نشر سعادة دعوته القومية في مجتمع تسوده العصبيات الطائفية والمذهبية والعشائرية والعائلية وتسيطر فيه الأنانيات الفردية والأحقاد، ولا مؤسسات اجتماعية لديه غير المؤسسات الطائفية والعائلية، ويجهل كليا المسائل القومية.
واجهت رسالته صعوبات متنوعة ومحاربات من جهات داخلية وخارجية. لذلك وجد سعادة الحاجة إلى معالجة الموضوع الاجتماعي على أساس علمي فوضع كتابا في علم الاجتماع: "يوضح الواقع الاجتماعي والقضايا الاجتماعية، وكيف نشأت الأمم من تطور الاجتماع الإنساني فيكون الحد الفاصل بين الخلط والهذر وبين الكلام الجدي المبني على المعرفة." (سعادة، المجلد 3، 2001، صفحة 453)
لم يستند سعادة في هذا الكتاب إلى نظريات فلسفية اجتماعية أو تاريخية، استند فقط إلى الحقائق العلمية المثبتة التي توصلت إليها العلوم الاجتماعية: علم اجتماع، اتنولوجية وأنتروبولوجية وجغرافية وتاريخ.
استخدم في هذا الكتاب مصطلحات اجتماعية كانت جديدة على اللغة العربية، مثل الواقع الاجتماعي والمتحد والوجدان القومي والمناقب وغيرها.
يقول عن الكتاب أنه كتاب علمي يشرح فيه نشأة النوع الإنساني والاجتماع البشري وتطوراته، حتى عصر الأمم الحاضر فيرى القارئ أسرار الاجتماع الإنساني منكشفة لعينيه، ويدرك حقيقة المسائل الاجتماعية وماهية الأمة وكيفية نشوء هذه الشخصية الاجتماعية. (سعادة، المجلد 3، 2001، صفحة 454)
ويقارن بين فلسفة زينون الرواقي ورسالته القومية ويعتبر دعوته: "إلى مبدأ الواقع الاجتماعي في الأمة تخلصاً من فوضى الاعتباطية العقائدية هي في جوهرها أشبه بعودة زينون إلى مبدأ الناموس الطبيعي." (سعادة، المجلد 4، 2001، صفحة 12)
"أقرَّ زينون نسبية التقاليد الاجتماعية والقوانين الوضعية واعترف بعدم صلاحيتها لمماشاة سير الحضارة. وأعلن أنّ هنالك ناموساً طبيعياً يتمثل في الشرائع الوضعية والتقاليد بمقدار ما فيها من الخير والصلاح ولكنه يتعداها، وأنّ هذا الناموس الطبيعي يمكن اكتشافه بواسطة الفكر ويمكن الاستفادة منه، متى عُرف، لنقد الأوضاع وإصلاحها. إنّ هذه النظرة الفلسفية الموجبة قضت على وثنية التقاليد وأحلت محلها حكم الفكر المتحرر. إنّ جميع الأنظمة البشرية يجب أن تخضع لناموس الطبيعة الذي هو أيضاً تشريع الفكر." (سعادة، المجلد 4، 2001، صفحة 10)
فما هو الواقع الاجتماعي وهل هو موضوع ثابت ويمكن دراسته وما هي عوامله وهل يمكن تعميم هذا المصطلح على كل المجتمعات الإنسانية؟
وما هو الوجدان القومي وما علاقته بالواقع الاجتماعي؟
ولماذا ربط سعادة بين الارتقاء إلى مرتبة الوجدان القومي الثقافية وضرورة فهم ودراسة الواقع الاجتماعي؟
وما علاقة مصطلح الوجدان القومي بمفهوم الكلية ومفهوم الفردية هذين المفهومين اللذين انقسمت بينهما معظم التيارات السوسيولوجية؟
الواقع الاجتماعي
الواقع هو عكس الخيال هو أمر موجود يمكن رؤيته وفهمه وهو اجتماعي بطبيعة وجوده لأن:
"الاجتماع صفة ملازمة للإنسان في جميع أجناسه، إذ إنّنا حيثما وجدنا الإنسان وفي أيّة درجة من الانحطاط أو الارتقاء وجدناه، وجدناه في حالة اجتماعيّة. وهكذا نرى أن المجتمع هو الحالة والمكان الطّبيعيّان للإنسان الضّرورّيان لحياته وارتقائها. والاجتماع الإنسانيّ قديم قدم الإنسانيّة، بل إنّنا نرجّح أنّه أقدم منها وأنّه صفةً موروثة فيها" (سعادة، المجلد 3، 2001، صفحة 37)
والواقع الاجتماعي ليس مطلقا في العالم فهو مرتبط بحدود تفاعل الجماعة الإنسانية واشتراكها في الحياة الواحدة بدءا من المتحد الصغير متحد القرية إلى متحد المدينة إلى البيئة الاجتماعية الواحدة التي تحتضن تشابك هذه المتحدات في دورة حياة واحدة في بيئة جغرافية متميزة عن غيرها من البيئات.
