتبع تطورها الا في سياق التفاعل، أي في تتبع أعمال الانسان على مسرح الطبيعة. والمقياس الذي نقيس به قيمة أية مرتبة ثقافية هو نسبة ما بين حصول أسباب العيش والعمل المبذول في هذا السبيل، لأن كل تطور في الحياة الاجتماعية وأنظمة الاجتماع لا يمكن أن يحدث الا ضمن نطاق هذه العلاقة".
ليخلص الى تقرير حقيقة أساسية مفادها أن النظام الاجتماعي برمته هو دائماً حاصل تفاعل الانسان والطبيعة أي بكلام أخر حاصل التطور في الانتاج كماً ونوعاً وطرائق وأنماط انتاج.
التطور الاجتماعي يكون دائماً على نسبة التطور الاقتصادي، هذه حقيقة لا بد من أخذها بعين الاعتبار والبناء عليها، عند مقاربة المسألة الاجتماعية – الاقتصادية وتفرعاتها وأزماتها ومشكلاتها والتحديات التي تطرحها، فالمستوى الاقتصادي يحدد الى حد بعيد الكثير من الوضعيات الاجتماعية على مستوى المجتمع ككل، والتطور الاقتصادي يرتبط الى حد بعيد بأنماط الانتاج المعتمدة في انتاج السلع والخدمات التي تشبع حاجات السكان، هذا يعني أن الحديث عن أنماط الانتاج ليس مسألة هامشية بل هو لب الموضوع الاقتصادي، ومرتكز التطور والنمو الاقتصادي، لا بل أكثر من ذلك، تحدد أنماط الانتاج المعتمدة درجة التطور الثقافي – الاجتماعي لدولة ما، وتحدد الخصائص لأمة ما، أو لمجتمع ما، أو لدولة ما. (دولة زراعية، صناعية، تكنولوجية الى ما هنالك)
ان يقول أنطون سعاده في كتابه "نشوء الأمم" وفي معرض تعريفه للأمة : "نشوء الأمة اذاً لم يتأسس على فراغ، بل هو وليد عملية تفاعلية في اتجاهين أساسيين: الاتجاه الأول- تفاعل الانسان مع البيئة، والاتجاه الثاني- تفاعل الانسان مع الانسان.
الإتجاه الأول له مدلول الانتاج لأن تفاعل الانسان مع البيئة له مضمون اقتصادي في الغالب(خاصةً ونحن نعرف أن 90 % من نشاط الانساني هو ذو طابع اقتصادي) بهدف تأمين الاحتياجات المعيشية المتطورة بمعزل عن شكل هذا التفاعل ان كان مباشراً أو غير مباشر، وهذا الاتجاه التفاعلي مع البيئة يكمن في جوهر فكرة الاستقرار في الأرض وانشاء العمران الذي بدأ تاريخياً مع اعتماد النمط الانتاجي الزراعي.
الاتجاه الثاني (أي تفاعل الانسان مع الانسان ) له مدلول الدورة الاجتماعية الاقتصادية – الحياتية التي تمتد لتشمل كل الجماعات الانسانية على مدى البيئة الطبيعية كلها أي ضمن ما يسميه سعادة "المتحد الأتم" أي البيئة الجغرافية الطبيعية التي تقدم للانسان كل امكانات التطور والارتقاء والتقدم.
وفي مكان أخر يقول في معرض - أي أن الأساس المادي يشكل مرتكزاً للبناء الروحي للأمة،
اذاً العامل الاقتصادي بأبعاده المختلفة من العوامل الأساسية التي تساهم في نشوء الأمة وبنائها وتطورها، لذا فهو مكون اساسي من مكونات الأمة نشوءاً وارتقاءاً.
اذاً، للاقتصاد مدلولان، مدلول الدورة الاجتماعية الاقتصادية التي هي وحدة الحياة الناشئة عن تفاعل
لقد أوجد أنطون سعاده مفهوماً جديداً للاقتصاد والتنمية بعد أن فشل النظام الرأسمالي في حل مشاكل المجتمع لا بل أدى الى تشنجات ومشاكل جديدة بهذا المعنى، وهذا المفهوم الجديد الذي أرساه يرتكز على الغاء التناقض (بعد الثورة الصناعية وادخال الآلة) بين جماعية الانتاج وفردية الرأسمال. فالنظام الرأسمالي هو نظام الهدر بامتياز بمعنى ان الطاقة تهدر لمصلحة قلة، ولا يستفيد منها المجموع. على هذا الأساس، وصّف سعاده الثورة الصناعية في نشوء الأمم، واعتبر أنها وضعت الاقتصاد على أساس جديد ولكنه سيئ لأنها اتجهت نحو اقتصاد الجماعة باعتبار الآلة تستقطب مجموعة كبيرة من العمال لم يكن الاقتصاد الحرفي السابق يستقطبهم بينما المستفيد من هذا الاقتصاد الجماعي هم أفراد قلة، فحصل التناقض الأساسي بطبيعة النظام الرأسمالي بعد تصنيفه.
وبهذا المعنى، اعتبر سعاده أن الاقتصاد الرأسمالي يخضع لمصالح الدول الكبرى التي تملك الصناعات الأكبر والرساميل الأكبر لذلك اتجه هذا الاقتصاد الى نمط من الطفيلية والانتهازية المعرقلة للانماء والتنمية على المستوى الوطني والقومي.
يعني يتجه الاقتصاد الرأسمالي وما بعد الرأسمالي في عصر ما يسمى العولمة وفتح الأسواق الى ابقاء الدول النامية أو المتخلفة في حلقة سوقه ويمنع التصنيع الثقيل فيها ويمنع التقدم الصناعي فيها ويبقيها كسوق استيراد للسلع الصناعية التي ينتجها.
