سعاده لم يرم إلى إنشاء حزب سياسي فئوي أو طائفي أو كياني، بل إلى حزب قومي عقائدي يخص الأمة السورية كلها بمعنى أن قضيته هي قضية قومية كلية شاملة لكل أبناء الأمة وحياتهم بجميع وجوهها ومقاصدها العظمى، لذلك يعّرفه سعاده بأنه "فكرة وحركة تتناولان حياة أمة بأسرها".[1]
وسعاده لم يرم بأن يكون حزبه كتلة عقائدية متحجرة غرضها التحجر الفكري والتبجح بالكلام وترديد الأقوال وتقديم النظريات المجردة في الحياة فهو في هذا الخصوص يقول: "إن خطط الحزب السوري القومي الإجتماعي كما هي في فكر الزعيم وتخطيطه وتوجيهه وعمله لم ترم قط إلى إنشاء كتلة عقائدية متحجرة، بل إلى منظمة عقائدية تفعل إدارة وسياسة وحرباً لتحقيق غايته".[2]
إذاً، سعاده أراد حزبه منظمة عقائدية فاعلة، منظمة صراعية مرتكزة على عقيدة أخلاقية جديدة هي العقيدة القومية الإجتماعية الشاملة للمبادىء الفلسفية المتمحورة حول حياة الأمة وهويتها وقضيتها ومصالحها. هذه المبادىء ليست خطة سياسية يمكن العمل بها او التخلي عنها وهي ليست أفكاراً مجردة أو "صوراً جميلة على الورق، بل قوة فاعلة في الحياة"[3] غايتها وحدتنا وحريتنا وإستقلالنا وسيادتنا على أنفسنا وتحسين حياتنا والسير بنا إلى حياة العز والتقدم والفلاح. فهي، بإختصار، تشكّل عقيدة للنهوض القومي والإصلاح الحقيقي في المجتمع وترمي "لإعادة النبوغ السوري إلى عمله في إصلاح المجتمع الإنساني وترقيته."[4] لذلك يقول سعاده "إن في المبدأ السوري القومي الإجتماعي إنقاذاً لا يقتصر على سورية بل يتناول وضعية المجتمع الإنساني كله، ونهضتنا لا تعبر عن حاجاتنا نحن فقط بل عن حاجات إنسانية عامة."[5]
لقد شدّد سعاده منذ التأسيس على أهمية العقيدة وعلى وجوب دراستها وتعليمها وترسيخها في الحزب وتعميمها في أوساط الشعب وغرسها في النفوس لأنها هي الحقيقة الأساسية التي منها ننطلق وفي سبيلها نجاهد وبها تخلد نفوسنا وهي "الأساس الذي نبني عليه كل منشآتنا والمرجع لكل خططنا"[6]. وفي محاضرته التي ألقاها في مؤتمر المدرسّين القوميين الإجتماعيين، شدّد سعاده على "قضية التربية والتثقيف" بالمبادىء الجديدة وأوضح "أن أول خطوة كان يجب على الحركة السورية القومية الإجتماعية القيام بها لتتقدم، هي تعليم العقيدة السورية القومية الإجتماعية والغاية الرامية إليها، "لأنها هي الحقيقة الأساسية التي بها نوجد شعباً وأمة ولها نعمل. كل عمل آخر من سياسة وتنظيم لا فائدة منه بدونها ولا يجدي القيام به إن لم يكن متفرعاً عنها وعائداً إليها. إنها محور الحياة والفكر الأساسي، فكل عمل يجب أن يدور عليها.."[7]
حزب المؤسسات: وعلى أساس العقيدة القومية الإجتماعية الراسخ شيَّدَ سعاده تنظيم حزبه فجاء بالمؤسسات القومية الجديدة الصالحة والمرتبطة بمبادىء الحزب وغايته لتحل محل المؤسسات التقليدية العتيقة القائمة في المجتمع السوري مشدداً على ان وجود هذه المؤسسات القومية لا معنى له بدون إرتباطها بفكر الحزب وبقضيته القومية. فالمؤسسات بلا قضية تخدمها لا فائدة منها. ولقد أوضح سعاده ان أهم عمل أساسي قام به بعد تأسيس القضية القومية كان "إيجاد المؤسسات الصالحة لحمل مبادىء الحياة الجديدة وحفظ مطاليبها العليا وخططها الأساسية"[8]. وبذات المعنى قال: "إن إنشاء المؤسسات ووضع التشريع هو أعظم أعمالي بعد تأسيس القضية القومية لأن المؤسسات هي التي تحفظ وحدة الإتجاه ووحدة العمل وهي الضامن الوحيد لإستمرار السياسة والإستفادة من الإختبارات."