والواقع الاجتماعي ذاته يتطور حسب المرتبة الثقافية التي يصل إليها.
المراتب الثقافية
يعتبر سعادة أن الزراعة هي أساس الثقافة العمرانية ويقسمها إلى ثلاث مراتب:
أولاً: ثقافة المعزق
ثانياً: أ ــــ ثقافة المحراث ب ــــ ثقافة البستان.
ثالثاً: ثقافة الإنتاج التّجاريّ = زراعة المحاصيل وإنشاء الصّناعات وإعداد الحاجيّات والكماليّات.
والمرتبتان الأوليان هما إفراديّتان وعائليّتان ترميان في الدّرجة الأولى، أو هما تنتهيان، إلى كفاية الفرد أو العائلة ولكنّهما تستدعيان اهتمام الفرد أو العائلة الدائم.
والمرتبة الثّانية هي التي بلغتها الشّعوب الساميّة منذ أقدم عصورها المعروفة وهي المرتبة التي تحاول سورية الآن الخروج منها إلى المرتبة الثّالثة (سعادة ، الأعمال الكاملة 3، 2001، صفحة 53)
تأتي أخيراً المرتبة الثّالثة، ثقافة الإنتاج التّجاريّ، وهي الثّقافة القائمة على زراعة المحاصيل الكبيرة وإنشاء الصّناعات الكبرى. وهذه هي مرتبة التمدّن الحديث الّتي أخرجتها من المرتبة الثّانية التّجارة الّتي ولّدت الأساس النّقديّ والرأسماليّ وحوّلت عمليّة المبادلة الأوّلية، إلى تجارة أنترنسيونيّة وأكسبت الحاجة إلى الآلة المحقّقة الأغراض معنى اقتصادياً عالياً وجعلت الآلة من أهمّ عوامل ترقية هذه الثّقافة.
فنشأ عن ذلك التّخصّص الرّاقي الّذي هو أبرز ميزة في حياة المجتمع المتمدّن الاجتماعية وأرقى مرتبة في مراتب الاقتصاد الاجتماعيّ وأفعل أسلوب للحصول على أكبر نتيجة من مبدأ التّعاون. (سعادة ، الأعمال الكاملة 3، 2001، صفحة 55)
الواقع الاجتماعي يتطور حسب المرتبة الثقافية، لذلك نجد الروابط العائلية وامتدادها في الروابط العشائرية والطائفية والعصبيات المستندة إليها تنتشرفي المراتب الثقافية السابقة لمرتبة التمدن العصري وظهور الوجدان القومي.
في مقدمة كتاب نشوء الأمم يتحدث سعادة عن مرتبة ثقافية جديدة يسميها مرتبة الوجدان القومي الشعور بشخصية الجماعة الوصول إلى هذه المرتبة يتطلب فهم الواقع الاجتماعي في أطواره وظروفه وطبيعته والعلاقات الناتجة عنه. قد نحدد الواقع الاجتماعي في بيئة معينة ومساحة محددة ولكنه يتغير وفق المرتبة الثقافية.
في هذه المرتبة يشدّد سعادة على أهمية وضرورة دراسة الواقع الاجتماعي في أطواره أي في المراحل الثقافية التي يمر بها وفي ظروفه وفي طبيعة العلاقات الناتجة عنه
ويقول: "وهي هذه العلاقات الّتي تعيّن مقدار حيويّة الجماعة ومؤهّلاتها للبقاء والارتقاء، فبقاؤها غامضةً يوجد صعوبات كثيرةً تؤدّي إلى إساءة الفهم وتقوية عوامل التّصادم في المجتمع فيعرقل بعضه بعضاً ويضيّع جزءاً غير يسير من فاعليّة وحدته الحيويّة ويضعف فيه التّنّبه لمصالحه وما يحيط بها من أخطار من الخارج. وإنّ درساً من هذا النّوع يوضح الواقع الاجتماعيّ الإنسانيّ في أطواره وظروفه وطبيعته ضروريّ لكلّ مجتمع يريد أن يحيا. ففي الدّرس تفهّم صحيح لحقائق الحياة الاجتماعيّة ومجاريها. ولا تخلو أمّة من الدّروس الاجتماعيّة العلميّة إلا وتقع في فوضى العقائد وبلبلة الأفكار." (سعادة، المجلد 3، 2001، صفحة 5)
تعريف سعادة للواقع الاجتماعي:
ينطلق سعادة من تحديد المتحد ومفهوم الاشتراك في الحياة الواحدة والمصالح الدائمة وبيئة الاجتماع وترابط المتحدات الاجتماعية في دورة حياة واحدة
المتحد والاشتراك في الحياة الواحدة ضمن مساحة محددة ومتميزة عن غيرها
ينظر سعادة الى كل متحد بأنه واقع اجتماعي، وبالتعريف يطابق بين المتحد والواقع الاجتماعي
المتّحد هو كلّ مساحة تشتمل على حياة مشتركة وتكون متميّزةً عن المساحات الأخرى تميّزاً لا تصحّ بدونه تسمية المتّحد. فالقرية متّحد، والمدينة متّحد، والمنطقة متّحد، والقطر متّحد، ولكلّ متّحد خصائص تميّزه عمّا سواه ممّا هو أصغر منه أو أوسع منه، أقلّ منه أو أكثر منه.