لذا لا بد أن ترتكز التنمية الصحيحة على بناء اقتصاد وطني أي اقتصاد قومي، وهذا يقضي بالتحرر من شبكة العلاقات الرأسمالية الدولية التي ترتبط بالنظام الرأسمالي المحلي، واقامة شبكة انتاجية – اقتصادية على كامل البيئة الطبيعية – الجغرافية تحقق المناعة الاقتصادية الحقيقية والاكتفاء الذاتي ويتم ربطها لاحقاً وعلى قاعدة المصالح القومية وتأمينها بشبكة علاقات اقتصادية على المستوى الاقليمي وبعدها الدولي.
في المحاضرة الثامنة من كتاب "المحاضرات العشر" نص واضح لسعاده جاء فيه: "ان الانتاج المشترك هو حق عام لا حق خاص، والرأسمال الذي هو ضمان استمرار الانتاج وزيادته هو، بالتالي، ملك قومي عام مبدئياً وان كان الأفراد يقومون على تصريف شؤونه بصفة مؤتمنين عليه وعلى تسخيره للانتاج" ، وفي مكان أخر:" ما من عمل أو انتاج في المجتمع الا وهو عمل أو انتاج مشترك أو تعاوني" .
لقد أرسى سعاده القاعدة – الأساس بأن المجتمع هو المالك الأساس للانتاج ولوسائله ولأدواته واستطراداً لحاصل الانتاج الذي هو رأس المال، وهذا نقض للمفهوم الرأسمالي من جذوره الذي يعتبر الانتاج حقاً خاصاً. اذاً، القاعدة هي أن الرأسمال ملك قومي عام مبدئياً، يجوز للمجتمع أن يجعل الأفراد يتصرفون به بالقيمومة في مرحلة ولكن القاعدة تبقى بأنه ملك عام بمعنى أن تصرف الأفراد في كل العلاقات الرأسمالية حتى المحدودة منها هي استثناء للقاعدة يمكن الغاؤه في أية لحظة، يعني تأكيد على اجتماعية الرأسمال وقوميته، ورفض لفرديته.
ويضيف في توصيف مأزق الرأسمالية والنظرة الفردية الاقتصادية: " من هذه الناحية نحن نسير نحو نظام جديد لا نهرب فيه من الآلة بل نتقدم اليها، لا نعد الآلة مصيبة للبشرية و لا مستعبدة للناس بل نعمة للبشرية ومحررة للناس. ولكن بعض الناس الذين استعملوا الآلة الحديثة رأوا أن يستعبدوا الناس الذين لم يكن لهم ما يمكنهم من الحيازة على الآلات الضخمة الحديثة. ان سوء الحالة الاقتصادية ليس من الآلة بل من النظام السيئ تنميه النظرة الفردية اللامسؤولة عن المصير القومي في استخدام الآلة الحديثة". ويؤكد:" نهضتنا تريد أن تضع حداً لهذا الاستعباد ولأصحاب الرساميل الفردية الذين يستعبدون بواسطتها الناس".
اذاً، النظرة القومية في طرح المسائل أساسية لأنها المرتكز لمعالجة أي شأن، بما فيه المسائل الاقتصادية الاجتماعية. وبالتالي، فالنظرة الأخلاقية التي تقود العملية الانتاجية – الاقتصادية هي المعيار الذي يتم الحكم على أساسه بصلاح الاجراءات وصدقيتها ومدى شمولها بالخير العام أوسع شرائح ممكنة في المجتمع القومي، وعندما تتأسس "العملية الاقتصادية" على هذا الأساس الأخلاقي الانساني، تصبح الآلة نعمة وخيراً وراحةً وتحريراً للعمال، وعلى العكس، اذا كان العقل الفردي الأناني هو الذي يحكم الآلة، عندها تتحول وبالاً وشراً واستعباداً للبشرية.
اذاً، اعتبر سعاده أن تملك بعض الناس للآلة الحديثة كان طريقهم لمحاولة استعباد الذين لا يملكون هذه الآلة.
أي أن الملكية الفردية المطلقة، والغير خاضعة لضوابط المصلحة العامة تؤدي الى استغلال واستعباد وخلل في توزيع الموارد والثروات والى انتفاء المساواة والعدالة الاجتماعية، وهذا يؤدي الى اختلالات بنيوية سياسية واجتماعية خطيرة.
ما ينطبق على العلاقات داخل المجتمع الواحد ينطبق الى درجة كبيرة على واقع العلاقات بين الدول والأمم، ولعل واقع العالم المعاصر في العقود الأولى من الألفية الثالثة، هو واقع مأساوي بكل المقاييس، حيث النظرة الفردية اللا أخلاقية واللا انسانية أدت الى اختلالات كبيرة تهدد بمآسي وكوارث وحروب وأحقاد وصراعات لا متناهية لن يكون فيها منتصر وستكون عنوان النهاية لهذا العالم الحزين والموبوء.
وما عالم العولمة "البعيد عن الانسانية" وطبيعة العلاقات التي تقوده الا الدليل الدامغ على عمق المخاطر التي تتهدد السلام والأمن والاستقرار على المستوى العالمي الكبير.