[9] ومن خلال شروحات سعاده في مناسبات عديدة يمكننا أن نستنتج الوظائف التالية للمؤسسات القومية الصالحة القادرة على إدارة العمل القومي:
أولاً، هي مؤسسات َيقِظَة وقادرة على الخلقِ والإبداعِ، مؤسسات توثّق المصالح القومية الإجتماعية والسياسية والإقتصادية والمالية وغيرها وتوحّدها وتصونها وتبتدع الخطط والقواعد العلمية لزيادة إنتاجها وتوسيعها وتطويرها في خدمة مصلحة الأمة التي هي على أساس كل نظام وتنظيم.[10]
ثانياً، هي المؤسسات المنظمة التي تعتمد قاعدة النظام وتوحّد جهود العاملين للقضية القومية الإجتماعية وتقضي على الفساد والفاسدين والعوامل الشخصية-الأنانية التي تسعى لتسخير هذه الجهود لمطامعها ومصالحها الخصوصية. يقول سعاده في خطابه في الأول من آذار عام 1938: "أنني لو تركت الفساد يستمر مندمجاً مع الصلاح والجدارة لما كان نمو الحزب سوى تضخم لا يلبث ان ينتهي إلى التفسخ والتفكك. ان عملية تنقية الحزب السوري القومي من العناصر الفاسدة غير الصالحة لحمل الرسالة القومية المجددة ابتدأت مع ابتداء الحزب ويجب ان تستمر ليكون الحزب متيناً جديراً بحمل أعباء النهضة القومية".[11]
ثالثاً، هي مؤسسات متخصصة ومختبرية تسيّرها قيادات وأجهزة صالحة وواعية وفاعلة ومتسلحة بالعلم والمعرفة والإختصاص في الإدارة والإذاعة والإعلام وفي السياسة والإقتصاد والتربية والقانون والثقافة والفنون وفي مختلف المجالات والحقول، قيادات وأجهزة تسترشد بالعقل والمنطق في تفكيرها وتعتمد المناهج والقواعد العلمية في أعمالها وأساليبها وتلجأ للبحوث والإحصاءات وحفظ المعلومات المنظمة واسترجاعها وتنكّبُّ على الدرس والتأمل والتفحص والإستقراء والإستنتاج وعمليات التقييم والمراجعة والنقد الذاتي بغاية:
ورابعاً، هي مؤسسات ديمقراطية تكفلُ ممارسة الحقوق والواجبات الديمقراطية وتعمل على تطبيقها في جميع مستويات التنظيم الحزبي وُتشجِّعُ الأعضاء على المشاركة الفعّالة والإيجابية في حياة حزبهم وفي مناقشة شؤونه وتوفّرُ الفرص لتفاعل الآراء والأفكار داخل الحزب وأطره. وهي المؤسسات التي تسهرُ على الإنضباطية المتينة المقرونة بالوعي التي تمنع الميوعة والفوضى وعدم الإلتزام والتي تزيد التنظيم قوة وصلابة وقدرة على الإبداع. وهي المؤسسات التي تحارب البلبلة والفردية والفئوية والتكتلات الداخلية المدّمرة وتمنع التضارب والخصومات والمنافسات والمماحكات والفوضى وتضمن التوافق والتعاون والتلاحم وتحفظ وحدة الإتجاه والإرادة ووحدة العمل في سبيل الغاية القومية السامية.
والحزب الذي أراده سعاده هو حزب القتال والرفض للأمر الواقع وللمشاريع الإستسلامية ولحياة الذل والخنوع والإستسلام، حزب الخطة النظامية الدقيقة التي تبني على أسس راسخة متينة وتعدّ العدة لمواجهة الأعداء والغزاة الطامعين.