فإنّ شرط المتّحد ليس أن يكون مجموعاً عدديّاً بل مجموعاً متّحداً في الحياة الاشتراك في الحياة الواحدة، فمتّحد المدينة والمنطقة واقع اجتماعيّ وكذلك متّحد القطر. المتحد هو دائماً أمر واقع اجتماعيّ. (سعادة، المجلد 3، 2001، الصفحات 121-123)
المصالح العامة الدائمة
المصلحة والإرادة هما قطبا المجتمع فواحدها سلبيّ وهو المصلحة والآخر إيجابي وهو الإرادة، المصلحة هي الّتي تقرّر العلاقات جميعها والإرادة هي الّتي تحقّقها.
نعني بالمصلحة كلّ ما يولّد أو يسبّب عملاً اجتماعيّا وبناءً على هذا التّعريف يمكننا أن نقول إنّ رابطة المتّحد هي رابطه المصلحة، فالمصلحة وراء كلّ متّحد. وكلّما نمت الحياة وازدادت ازدادت المصالح الّتي تولّد الاجتماع وقلّت المصالح المفرّقة. (سعادة، المجلد 3، 2001، صفحة 125)
إنّ المصالح، مبدئياً، صنفان: فهنالك المصالح المتشابهة أو الشّكليّة التي هي لكلّ فرد مثلما هي لكلّ فرد آخر. فهذه المصالح هي شكليّة أو متشابهة ولكنّها لا تقتضي اتّحاد من يريدونها أو إيجاد علاقة اجتماعيّة ثابتة فيما بينهم.
وهنالك المصلحة العامّة أو المشتركة الّتي يجمع عدد من النّاس على الاشتراك في تحقيقها لأنّها تشمل الكلّ، كمصلحة خير القرية أو المدينة أو القطر.
مصلحة المتّحد تظلّ قائمةً لأنّها دائمة (سعادة، المجلد 3، 2001، صفحة 126)
إذا كانت المصلحة الاقتصاديّة أساسيّةً في كلّ مجتمع فهو لأنّها تخدم كلّ مصلحة أخرى حيويّة أو نفسيّة. والمتّحدات جميعها تتماثل في أنّ لها مصالح حيويّةً ولكنّها تتفاوت في هذه المصالح وفي مصالح الحياة الجيّدة بالنّسبة إلى المرتبة الثّقافيّة والدّرجة الاقتصاديّة. (سعادة، المجلد 3، 2001، صفحة 127)
المصالح لا تتعدّد وتتعيّن إلا في المجتمعات الرّاقية وفي هذه المجتمعات تتحدّد المصالح وتولّد جمعيّات معيّنةً. والمصالح وجمعيّاتها تتميّز وتتنوّع بحيث تجعل وحدتها أتمّ وأوضح.
في المتّحد الرّاقي نجد المصالح جميعها تتنوّع وتتعيّن بتنوّعها، وتؤدّي إلى إنشاء جمعيات من كلّ نوع منها، تجمع كلّ جمعيّة الأفراد العاملين لمصلحتها (سعادة، المجلد 3، 2001، صفحة 128).