في مرحلة سابقة، تمت التعمية على هذه الحقائق المتصلة بحياة الناس ومصالح حياتهم العليا، وتم التطبيل والتزمير لظاهرات "فتح الأسواق"، و "العولمة" و "تحرير التجارة العالمية" و"تحرير الاستثمارات"، ورفع شعار تحول العالم الى "قرية كونية واحدة"، ولكن، غاب عن بال كل هؤلاء السؤال الأساسي: هل تقدم موقع الانسان ومكانته وسط كل هذه الظاهرات؟ هل احترم الانسان كقيمة؟ هل تأمنت مصالح الأوساط الشعبية في بلدانها وأوطانها ومجتمعاتها؟ هل تحققت العدالة النسبية في توزيع الموارد الطبيعية والاقتصادية على مستوى كل الشعوب والأمم؟ هل راعت كل هذه العلاقات الجديدة الناشئة معايير المساواة والحق الانساني في الاستفادة المتوازنة من البيئة وما تقدمه من امكانيات؟ هل تقدم مفهوم "التنمية المستدامة"؟ هذا الشعار الذي يتم حمله اليوم والسعي الى تسويقه دون الأخذ بعين الاعتبار الشروط الحقيقية التي تؤدي الى تحقيقه؟
ما هي هذه القرية الكونية الموعودة؟ وهل تطبق فيها أخلاقيات "القرية الصغيرة" في التعاون والانتاج والتوزيع والتبادل والاستهلاك بما يحفظ حقوق كل سكان هذه القرية؟ انها أسئلة جدية تطرح في ظل واقع يكشف عن خلل أساسي كبير أدى الى أزمات حقيقية والى تصدع بنيان اقتصادات وطنية في كل القارات، والى أزمة مالية عالمية نشهد تداعياها الخطيرة، والى تراجع للنمو الاقتصادي العالمي، والى احتكارات كبيرة، والى قبض قلة من الدول على خيرات المسكونة والعالم وعلى ثرواته الطبيعية والاستراتيجية، والى تفشي ظاهرة الفقر والبطالة في الاقتصادات الضعيفة والنامية وحتى في الدول القوية صناعياً وانتاجياً.
ان مفهوم "الشركة العابرة للقوميات" يحمل في طياته مضمون الظلم وانتفاء العدالة وعدم المساواة، وخلل في موازين القوى الاقتصادية وغيرها، وكل هذه الاستثمارات العالمية التي تحط رحالها في أصقاع الأرض ليست مقطوعة الجذور القومية، فالعائدات الاستثمارية تعود غالباً الى القاعدة الاستثمارية الأصلية، فيما لا يصيب الأطراف أو الأماكن التي تقيم هذه الاستثمارات فيها مكانياً الا الفقر والنهب المنظم والسرقة الموصوفة خارج أية ضوابط في القانون المحلي أو الدولي أو الأممي أو حتى الانساني!
هذه الاستثمارات "النقالة" تنهب الأمم والشعوب وتزيد الهوة السحيقة بين الأمم والشعوب، فيما المستفيد الحقيقي هو قلة من محتكرين وقلة من جشعين مستغلين في المراكز والأطراف، وهذا واقع وجب تغييره.
ونحن نلج في العقد الثالث من الألفية الثالثة، نجد أنفسنا في بلادنا أمام ثلاث حالات اقتصادية واقعية:
القومية الاجتماعية اذاً – في المسألة الاقتصادية - هي تطبيق الاجتماعية على الاقتصاد. الاجتماعية في شمولها والاجتماعية في انبثاقها من القاعدة القومية. لذا فان الخط الاقتصادي العام تم رسمه في النظرة الاستراتيجية القومية الاجتماعية، أما الأنماط الانتاجية، والعلاقات المتفرعة عنها، وأنماط الملكية وغيرها، دور القطاع العام، دور القطاع الخاص، الخصخصة، التأميم، الشراكة بين القطاعين الخاص والعام، كلها مسائل تخضع لظروف التطور الاقتصادي والاجتماعي للمجتمع أو الدولة المعنية، وهذه الظروف والبيئة الاقتصادية المصاحبة هي التي تملي اجراءات اقتصادية معينة كالتأميم أو الخصخصة أو غيرها من المسائل الاجرائية أو التوجهات العملية، وقد أثبتت تطورات السنوات القليلة الماضية، وخاصةً في أعقاب الأزمة المالية العالمية، وفي خضم أزمة تفشي وباء الكورونا 2020 وما لعبته وتلعبه الدول والحكومات وما اتخذته من اجراءات حول العالم، كل هذه التطورات تشير الى أنه لا شيئ مطلق في الاقتصاد، كما في كل مناحي حياة المجتمعات الانسانية، وكل القضايا تصبح نسبية على اطلاقها، وتتم مقاربتها وفق الظروف والبيئة والواقع. وما الاجراءات الحمائية التي اتخذتها دول ترفع لواء "الحرية الاقتصادية" و "الرأسمالية" و "الاقتصاد الحر" ( كشراء حصص في مصارف وبنوك ، أو تأميم شركات خاصة، أو دخول الدولة شريكاً في الانتاج، وغيرها ...)الا دليل على أن القاعدة الأساس تتجسد في مقولة " أن مصلحة الأمة أو المجتمع هي الأساس"، أما التطبيقات والآليات فتخضع دائماً للنسبية، فزمن النظريات الاقتصادية المعلبة قد ولى الى غير رجعة.
أما الحقيقة الثانية المهمة تكمن في ارتباط الاقتصاد بمصالح الأمم وبمرحلة التطور القومي وهذا أكدته كل التجارب الاقتصادية من أقصى اليسار الى أقصى اليمين، وكل هذه التجارب كان معيار نجاحها مدى ملاءمتها أو مساكنتها أو تجانسها مع الواقع القومي.
الخلاصة، ان المناهج الاقتصادية خاضعة دائماً للتبديل والتعديل حسب مصلحة المجتمع في كل مرحلة من مراحل تطوره الاقتصادي الاجتماعي شرط أن ترتكز هذه المناهج العملية على القواعد الأساسية التي هي اجتماعية مطلقة منافية للفردية بأشكالها المختلفة.