والحزب الذي أراده سعاده هو حزب الصراع في الحياة، الصراع بين فكر جديد وحياة جديدة وجهتهما ذروة الشرف والمجد وفكر قديم وحياة قديمة وجهتهما حضيض اللؤم والذل. ألم يصف سعاده حزبه بأنه حركة صراع قائلاً: "لو لم نكن حركة صراع لما كنا حركة على الاطلاق، لا تكون الحياة بلا صراع"؟[12]
والحزب الذي أراده سعاده هو حركة هجومية دائمة لا تهدأ ولا تتعب، حركة تهاجم الإقطاعيين والرأسماليين الجشعين وتجار الدين والسياسة وكل الأوضاع الفاسدة والمثالب الإجتماعية والروحية والسياسية التي بسببها بقي الشعب في الوضع المؤسف المحزن الموجود فيه."[13] ألم يقل سعاده "نحن حركة هجومية لا حركة دفاعية. نهاجم بالفكر والروح، ونهاجم بالأعمال والأفعال أيضاً."؟[14]
والحزب الذي أراده سعاده هو الحزب المنقذ الذي يسعى لتحسين حياة الشعب بكل فئاته، حياة الفقراء والمحرومين والفلاحين والعمال الكادحين وكل الشرائح الإجتماعية المقهورة والمغلوب على أمرها نتيجة أنظمة القهر والإستعباد والإستغلال.. حزب لا يساوم على حقوق الشعب ومصالحه بل يتألم لآلامه وأوجاعه ويتحسّس همومه ومآسيه ويعبّر عن حاجاته ومصالحه ويعمل لتحقيق آماله وأحلامه بحياة حرة وكريمة... حزب يكسب إرادة الشعب وتأييده ويستقطب الطلاب والمفكرين والمثقفين والمبدعين من أدباء وشعراء وفنانين.. حزب يتعهد أجيال النصر الآتي ويشكّل مدرسة راقية في الفكر والأخلاق والنضال.. حزب يفجّر النشاط الفكري والثقافي والفني في البلاد ويقود الأمة لمواجهة أعدائها الغزاة ولتحقيق حياة العز والفلاح.
والحزب الذي أراده سعاده هو حزب الثورة الواعية المتواصلة، ثورة الهدم والبناء، ثورة مبادىء الحياة الجديدة على الظلم والجهل والتخلف والحقد والتقاليد البالية والأوضاع المزرية والإستغلال الإجتماعي والإنحطاط الأخلاقي والأمراض الإجتماعية والإنقسامات السياسية والطائفية والعشائرية والعائلية، ثورة تنسف الأباطيل والأكاذيب وتهدم جدران التجزئة السياسية والتفسخ الروحي والتناحر الطائفي.. ولكنها ثورة واعية تعتمد الروية في القتال لأنها ثورة العقل المدرك والناظر في المعطيات والظروف الموضوعية، ثورة مسؤولة لا تهدم لأنها تحب الهدم والتدمير بل تهدم وتميز في ما تهدم لكي تبني بوعي وتخطيط.. وهي لا تبني بتسرع طائش وإعتباطية عمياء بل بتأنِ وحكمة، تبني على أسس راسخة ثابتة عن طريق التأسيس الصحيح، طريق بناء الإنسان الجديد وتربيته على قاعدة الوجدان القومي الذي يشكّل الروح الجديدة المنبثقة من تعاليم النهضة القومية، روح الأخلاق الجديدة، أخلاق الحياة والحرية والصراع، أخلاق الثقة بالنفس والبطولة والإيمان، أخلاق العطاء والتضحية والفداء. هذه الأخلاق الجديدة للإنسان القومي الجديد تشكّل ركيزة أساسية متينة لبنيان الحزب وتعتبر رأسماله الكبير وسلاحه الأمضى وبدونها لا يمكن لهذا الحزب ان يحقق غايته النبيلة ولن يحصد إلا الإخفاق وخيبة الأمل.
[1] أنطون سعاده، المحاضرات العشر 1948 (سلسلة النظام الجديد 2)، منشورات عمدة الثقافة في الحزب السوري القومي الإجتماعي، بيروت 1976، ص 30.
[2] راجع رسالة الزعيم إلى غسان تويني بتاريخ 9 تموز 1946 منشورة في "أنطون سعاده في مغتربه القسري 1946" (الآثار الكاملة -13)، مؤسسة فكر للأبحاث والنشر، بيروت 1984، ص 314.
[3] المرجع ذاته، ص 36.
[4] سعاده في أول آذار 1956، ص 58.
[5] المرجع ذاته، ص 59.
[6] سعاده في أول آذار 1956، ص 31.
[7] انظر سعاده في محاضرته في مؤتمر المعلمين: توجيه المدرسين النظام الجديد، بيروت، عدد تموز 1948. راجع أيضاً سعاده، شروح في العقيدة، بيروت 1958، ص 150-151.
[8] سعاده في أول آذار 1956، ص 47.
[9] المرجع ذاته، ص 48.
[10] أنطون سعاده 1932-1936، الآثار الكاملة- الجزء الثاني، منشورات عمدة الثقافة في الحزب السوري القومي الإجتماعي، طبعة أولى، بيروت 1976، ص 242-243.
[11] سعاده في أول آذار 1956، ص 35.
[12] سعاده في أول آذار 1956، ص 99.
[13] المحاضرات العشر، ص 24.
[14] المرجع ذاته، ص 167.