كلّما ارتقى المتّحد في ثقافتيه الماديّة والعقليّة ازدادت المصالح المعيّنة الّتي من شأنها ترقية الحياة الجيّدة وتجميلها. (سعادة، المجلد 3، 2001، صفحة 129)
أمة واحدة ـ مجتمع واحد. وحدة المجتمع هي قاعدة وحدة المصالح ووحدة المصالح هي وحدة الحياة. وعدم الوحدة الاجتماعية ينفي المصلحة العامة الواحدة التي لا يمكن التعويض عنها بأية ترضيات وقتية (سعادة، المجلد 8، 2001 ، صفحة 72)
الأمّة هي أتمّ متّحد. ولكن لا بدّ لنا من درس هذا المتّحد درساً خاصّاً به، لأنّه أوسع وأكثر تعقّداً من كلّ متّحد آخر. ومع أنّه ليس من الصّعب إيضاح الواقع الاجتماعيّ والحقائق الاجتماعيّة، فإنّ الأمّة كانت ولا تزال محور كثير من النّظريّات الّتي قد تبدو متعارضةً وأحياناً متناقضةً. والسّبب في ذلك أنّ الأمّة تنطوي على عنصر عامّ، بل حيويّ لها، مفقود من المتّحدات الأخرى، هو العنصر السّياسيّ. فالكلام على الأمّة يكاد لا يخلو من عصبيّة القوميّة أو الوطنيّة، أو من الأغراض السّياسيّة، وهو لذلك عرضة لاختلاف النّظريّات وتعدّد المذاهب فيه. (سعادة، المجلد 3، 2001، صفحة 130)
تحديد الأمّة قد يتعرّض للتّأثّر بعوامل العقائد والأغراض قبل أن تنجلي في الذّهن حقيقة الواقع الاجتماعيّ. فالأمّة الفرنسيّة التي بقيت هي هي كانت أوّلاً نسباً بعيداً ثمّ سلالةً ثمّ أصبحت وطناً. (سعادة، المجلد 3، 2001، صفحة 132)
الأمّة واقع اجتماعيّ بحت. ودرس الأمم ونشوئها هو درس اجتماعيّ، لا درس سياسيّ، وإن كان لا غنى للعلم السّياسيّ عن درس الأمّة والقوميّة لأهميتهما في النّظريّات السّياسيّة وفعلهما في تغيير مجرى الشّؤون السّياسيّة وإصلاح المعتقدات والمبادئ السّياسيّة.
وإذا كانت الأمّة واقعاً اجتماعيّاً، وإنّها لكذلك، فما تحديد هذا الواقع الاجتماعيّ وما أسبابه وخصائصه ومميّزاته؟ وما هي روحيّته أو عصبيّته، الّتي نسميّها القوميّة (2) وكيف نفهمه؟ (سعادة، المجلد 3، 2001، صفحة 119)
الفكر القومي عند سعادة يرتبط بالواقع الاجتماعي، أي بالمجتمع وأي فكرة قومية لا ترتبط بالواقع الاجتماعي بل بتأويلات سلالية أو لغوية أو دينية لا قيمة لها
"كل فكرة قومية بلا أساس من وطن يخرج الأمة عن وضع واقعها الاجتماعي، فالتأويلات السلالية القائلة مثلاً إننا عرب لأن قسماً منا أتى من العرب، أو إننا فينيقيون أو كنعانيون لأن قسماً منا تحدر أو انتسب إلى الفينيقيين الكنعانيين، أو إننا آشوريون فقط، هي تأويلات مخالفة لواقع المجتمع" (سعادة، المجلد 8، 2001 ، صفحة 43)
بيئة الاجتماع
بيئة الاجتماع هي ترابط المتحدات الصغرى والكبرى في بيئة جغرافية واحدة، وتشكّل الوحدات الكبرى كتلا مغنطيسية تجذب ما حواليها، وتؤلّف دورة عمرانية حياتية واحدة متميزة عن البيئات الاجتماعية الأخرى. (سعادة، المجلد 3، 2001، صفحة 137)
أما بالنسبة إلى الحدود فهي كما يقول سعادة: " ليست من التّمام بحيث تفصل فصلاً تاماً، بين أيّ قطر وكلّ قطر، بين أيّ متّحد وكلّ متّحد.
ولكنّ الحدود تقلّل الاتّصال، سواء أكان سلميّاً أم حربياً، وتصعّب التداخل والاختلاط الاجتماعيّين مع الخارج بقدر ما تسهّل اشتباك الجماعات في الدّاخل واتّحادها. فالبيئة المحدّدة هي البوتقة الّتي تصهر حياة هذه الجماعات وتمزجها مزجاً يكسبها شخصيّةً خاصّةً، وهي الّتي توجد الإمكانيات لنشوء المراكز العمرانيّة الّتي تتألّب عليها قوّات المجتمع ويحتشد فيها نتاجه الثّقافيّ، فتتكوّن البيئة الاجتماعيّة الّتي تصبح ذات مناعة تكمل ما نقص من الحدود الطّبيعيّة. والحقيقة أنّ البيئة من حيث هي مركز الاجتماع والتّكتّل هي أهمّ من الحدود لتكوّن البيئة الاجتماعيّة ولكنّ الحدود الطّبيعيّة ضروريّة لوقاية المجتمع وحماية نموّه حتّى يستكمل قوّته الشّخصيّة. فبعض الأمم جنت عليها قلّة حدودها الطّبيعيّة أو رخاوتها وطلاقتها كبولونيا، وأرمينيا وإلى درجة أقلّ الإغريق والأراضي السّفلى (هولندا) وبلجيكا. وكذلك سورية فقد جنت عليها كثيراً طلاقة تخومها من جهة الصّحراء، فالصّحراء حدّ للبيئة السّوريّة يقف عنده عمرانها وتمدّنها وثقافتها ولكنّها لم تكن حداً للقبائل المتحيّنة الفرص للاستيلاء على أرض آمن من الصّحراء وأضمن للعيش منها، والاستقرار فيها. (سعادة، المجلد 3، 2001، صفحة 136)
عوامل الواقع الاجتماعي
في معرض المقارنة بين الرابطة الدينية والرابطة القومية يشير سعادة إلى العوامل التي توجد الواقع الاجتماعي وتتكفل بحفظه، فيقول: "الرابطة الدينية لها قيمة فعلية في الشؤون الدينية البحتة فقط، أما في شؤون الحياة الاجتماعية ــــ الاقتصادية وتقدم الأمم، الرابطة القومية هي الرابطة الوحيدة التي تكفل حرية الأمم وحقوقها، وتجهزها بجميع وسائل الفلاح. وحيث تخيب الرابطة القومية لا يمكن أن تصيب الرابطة الدينية، لأن الرابطة الدينية تهمل الجغرافية والتاريخ والسلالة والاجتماع والاقتصاد والنفسية الاجتماعية، أي جميع العوامل التي توجد الواقع الاجتماعي وتتكفل بحفظه."