اذا انتقلنا الى تعريف ما هو النمط الانتاجي؟بناءً على ما تقدم يمكن القول ان الأنماط الانتاجية، هي هياكل بنائية متكاملة تغطي مرحلة زمنية واسعة ولمجموعه من المجتمعات وتمثل مرحلة حضارية كاملة ، وللنمط الإنتاجي الواحد بناء اقتصادي تحتي يتمثل في الوسائل والآلات وتقنيات العمل ، وجوهره ألارتكازي هو الملكية وطبيعتها ، ومجموعة من البناءات العلوية الملازمة للنمط وهي التكوين الاجتماعي من ناحية الفئات المنتجة وعلاقاتها فيما بينها وهو ما يعرف بعلاقات الإنتاج وبالتالي نوع وشكل الدولة ونوع التشريعات وأشكال الآداب والفنون الملازمة للنمط والمعبرة عن مصالح المجتمع المتولدة عنه ، ولم تكن الأنماط الانتاجية وليدة الأهواء والرغبات بل هي وليدة لأنماط الفكر والفلسفة في المجتمعات البشرية ، ووليدة طبيعية لأنواع الصراعات التاريخية بين المجتمعات ، وفي المجتمع الواحد أيضا.
للأنماط الانتاجية -كونها مراحل للتطور المدني والحضاري للبشرية- جذور عميقة في البنية العقلية للمراحل التاريخية للمجتمعات المختلفة ومن هنا نحصل على فهم واضح لأسباب شيوع هذا النمط الإنتاجي أو ذاك في هذا المجتمع أو ذاك وفي تلك الفترة أو سواها كبديل عن أنماط أخرى قد لا يكون المجتمع مؤهلاً او متطورا لدرجة كافية للانتقال اليها .
أما أنواع الأنماط الانتاجية من ناحية طبيعة العمل فيمكن تقسيمها الى عدة أنماط، بشكل عام ،وتاريخيا فان المجتمع البشري قد شهد النمط الرعوي، النمط الزراعي، والنمط الصناعي، وأخيراً النمط الصناعي - التكنولوجي. ولكل نمط من هذه الأنماط وسائل إنتاجية تختلف عن الأخرى ولها بالتالي قوانين وأعراف وتشريعات تناسب طبيعة الإنتاج وطبيعة الصراعات على الملكية ’ أي طبيعة الاستحواذ على غالبيه المنفعة المتولدة عن العمل ، وآلية التحكم في العمل ، وآلية التوزيع للأدوار الاجتماعية، ففي حين كان النمط الرعوي نمطاً بدائياً يعتمد في جوهره على الاستحواذ على الأرض المليئة بالأعشاب والماء ويعتمد على تربية الحيوانات الأليفة للاستفادة من منتجاتها المختلفة ، فان النمط الزراعي تحول إلى استغلال الأرض للزراعة والاستفادة من المنتجات الزراعية المختلفة وتطور المجتمع بالتالي عن النمط السابق في وفرة الإنتاج للمنفعة ، وتطورت وتغير شكل العلاقات ووسائل الحكم والعادات والتقاليد ، من ثم القوانين النافذة ، أما النمط الصناعي فقد وفر وبلا شك وسائل جديدة أكثر تطورا للمعيشة والحياة وجلب معه وضمن مستلزمات قيامه جملة من التقاليد والأعراف، والتشريعات، والمشاكل ، والتعقيدات تتناسب مع أهمية ما أحدثه في الحياة البشرية من تطورات ، حيث ولدت معها الصراعات الكبيرة حيث أصبحت دائرة الصراع تشمل كل الأرض وحيث ما كان، بحثاً عن المواد الاولية ، والأسواق ، والأيدي العاملة ، مما تولد معه ظواهر كالاستعمار والإمبريالية والشركات متعددة الجنسية ناهيك عن الحروب الكبيرة والخطيرة وهذه المرحلة تحمل في أحشائها بوادر التشاؤم بنفس القدر مما تحمل من بوادر الخير والمنفعة للبشرية، وكذلك مع تطور تقنيات الاتصال والتواصل المعلوماتي أصبحنا أمام ظاهرة المعرفة بأشكالها الحديثة وتأثيراتها على الاقتصاد على مستويات الانتاج والاستهلاك وما يرتبط بهما من سلوكيات وممارسات تلعب دورا في توجيه الاقتصاد وتوظيفه في محتلف المجالات .
ان مشاكل البيئة لا تعرف حدوداً، وفي عصرنا الحاضر نشهد تحديات بيئية مختلفة أخذت تهدد الأجيال بسبب قيم ومثل وأعراف وأخلاقيات تعطي أولوية للتقدم الاقتصادي والاثراء المادي السريع على حساب الاستغلال السليم لموارد الطبيعة، ان التحسين في مستويات المعيشة الذي تجلبه التنمية قد يضيع بسبب التكاليف التي قد يفرضها التردي البيئي على الصحة ونوعية الحياة وعلى استدامة الأرزاق والثروات للأجيال القادمة.
من هنا، تبرز فكرة التنمية المستدامة التي تحاول أن تصحح العلاقة بين الانسان والبيئة في ارساء أنماط انتاج ملائمة تخفف من الآثار السيئة لتفاعل الانسان مع بيئته الطبيعية في سياق النشاط الاقتصادي – الانتاجي الذي يقوم به لتأمين حاجاته واشباعها، وذلك باعتبار أن لعلاقة الانسان ببيئته وجه آخر هو أن البيئة هي خزانة الموارد التي يحولها الانسان بجهده وبما حصله من معارف علمية ووسائل تقنية الى ثروات، اذ أن تحويل الموارد الى ثروات هو جوهر التنمية، وفكرة التنمية المستدامة أو (المتواصلة) تتقدم بنا خطوة الى الأمام اذ تضيف أبعاداً اجتماعية وأخلاقية لعلاقة الانسان بالبيئة، وتضع قواعد لهذه العلاقة تتركز على:
أولاً: الكفاءة الاقتصادية.
ثانياً: صون البيئة وعناصرها وقدرتها على العطاء.
ثالثاً: العدل الاجتماعي بين الناس جميعاً في حاضرهم ومستقبلهم.
