كنتُ بصدد كتابة هذه الكلمة وتوزيعها في ذكرى الثامن من تموز، في سياق استعادة بعض من تاريخنا الحزبي الذي يجهله كثيرون من جيل الشباب، أو يسيئون فهمه، أو يقصّرون في التعرف إلى حقيقته. غير أنني ترددت أولاً، ثم تمهلت ثانياً، بسبب مناقشات حادة ومتطرفة دارت بين بعض القوميين الاجتماعيين في ما يتعلق بنشاطات تسبق يوم الثامن من تموز وترافقه... كالمسير والمواكبة والسهر عند العرزال وغيرها!

أما وقد قالوا ما يريدون قوله، وكتبوا ما يعتقدون بصحته، وغادر معظمنا أجواء الجريمة التاريخية حتى حلول السنة المقبلة... فها أنا أسجّل فكرتي التي لا أقصد بها شخصاً معيناً أو نشاطاً محدداً، بل هي مرويات تاريخية تضيء على ممارسات القوميين في زمن ليس بعيداً عنا.

كان ذلك في تموز سنة 1971 أو 1972، ونحن في منفذية الضاحية الشرقية نستعد للاحتفال بذكرى استشهاد سعاده. أخبرني عمي الرفيق حسن (الشهيد في النبعة سنة 1976) أن مجموعة من الوحدات الحزبية في نطاق منفذية الضاحية الشرقية تبنّت، في خمسينات القرن الماضي، مبادرة ذاتية تقوم على أن يتوقف كل رفيق مُدّخن (وغالبيتهم من المدخنين آنذاك) عن التدخين على مدار العام، كل يوم جمعة، وهو اليوم الذي أعدم فيه سعاده، على أن يقدّم كل رفيق إلى صندوق المديرية ثمن السجائر التي لم يستهلكها.

وأضاف عمي يقول إن هذا التقليد كان مستمراً في مديريات الضاحية الشرقية عندما تقرر أن يغادر هو إلى الكويت لأسباب حزبية. وأكد على أن الالتزام بالمبادرة كان شاملاً، وحسب معلوماته، فإن وحدات حزبية أخرى تبنت هذا التقليد. وختم حديثه بالقول: "لا شك عندي في أن هذا التقليد كان يمكن أن ينتشر في كل وحدات الحزب لولا أن فشل الانقلاب دمّر متحدات القوميين الاجتماعيين"!

يومها لم يكن عندي من التجارب ما يسمح لي بطرح الأسئلة. وما حاولت الاستفسار عمّا إذا كانت تلك المبادرة محلية فقط أم مركزية. لكن مع التقدم في العمر، وتراكم الخبرات، والاهتمام بتاريخ الحزب... صارت الأسئلة تطفو على سطح الذاكرة بين حين وآخر. وأهم سؤال بالنسبة لي: لماذا التزم الرفقاء بهذا التقليد، أي عدم التدخين كل يوم جمعة من كل أسبوع على مدى أعوام؟ هل هدفوا إلى خلق عادات وتقاليد جديدة في الحزب، علماً بأن غالبيتهم العظمى من ممزقي الثياب الخارجين من صفوف العمال والفلاحين وعامة الشعب؟

رفقاؤنا في الضاحية الشرقية هم، تاريخياً، من الكادحين والعمال المياومين. لا يحملون الشهادات الجامعية العليا، ولا يوجد بينهم متبحرون في شرح الديموقراطية التعبيرية أو التمثيلية، وهم غير ضليعين في فهم المدرحية وعلاقتها بالرواقية، ولم يسمعوا بعلم الإدارة والتخطيط، وليس عندهم القدرة على مناقشة المواد الدستورية والمراسيم والقوانين... إلخ.

هؤلاء أعضاء في الحزب، إقتنعوا وآمنوا وأقسموا والتزموا وصدقوا في ممارساتهم. الثامن من تموز، بالنسبة إليهم، حدث جلل وجريمة موصوفة وظلم تاريخي. يُحزنهم أنهم ما كانوا هناك لرد كيد القتلة. ويتمنون لو أن الكاهن الذي عرّفه استطاع إخفاءه في ردائه أو في شغاف قلبه!

أفكار كثيرة وأمنيات صعبة، لكنها تبقى غصة في القلوب.

هيهات... هيهات، فإن الزمن لا يعود إلى الوراء.

غير أنهم، كما تفعل كل الأمم الحية، يخلقون تقاليدهم وعاداتهم لتصبح منارة تضيء طريق المستقبل، بقدر ما هي درس تاريخي مؤلم. لا تضارب زمنياً، وإنما صيرورة دائمة. لا صنمية ولا تحجر ولا تهرب... بل تقاليد تصبح صفات تميّز الجماعة القومية عن غيرها.

كل مؤسسة، صغيرة كانت أم كبيرة، تستخرج تقاليدها من تاريخها. وفي بعض الأحيان تبالغ في تضخيم أحداثها الكبرى، وقد تخترعها من اللاشيء. ولذلك فإن التقاليد الراسخة، التي يحدث إجماع حولها، وتخاطب وجدان الجماعة وطموحاتها... هذه التقاليد، في ذروة صفائها الاجتماعي، تصبح جزءاً أساسياً من الهوية.

العادات والتقاليد كائنات حيّة، تخضع لسنن الحياة من تطور ونمو وشيخوخة وموت. لا يملك فردٌ أو جماعةٌ القدرة على إلغائها، فهي حالة مستمرة طالما أنها تلامس الوجدان القومي. وتموز، بالنسبة إلى القوميين الاجتماعيين، فعل قيامة وتجدد... حيث البطولة المؤيدة بصحة العقيدة تخلق الإنسان الجديد المنتصر، حكماً، على الموت والفناء.