(سعادة، المجلد 5، 2001 ، صفحة 239)
"اختلاف الأجناس والعقليات والبيئات لا يمكن أن يزول بوحدة الدين أو بوحدة الشرع، لأنه من طبيعة الواقع الاجتماعي." (سعادة، المجلد 5، 2001 ، صفحة 245)
العروبة التي تهمل المبادئ الجغرافية والإقليمية والسلالية والتاريخية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية الاجتماعية، أي جميع العوامل التي توجد الواقع الاجتماعي وتتكفل بحفظه (سعادة، المجلد 5، 2001 ، صفحة 247)
يؤكّد سعادة على عقم التوفيق بين حزبية الدين والواقع الاجتماعي، وكذلك على التضارب الجوهري بين مبادئ «الجنسية الدينية» ومبادئ «الجنسية الاجتماعية» والعمل بمبدأ «الجنسية الدينية»، لا يتفق مع الواقع الاجتماعي. (سعادة، المجلد 5، 2001 ، صفحة 150و161)
الواقع الاجتماعي الأمة
"إنّ سورية الطبيعية تشمل جميع هذه المناطق التي تكوّن وحدة جغرافية ـ زراعية ـ اقتصادية ـ استراتيجية، لا يمكن قيام قضيتها القومية الاجتماعية بدون اكتمالها". (سعادة، المجلد 8، 2001 ، صفحة 66)
إنّ وحدة الأمة والوطن تجعلنا نتجه نحو فهم الواقع الاجتماعي الذي هو الأمة بدلاً من الضلال وراء أشكال المنطق الصرف وتراكيب الكلام. (سعادة، المجلد 8، 2001 ، صفحة 43)
المجتمع يصير أمة حية عندما يدرك وجودة ومصالحه، والمجتمع هو بيئة الاجتماع هو واقع اجتماعي. كل أمة هي في الأساس مجتمع واحد..
"إنّ العمل القومي معناه العمل لحقيقة وجود المجتمع الذي بإدراكه وجوده ومصالحه يصير أمة حية وتكون له قومية حية تعبّر عن رجولة وفاعلية قوية تسيّره إلى أهدافه. إنّ العمل الاجتماعي هو تعبير المجتمع عن وجوده وأهدافه وسيره إلى مقاصد حياته العليا. فأي مجتمع هو مجتمعنا. المجتمع لفظة لا يجوز فيها الالتباس والخطأ. هو بيئة الاجتماع، هو الجماعة المجتمعة، فحيث لا جماعة ولا بيئة لجماعة لا يكون هناك مجتمع، والأمة قبل كل شيء مجتمع. تصير أمة بوعيها لحقيقة مجتمعها ولخطط ومقاصد هذا المجتمع." (سعادة، المجلد 8، 2001 ، صفحة 420)
ويعتبر سعادة أن الثورة الفكرية السورية بدأت مع حملة عبد الرحمن الكواكبي في كتابه طبائع الاستبداد ودعوته إلى تدبير شؤون دنيانا بأنفسنا وترك الأديان تحكم في الآخرة فقط.
ويقول عن دعوة الكواكبي: "أحسبه قال أيضاً ما معناه، يجب أن نقرّ الواقع الاجتماعي، وأن لا ننظر إلا إلى الواقع الاجتماعي، ومن العار أن ننتحل صفة النيابة عن الله على الأرض. وكان يصر، رحمه الله على "أن نترك عمل الله لله، ولا نتدخل فيه" إذ إنّ لنا كياناً أرضياً يجب أن ننشئه. وإنّ لنا كياناً سورياً، ويجب أن نعترف بعجزنا عن إمكان الاهتمام بشؤون العالم قاطبة، لأننا نفتقر بعد إلى الوسائل المادية. كل ما علينا الآن هو أن نحدد لأمورنا النطاق، لكي نعمل، ولكي نعطي نتيجة، علينا أن نركز أمورنا على قواعد اجتماعية.