وهذه القواعد لا يمكن الحفاظ عليها الا باعتماد أنماط انتاج تحقق الادارة المثلى للموارد الطبيعية، وذلك بالتركيز على الحصول على الحد الأقصى من منافع التنمية الاقتصادية بشرط المحافظة على خدمات الموارد الطبيعية ونوعيتها، وأيضاً بطريقة تحقق التوازن بين استخدام الموارد اليوم وعدم التقليل من الدخل الحقيقي في المستقبل، أي أن القرارات الحالية في الانتاج وطرائقه وأساليبه وأنماطه ينبغي ألا تضر بامكانيات المحافظة على مستويات المعيشة في المستقبل أو تحسينها وهو ما يعني أن نظمنا الاقتصادية والانتاجية ينبغي أن تدار بحيث نعيش على أرباح مواردنا ونحتفظ بقاعدة الأصول المادية ونحسنها. وهذا يتطلب تطوير أنماط انتاج تراعي:
ترتكز التنمية الصحيحة على بناء اقتصاد وطني أي اقتصاد قومي، وهذا يقضي العمل على اقامة شبكة انتاجية – اقتصادية على كامل البيئة الطبيعية – الجغرافية تحقق المناعة الاقتصادية الحقيقية والاكتفاء الذاتي ويتم ربطها لاحقاً وعلى قاعدة المصالح القومية وتأمينها بشبكة علاقات اقتصادية على المستوى الاقليمي وبعدها الدولي، ويبقى المدخل لتحقيق هذا الهدف هو التأسيس على المبادرات والمشروعات الاقتصادية الانتاجية المحلية التي تشكل القاعدة – الأساس للمشروع الاقتصادي القومي الشامل، وخطوة على الطريق الصحيح نحو تفعيل حالة اقتصادية انتاجية تساهم في بناء اقتصاد قومي اجتماعي يشكل اطاراً للعمل والانتاج، ويؤسس لبناء شبكة أمان اقتصادية اجتماعية حقيقية تحمي المواطنين وتفعل طاقاتهم وامكاناتهم في اطلاق مشروعات انتاجية – اقتصادية صغيرة ومتوسطة الحجم تساهم في التخفيف من تداعيات الواقع الاقتصادي المأزوم، وتساهم في خلق فرص عمل جديدة، وتجسد مفاهيم التعاون والتعاضد الاقتصادي – الاجتماعي الضرورية لمواجهة كل التحديات، وتحقيق حالة من الاستقرار الاجتماعي المنشود.
ان للاقتصاد أهمية خاصة في منظومة الفكر القومي الاجتماعي، ولا بد لأي انطلاقة اقتصادية سليمة أن ترتكز على هذا البعد الفكري الاقتصادي القومي الاجتماعي ، ولابد من التأسيس لعلاقات انتاجية اقتصادية تأخذ بعين الاعتبار البعد الاجتماعي ورفع مستوى العدالة والاستفادة القصوى من الموارد الاقتصادية والطبيعية من قبل أوسع شرائح ممكنة في المجتمع، وضبط كل حالات الاستغلال والاستعباد والاحتكار والاستنسابية في توزيع هذه الخيرات والموارد، كي لا نقع في المحظور.
ان الفكرة الأساسية تكمن في توكيد البعد الاجتماعي – التعاوني وتشجيع العمل الاقتصادي التعاوني – التعاضدي، وكل هذه المشروعات الانتاجية لا بد أن ترتكز وبشكل أساسي على فكرة التعاون، وعلى كيفية تكامل جهود الأفراد في سياق مشروع انتاجي يؤمن اضافة الى مصلحة الفرد مصلحة المجتمع الذي ينتمي اليه.
في المحاضرة الثامنة من كتاب "المحاضرات العشر" نص واضح لسعاده جاء فيه: "ان الانتاج المشترك هو حق عام لا حق خاص، والرأسمال بما أنه حاصل الانتاج هو ملك قومي عام مبدئياً"، وفي مكان أخر:" ما من عمل أو انتاج في المجتمع الا وهو عمل أو انتاج مشترك أو تعاوني".
اذاً، النظرة القيمية في طرح المسائل أساسية لأنها المرتكز لمعالجة أي شأن، بما فيه المسائل الاقتصادية الاجتماعية. وبالتالي، فالنظرة الأخلاقية التي تقود العملية الانتاجية – الاقتصادية هي المعيار الذي يتم الحكم على أساسه بصلاح الاجراءات وصدقيتها ومدى شمولها بالخير العام أوسع شرائح ممكنة في المجتمع القومي، وعندما تتأسس "العملية الاقتصادية" على هذا الأساس الأخلاقي الانساني، تتحقق المصلحة المجتمعية المتوخاة منها.
ان ملامح هذا الاقتصاد القومي الاجتماعي تتمثل في القواعد والأسس التي يقوم عليها، وفي توكيد البعد الاجتماعي العام لكل النشاط الاقتصادي على مستوى الأمة، أو البيئة الجغرافية التي تشكل المدى الطبيعي الحيوي لدورة الانتاج والتوزيع والتبادل التي تنطلق من دينامية الفعل الاقتصادي المفتوح الآفاق والشامل لكل مكونات الاقتصاد القومي باجماله وبشموليته التي لا تقف عند حدود، وهذه نقطة مفصلية هامة لا بد من التوقف عندها في لحظة مقاربة عميقة وجدية للمسألة الاقتصادية، فالمتحد القومي – الطبيعي الأتم هو القاعدة الانتاجية التي تنطلق منها كل فكرة التكامل والتعاضد والتآزر والتعاون على المستوى الاقتصادي، لأن هذا المتحد- البيئة الطبيعية هو خزان الثروات والامكانات والقدرات والخامات الضرورية لاطلاق الانتاج والتأسيس عليه في تطوير بيئة صناعية حقيقية تشكل أرضية مناسبة للتنمية بأبعادها المختلفة.
ان الدعوة الى الوحدة القومية ليست دعوة مبتورة أو جزئية أو ناقصة بل هي توجه واقعي يرتكز على رؤية مستقبلية يحتل الشأن الاقتصادي – الاجتماعي مساحة أساسية تعالج في اطارها كل مسائل التنمية والعدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروات على كامل أفراد المجتمع القومي بما يحقق رفع مستويات الدخل وبالتالي يكون مدخلاً لرفع وترقية مستوى حياة الانسان والتصدي بالتالي لكل قضايا الظلم الاجتماعي والفقر والتدهور في المستوى الصحي والتربوي والاقتصادي للمواطنين.
في العقود الأخيرة من القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، ومع التغيرات البنيوية التي حصلت في عالم اليوم، ثبت بما لا يقبل الشك أن المحددات الأساسية للشأن الاقتصادي يجب أن تتركز على قاعدة المصلحة القومية العليا أي مصلحة المجتمع وسلامته، أما المسائل التفصيلية في مقاربة البعد العملي في الشأن الاقتصادي لا يمكن عزلها عن ظروف الزمان والمكان، وعن المؤثرات والعوامل التي تواكب اللحظة الاقتصادية المقصودة، فأنماط الملكية، وطرق ادارة العمليات الانتاجية والتوزيع، لا يمكن حصرها أو تقييدها أو وضع أطر صارمة لها، بل هي تخضع لمستوى من الدينامية العالية، ولكن، بالطبع تحت سقف المصلحة الوطنية أي مصلحة الناس والمجتمع، بكلام اخر، ان زمن القوالب الاقتصادية الجامدة التي تطبع الحياة الاقتصادية قد ولى ولا عودة الى الوراء، فلا النموذج الماركسي الاشتراكي المادي المتركز حول حصر القرار الاقتصادي في مركزية الدولة بمعزل عن المؤثرات الأخرى شكل حلاً، ولا النموذج الغربي الرأسمالي المادي أيضاً شكل بدوره حلاً ولنا في الأزمة المالية العالمية الأخيرة خير دليل، فتدخل الدولة في عاصمة الرأسمالية العالمية (الولايات المتحدة الأميركية) وشروعها في مساعدة المؤسسات والبنى الاقتصادية المأزومة وصولاً الى تأميم بعض هذه المؤسسات يدل بشكل قوي على دينامية غير مسبوقة تتجاوز كل التحديدات والمواقف المسبقة وتبرر بالتالي هذه الاجراءات الحمائية التي اتخذتها دول وحكومات تنتمي وفق المعايير السابقة الى عالم الرأسمالية.
ان قطاعاً انتاجياً هاماً يحتل مساحة متزايدة في اقتصاديات مجتمعات كثيرة ولا سيما المجتمعات النامية، كحالة مجتمعنا، وهو قطاع التعاونيات. وهذا القطاع يشكل اليوم قطاعاً منتجاً أساسياً وحلقة تواصل مهمة بين القطاع العام والقطاع الخاص، وقد ساعد هذا القطاع في امتصاص مشاكل البطالة، ومعالجة قضايا التشغيل ولا سيما في القطاع الزراعي وجزئيا في القطاعات الصناعية، وحتى في قطاعات خدماتية معينة.
فكرة التعاونية تقوم بشكل أساسي على مبدأ التكافل والتضامن، وترتكز على البعد المتعلق بالعدالة الاقتصادية والاجتماعية التي توفرها هذه الأطر التعاونية لأعضائها المشاركين في عملية الانتاج.
وقيمة "التعاونية" ليست فقط في كونها مؤسسة انتاجية، أي مؤسسة تنتج سلعاً وخدمات، اذ أن أي "مؤسسة" أو "شركة" خاصة سواء كانت فبركة صغيرة، أو مصنعاً كبيراً هو أيضاً قادر على انتاج السلع والخدمات، ويمتلك القدرة على تطوير صناعاته كماً ونوعاً، ويقدر على معالجة مسائل الجودة والنوعية، ولكن، الفكرة الأساسية التي تتمحور حولها التعاونيات هي في كونها اطار انتاجي – تعاوني، أو مؤسسة انتاجية تحقق أعلى قدر ممكن من عدالة اقتصادية – اجتماعية، وخاصةً العدالة في توزيع عائدات هذا الانتاج.
فاذا كان حق الانتاج هو حق عام لا حق خاص، فبالتالي الرأسمال – الذي هو حاصل الانتاج – هو حق عام أيضاً.
وأهمية التعاونية تكمن في تطويرها للبيئة الاقتصادية – الاجتماعية التعاونية ثقافياً وفكرياً وأخلاقياً في طريقها لتحقيق أهدافها، وهذه مسألة غير موجودة في القطاع الخاص الصرف، حيث الاستغلال وتحكم الرأسمال الفردي هو الذي يطبع عمل هذه المؤسسات.
وقد تكونت خلال المراحل السابقة وفي المدى القومي الطبيعي، وفي كامل كيانات الوطن تجارب في العمل التعاوني يمكن التأسيس عليها، والبناء على نتائجها للاستفادة من الثغرات والأخطاء والنواقص، باتجاه تصويب المسار في هذا القطاع الهام، واطلاق مبادرات تعاونية – انتاجية تحقق نجاحات.
الميزات التفاضلية للجمعية التعاونية:
تلعب التعاونيات دوراً أساسياً في التنمية، وفي الحد من الفقر وفي استحداث الوظائف وفرص العمل في المتحد المحلي (القرية، الدسكرة، ...)، وتنشط هذه التعاونيات بشكل أساسي في الأرياف ويتمركز أغلبها في القطاع الزراعي.
لذا لا بد من العمل الحثيث والضغط على مستويات مختلفة ومتعددة من أجل اعتماد سياسة لتنمية التعاونيات على المدى القصير والمتوسط وربط هذه السياسة بالأهداف الانمائية الوطنية العامة.