ويشير سعادة إلى الأخطار العديدة التي تهدد الكيان السوري، فبالحزبيات الدينية وتناحرنا بالحزبيات العشائرية لا نستطيع دفع الخطر اليهودي. وبهذه العقلية لا نستطيع أن نواجه الصعوبات العالمية، كما أنّ تفسخنا الداخلي مخيف. (سعادة، المجلد 8، 2001 ، صفحة 424)
والرد على الأخطار ومواجهة الصعوبات الداخلية والخارجية يكون:
"في الوحدة الاجتماعية تضمحل العصبيات المتنافرة والعلاقات السلبية وتنشأ العصبية القومية الصحيحة، التي تتكفل بإنهاض الأمة.
"في الوحدة الاجتماعية تزول الحزبيات الدينية وآثارها السيئة وتضمحل الأحقاد وتحل المحبة والتسامح القوميان محلها ويفسح المجال للتعاون الاقتصادي والشعور القومي الموحد وتنتفي مسهلات دخول الإرادات الأجنبية في شؤون أمتنا الداخلية.
"إنّ الاستقلال الصحيح والسيادة الحقيقية لا يتمان ويستمران إلا على أساس وحدة اجتماعية صحيحة. وعلى أساس هذه الوحدة فقط يمكن إنشاء دولة قومية صحيحة وتشريع قومي اجتماعي مدني صحيح، ففيه أساس عضوية الدولة الصحيحة وفيه يؤمن تساوي الحقوق لأبناء الأمة".
إنّ التساوي في الحقوق والتوحيد القضائي هما أمران ضروريان لنفسية صحيحة موحدة. فبدون هذا التساوي تظل العقليات المختلفة التي كوّنتها الشرائع المختلفة معضلة تمنع الأمة من الاضطلاع بقضاياها. فالمجتمعات المتعددة المستقلة بشرائعها وأنظمتها الحقوقية تجزىء الأمة وتمنعها من التقدم. (سعادة، المجلد 8، 2001 ، صفحة 73)
الوجدان القومي
يعرّف سعادة الوجدان القومي في مقدمة كتاب نشوء الأمم:
"إن الوجدان القومي هو أعظم ظاهرة اجتماعيّة في عصرنا، وهي الظّاهرة الّتي يصطبغ بها هذا العصر على هذه الدّرجة العالية من التّمدن. ولقد كان ظهور شخصيّة الفرد حادثاً عظيماً في ارتقاء النّفسيّة البشريّة وتطوّر الاجتماع الإنسانيّ. أمّا ظهور شخصيّة الجماعة فأعظم حوادث التّطوّر البشريّ شأناً وأبعدها نتيجة وأكثرها دقةً ولطافةً وأشدّها تعقّداً، إذ إنّ هذه الشّخصيّة مركّب اجتماعي ـــــ اقتصاديّ ـــــ نفسانيّ يتطلّب من الفرد أن يضيف إلى شعوره بشخصيّته شعوره بشخصيّة جماعته، أمّته، وأن يزيد على إحساسه بحاجاته إحساسه بحاجات مجتمعه وأن يجمع إلى فهمه نفسه فهمه نفسّية متّحده الاجتماعيّ وأن يربط مصالحه بمصالح قومه وأن يشعر مع ابن مجتمعه ويهتمّ به ويودّ خيره، كما يودّ الخير لنفسه." (سعادة، المجلد 3، 2001، صفحة المقدمة)
الوجدان القومي هو أعظم ظاهرة اجتماعية عصرية
ظهور شخصية الفرد كان حادثا عظيما في مسيرة تطور الاجتماع الإنساني
ظهور شخصية الجماعة (الأمة) هي أعظم حوادث التطور الإنساني
الوجدان القومي هو إضافة وإغناء لشخصية الفرد وليس إلغاء لها
الوجدان القومي هو إضافة الفرد إلى شعوره بشخصيته شعوره بشخصية أمته والإحساس بحاجات مجتمعه إضافة على إحساسه بحاجاته، وفهم نفسية متحده الاجتماعي إضافة إلى فهمه نفسه، وربط مصالحه بمصالح قومه، والشعور مع ابن مجتمعه والاهتمام به وحب الخير له كما يحبه لنفسه.
الوجدان القومي قاعدة أساسية للأخلاق والمناقب القومية، وهو أرفى مرتبة أخلاقية في السلوك والتصرف بين أفراد المجتمع وهو نقيض العصبيات المفككة والمدمّرة لوحدة المجتمع، وهو النقيض للنزعة الفردية التي يفوق خطرها خطر المطامع الأجنبية.