ان القطاع التعاوني يشكل ركيزة أساسية للنهوض بالاقتصادات المحلية وبالتالي الوطنية، وهو بالفعل قطاع انتاجي فاعل ومساهم أساسي في الدورات الانتاجية على مستوى الأمة من العراق الى فلسطين، الى لبنان، الى الشام الى الأردن، ويحقق نتائج هامة ولاسيما في القطاعين الزراعي والصناعي.
لذا لا بد من العمل الحثيث والضغط على مستويات مختلفة ومتعددة من أجل اعتماد سياسة لتنمية التعاونيات على المدى القصير والمتوسط وربط هذه السياسة بالأهداف الانمائية الوطنية العامة.
ان القطاع التعاوني يشكل ركيزة أساسية للنهوض بالاقتصادات المحلية وبالتالي الوطنية، وهو بالفعل قطاع انتاجي فاعل ومساهم أساسي في الدورات الانتاجية على مستوى الأمة من العراق الى فلسطين، الى لبنان، الى الشام الى الأردن، ويحقق نتائج هامة ولاسيما في القطاعين الزراعي والصناعي.
يستعمل مفهموم التكامل الاقتصادي (بالإنجليزية: Economic Integration) على نطاق واسع في الأدب الاقتصادي العالمي، ويمكن تمييز نوعين من التكامل الاقتصادي، الأول هو التكامل على نطاق الاقتصاد الوطني، ويقوم على أساس التقييم الفعال والتبادل الأنتاجي بين الوحدات الأساسية داخل القطر.
وحل مشكلة التكامل الأقتصادي الداخلي يتوقف على مجموعة من التدابير والتحويلات الاقتصادية والأجتماعية والادارية. فمن الناحية الاقتصادية يجب أن يختار لأجل التنمية ذات الأولوية تلك الفروع والمؤسسات التي تخلق صلات جديدة في الاقتصاد وتشغل في الدورة الاقتصادية موارد واحتياطات من اليد العاملة، ويجب توزيع القوى المنتجة بحيث يخلق استثمار بعض الموارد ظروفاً مناسبة لاستجلاب أخرى، ويؤدي التكامل الاقتصادي الداخلي وفق هذا المفهوم الى الاستفادة من الموارد الداخلية للبلد نفسه قدر المستطاع.
والتكتل الاقتصادي بين الدول هو النوع الآخر من أنواع التكامل الاقتصادي. فعندها يمكن تعريف ”التكامل الاقتصادي" باعتباره عملاً ارادياً من قبل دولتين أو أكثر، يقوم بازالة كافة الحواجز أمام التبادلات التجارية وانتقال عوامل الانتاج فيما بينها. كما أن التكامل الاقتصادي يضمن تنسيق السياسات الاقتصادية، وايجاد نوع من تقسيم العمل بين الدول الأعضاء بهدف زيادة الانتاجية العامة مع وجود فرص متكافئة لكل دولة عضو. وبشكل عام يبدأ باتفاقات تجارية مشتركة أو تخفيض أو الغاء التعرفة الجمركية واتفاقات أخرى نقدية وصولاً الى الاندماج الاقتصادي الكامل.
الاشكالية الحقيقية في بلادنا هي في كون التكامل الاقتصادي الداخلي المفترض هو تكامل بين دول قائمة، والتكامل الخارجي بين دول في سورية الطبيعية هو في الأساس تكامل داخلي كون هذه الدول تنتمي الى دورة اقتصادية حياتية اجتماعية واحدة وترتكز على البعد الجغرافي الطبيعي القومي الواحد.
يختلف الاقتصاديون حول تحديد مفهوم التكامل الاقتصادي، فاستخدمت مصطلحات عديدة للتعبير عن التكامل الاقتصادي فالبعض استعمل مصطلح الاندماج وأخرون استخدموا مصطلحات أخرى كالتكتل والتعاون. ويرجع هذا الاختلاف الى نوعية التكامل الاقتصادي ودرجته، هل هو جزئي؟ هل هو كلي؟ أم هل هو بين دولتين على شكل اتفاقيات ثنائية أو بين مجموعة من الدول على شكل تكامل اقليمي؟
في ما خص الهلال الخصيب، ففكرة التعاون المتعدد الأطراف موجودة ومتأصلة في الوعي وفي حركة الواقع الحي، وقد تمظهرت فكرة هذا التعاون في الانخراط في معاهدات واتفاقات تعاون ثنائية وثلاثية الأبعاد فيما بين أطرافها، ولكنها انخرطت في مستوى أخر في اطار أوسع وأشمل في اطار الجامعة العربية ومؤسساتها.
والحقيقة، أن المنطقة بأسرها أي الهلال الخصيب مرتبطة فيما بينها بروابط جغرافية، قامت داخلها، طوال قرون، علاقات تجارية وثقافية وثيقة، وقد اجتازت هذه المنطقة بأسرها محن عديدة، وكافحت جنباً الى جانب ضد الاستعمار الأجنبي.
وأي توجه لتفعيل عملية التكامل الاقتصادي بين دول الهلال السوري الخصيب يفترض أن يرتكز على:
12- اقتصاد المعرفة: مقاربة قومية اجتماعية
ثمة اقرار ان المعرفة بوجوهها المختلفة والمتعددة هي مفتاح القوة في مواجهة التحديات التي تعرض في الواقع الحياتي – الاجتماعي بأبعاده السياسية والثقافية والاقتصادية وعلى كل المستويات.
فمن يمتلك المعرفة والعلوم والتقنيات يستطيع أن يفرض معادلات جديدة في الواقع القومي والانساني العام، فالمعرفة تؤسس وتضيف قدرات وامكانات هائلة، اذا أحسن توظيفها، واستعمالها، ستؤدي حتماً الى مزيد من الخير العام والرفاهية والبحبوحة والازدهار على كل المستويات.