الشخصية الفردية
الاجتماع البشري
يظهر تتبع الاجتماع البشري أنه لا وجود للفرد خارج الجماعة، حتى في أقدم المراحل، والفرد كما يقول سعادة: "لا وجود له اقتصاديّاً ولا حقوقيّاً ولذلك فهو ليس بداءة الاجتماع ولا شأن له في تعيين الاجتماع وكيفيّته. ولا اختيار للفرد في الاجتماع والمجموع. فوجوده الأنانيّ في تلك الحالة الأوّلية لا يظهر إلا في التّمييز بينه وبين غيره في بعض العلاقات النّفسيّة (الذّهنيّة). إن هو إلا نقطة في موجة صغيرة لا يمكنك تعيينها، كيفيّةً وكميّةً، إلا إذا فصلتها عن جسمها." (سعادة ، الأعمال الكاملة 3، 2001، صفحة 75)
يعيد سعادة سبب غياب الشخصية الفردية في النظام الاجتماعيّ الابتدائي الذي يقوم على الرّابطة الدّمويّة، إلى فقد العمران ونقص المطالب الحاجيّة والكماليّة اللذين يبطلان المواهب الشّخصيّة وينفيان المزايا الفرديّة. وبالتالي لا حقوق شّخصيّة للفرد. (سعادة، المجلد 3، 2001، صفحة 47)
لكن يبقى الاجتماع الإنسانيّ متميّزا عن الاجتماع الحيواني، بظهور الفكر وباستعداد الفرد لبروز شخصيته، واكتساب الجماعة شخصيّتها الّتي تكوّنها من مؤهّلاتها الخاصّة وخصائص بيئتها. (سعادة ، الأعمال الكاملة 3، 2001، صفحة 40)
وبالنسبة للأقوام الآخذة بالفطرة فإنّ الفوارق الشّخصيّة فيها ليست معدومةً بالمرّة ذلك لأنّ المواهب الطّبيعيّة ليست عقليّةً فقط، بل فيزيائيّةً أيضاً. فتفوّق بعض أفراد العشيرة أو القبيلة في حروبه وغزواته يكسبه شخصيّةً بالنّسبة إلى حالة عشيرته أو قبيلته الاجتماعيّة (سعادة ، الأعمال الكاملة 3، 2001، صفحة 82)
مع نشوء المدن ونشاط التّجارة والاحتراف ونهضة الاختراعات، دخل التّمدّن في طور جديد زعزع مؤسّسات كثيرةً. فالتّجارة والاحتراف زعزعا النّظام الفرديّ والعائلة القائمة بأود نفسها. (سعادة ، الأعمال الكاملة 3، 2001، صفحة 110)
مراتب الغاية من الفردية
يعيّن سعادة مراتب الغاية مبتدئاً بالفردية والمادية التي كانت أول مرتبة من مراتب الغايات المدركة. وغايات الإنسان ترتقي وفاقاً لارتقاء نفسيته. فهو بعد أن يدرك قوت ساعته يفكر في تأمين استمرار حصول القوت له ليس فقط بالجمع والخزن، بل بالعمل والإنتاج كالزرع والحصاد. وبعد أن يؤمن هذه الناحية يرتقي إلى مرتبة أعلى يعمل عليها للغايات النفسية كالفضائل والفنون والآداب. وانتقل الزعيم من الغاية الإنسانية الفردية إلى الغاية المجموعية فأوضح ترابط الجماعة.
وميّز بين مراتب ارتقاء الإنسان من مرتبة الخضوع للعوامل البيولجية البحتة إلى مرتبة الشعور بالشخصية الفردية، ثم بالعائلة، ثم إلى مرتبة الشعور بشخصية الجماعة الكبرى ــــ الشعب، الأمة. وبيّن كيف أنّ هذه المرتبة هي التي تحفظ حياة الأمم وعليها تحقق الشعوب مثلها العليا وتكفل أكبر نصيب من الحياة الجيدة. (سعادة ، الأعمال الكاملة 4، 2001، الصفحات 209-210)
واقع الاجتماع السوري نقيض الوجدان القومي
يفسر سعادة ظهور النزعة الفردية بسبب فقد النظم المتينة مدة طويلة في المجتمع، كما هي الحال في أمتنا، ويصاحب مظهر النزعة الفردية عدم الشعور بالمسؤولية إلا تجاه النفس. (سعادة ، الأعمال الكاملة 8، 2001، صفحة 189)
ويشير إلى الفساد المستشري في المجتمع السوري معتبرا أن فساد الحكم هو من فساد الشعب
"النواب في لبنان والشام الذين يبيعون مصالح الشعب بالمزاد السري هم نواب منتخبون انتخاباً عاماً من الشعب، ولكن الشعب في حالة فساد كثير فهو يجهل حقوقه ومصالحه ولا يشعر بوحدتها ووحدة شخصيته. في سورية رجال الدين الفاسدون قد حوّلوا الطوائف إلى أحزاب سياسية، ورجال الشعب خضعوا لسياسة التفرقة الدينية وانقادوا إلى مثالب الانحطاط فباعوا «باكوريتهم» أو أصواتهم الانتخابية بيعاً وهم لا يدرون أنهم يبيعون حقوق سيادتهم. في سورية تعلّم الفرد ألا يهتم لضرر الشعب بل لمنفعته الفردية فقط.