لأنطون سعاده قول مأثور :"المجتمع معرفة والمعرفة قوة" ، وهو يعبر تعبيراً صارخاً على اهمية امتلاك المعرفة والعلم وامتلاك أدوات المعرفة وعلومها وتقنياتها في معارك الحياة وعلى دروبها الوعرة والصعبة.
فمن يمتلك تقنيات زمانه هو الذي يفرض سيطرته، على الزمان والمكان، ويطبع العصر بطابعه وميزته، ويفرض قيمه ومفاهيمه ومثله العليا، وهذه المعادلة هي التي قادت البشرية منذ عصورها الأولى، وهي ما تزال تحكم عالمنا المعاصر.
بيد أن الاشكالية التي تفرض ذاتها في هذا المضمار تتمثل في الربط الدقيق والضروري بين الذهنية التي تحمل هذا "الكنز المعرفي" والمثل والقيم التي تقود هذه الذهنية، فالمعرفة الملتصقة بمنظومة القيم التي تؤمن بالانسان باعتباره قيمة اجتماعية، والتي تؤمن بالمجتمع باعتباره الحقيقة الانسانية الكبرى، هي المعرفة التي تغني المجتمع والانسان وتدفع به الى معارج دروب الترقي والنهوض والتنمية الحقيقية، والازدهار ونشر العدالة الاجتماعية والحقوقية، والعدل الاقتصادي – الاجتماعي الانساني الذي يشكل المرتكز لاستقرار المجتمع القومي، ولارساء قواعد راسخة من التعاون وتضافر الجهود الانسانية على مستوى العالم.
لذا، فان "المعرفة" هي اللبنة التي تتأسس عليها ليس فقط حركة الاقتصاد، بل كل حركة المجتمع بكليته وهي الأساس للتطور والتنمية في مجالاتها المختلفة.
أردت في هذا البحث حول "اقتصاد المعرفة" أن أنطلق من مقولة أساسية ارتكز عليها سعاده كرافعة وقاطرة للنهضة القومية الاجتماعية ككل، وهي مقولة "ان العقل هو الشرع الأعلى في المجتمع"، وكل اشكاليات الواقع الاجتماعي تقارب على قاعدة هذا العقل، الذي وجد ليعقل، ليفكر، ليفعل، وكل منظومة المعرفة "الانسانية" هي نتاج هذا الفعل "العقلي"، وهي ثمرة هذا "العقل" وما قدمه من اجابات منذ القدم.
و"الاقتصاد" ليس حالة خاصة أو شاذة بهذا المعنى، فكل حركة ونشاط الانسان الاقتصادية يعقلها العقل ويطورها العقل، ويهذبها العقل، وينميها العقل، ويصوغها العقل. والمعرفة – بهذا المعنى – هي نتاج هذا العقل وحاصل تفاعله مع البيئة المحيطة بالمعنى الاجتماعي وبالمعنى الطبيعي – الجغرافي.
فالمعرفة وثيقة الصلة بالاقتصاد، لأن الاقتصاد نفسه وثيق الصلة بالمجتمع الانساني القومي، وهو يحتل مرتبة عالية في منظومة الفكر القومي الاجتماعي، وهو –في معنى من المعاني – يدخل في أساس نشوء الأمة والمجتمع القومي، فالتفاعل بين الانسان والانسان، والتفاعل بين الانسان والبيئة، عاملان أساسيان في نشوء الأمة ذاتها، وفي كلتا الحالتين "التفاعل" له طابع اقتصادي غالب، فالنشاط الانساني التفاعلي بين الجماعات داخل البيئة الجغرافية الواحدة مسببه اقتصادي – حياتي – معيشي، وكذا احتكاك الانسان ببيئته، وارتقاء هذا الاحتكاك الى مرتبة التفاعل بالعقل، أي بعقل الأشياء والظاهرات هو ذو طابع انتاجي – اقتصادي غالب، وبالتالي، المعرفة الانسانية الناتجة عن فعل "العقل " هي التي قادت وتقود مسيرة النمو والتنمية والترقي الاقتصادي – الاجتماعي للجماعات الانسانية التي سكنت الأرض وتفاعلت معها وتبنت فكرة الاستقرار في المكان، وأسست للعمران بمظاهره المختلفة، وصولاً الى تكوين "الهوية القومية الاجتماعية " الانسانية المتلونة بتلاوين التفاعلات التي أسست لتبلورها وصيرورتها.
لذا، عندما نقارب موضوع "اقتصاد المعرفة" – فنحن لا نتحدث عن تغير في المفهوم والتعريف، أي تعريف "الاقتصاد" ومفهومه، بل المقصود هو التغير في القيمة وحجم الدور الذي تلعبه "المعرفة" بوجوهها المختلفة في العملية الاقتصادية بمراحلها المختلفة، لدرجة تحولت "المعرفة" – بهذا المعنى – من عنصر مساعد في التطور الاقتصادي – الانتاجي الى عنصر أساسي من عناصر الانتاج.
وهنا، يبرز دور التطور التقني – العلمي والتكنولوجي وعلاقته بالمعرفة والمعلومات التي يتم توظيفها في الحركة الاقتصادية من مرحلة الانتاج الى مراحل الاستهلاك.
خاتمة
العقل اذاً هو البداية، فالعقل المتفاعل مع المحيط، هو مصدر المعرفة، والمعرفة المعبر عنها بمجموعة المعارف والمعلومات والعلوم والآليات والتقنيات والأدوات والوسائل هي التي تعطي الانسان – العقل القوة الأساسية، وهذه المعرفة هي تقود وترافق الاقتصاد من مرحلة الانتاج، انتاج الثروة والحصول عليها من مصادرها الأولى الى مرحلة الاستهلاك الجماهيري الأخير.
المراجع