في سورية المناقب تحولت إلى مثالب والأخلاق انحطت. فالفساد في الشعب والشعب الفاسد الروحية يحتاج إلى إصلاح. والإصلاح، الذي لا يمكن أن يكون إلا من الداخل، يجب أن يكون من فرد انشق على فساد المجموع وتغلب على أهوائه. هذا الفرد هو الذي يحتاج إلى ضمانات السلطة ضد فساد الشعب وليس الشعب هو الذي يحتاج إلى هذه الضمانات." (سعادة ، الأعمال الكاملة 4، 2001، الصفحات 162-163)
النظرة الشخصية الفردية أو العائلية
في مقال شق الطريق لتحيا سورية يقدم سعادة تحليلا تاريخيا عن الأسباب التي أدت الى انحطاط الواقع السوري وجمود الواقع الاجتماعي في مؤسسات الطوائف والعشائر وحلول التصادم بدل التعاون.
يتحدث عن الخضوع قرون طويلة للسيادات الأجنبية على سورية مما أفقد أهلها كل معنى من معاني القومية والسيادة القومية. وساعد اختلاف المذاهب الذي منيت به على إفقادها كل سبب من أسباب الوحدة الاجتماعية والسياسية وكل طموح إلى القوة السياسية التي يجدر بها الحصول عليها. وكان من نتائج تعاقب عصور الخضوع وحلول التصادم الاجتماعي الداخلي، المسبَّب عن تزاحم الجماعات الدينية، محل التعاون الاجتماعي الذي هو الطريقة الأساسية لحفظ حياة المجتمع وشخصيته وتأهيله للتقدم في مراقي العمران والتمدن
فرأت الطبقات العليا أن تبحث عما يرضي المسيطر الأجنبي فتفعله، بائعة مصالح الطبقات العاملة، وسلمت الطبقات الدنيا أمرها للقدر.
تحت هذا النير المزدوج من الخضوع وقفت الثقافة السورية عند الحد الذي كانت قد بلغته، فلم يحدث في سورية أي تطور جديد لا في الثقافة المادية ولا في الثقافة النفسية.
ولما آذنت السلطنة العثمانية بالتفكك اتجهت أنظار الدول الكبرى إلى سورية وابتدأت تنشئ معها علاقات ثقافية؛ فكانت البعثات الدينية والعلمية وكان همّ هذه البعثات بذر بذور نفوذ الدول التي تنتمي إليها. وأخرجت الثقافة الاستعمارية في سورية طبقة مثقفة خالية من المثال الأعلى القومي، مجرّدة من الثقة بمواهب الأمة السورية الممتازة،
كل ذلك أسباب عملت على إبقاء السوريين في حال جماعات متفرقة متنابذة تتحرك بدوافع الحاجات الاقتصادية الأولية وتزاحم بعضها بعضاً من أجل هذه الحاجات، وعلى استنفاد المواهب السورية العالية وقوى السوريين في أعمال الاقتصاد الفردي أو العائلي، وفي سيادة العائلات والطوائف. (سعادة ، الأعمال الكاملة 2، 2001، صفحة 126)
في هذه الفوضى والنزعات الفردية تصبح السياسة غاية. فتوضع الجداول الفكرية والإصلاحية لتكون واسطة للسياسة. وتكثر الأحزاب الملوِّحة للشعب بجداول "إصلاحها" لتزيد البلبلة والفوضى. (سعادة ، الأعمال الكاملة 8، 2001، صفحة 190)
قامت الأعمال السياسية كلها في هذا الوطن على أساس النظرة الشخصية الفردية أو العائلية، (سعادة ، الأعمال الكاملة 3، 2001، صفحة 231)
النيابة تقوم على القربى والمنافع الفردية أو العائلية، بدلاً من أن تقوم على المبادئ المؤسسة على مصالح الشعب (سعادة ، الأعمال الكاملة 3، 2001، صفحة 247)
إنّ سورية تحيا اليوم ليس في القرن العشرين في حالتنا الحاضرة، إنها تحيا في القرون المتوسطة، فالنظام الاقتصادي فيها لا يزال نظام القرون المتوسطة والنظرة الفردية. (سعادة ، الأعمال الكاملة 8، 2001، صفحة 115)
إنّ في حياتنا الاجتماعية، في الوطن وفي المغترب، ظاهرة تستحق اهتماماً كبيراً ومعالجة جدية هي ظاهرة النزعة الفردية في تصرفاتنا الاجتماعية وأفكارنا وميولنا، وما يوجب الاهتمام الكبير لهذه الظاهرة هو أنها تدخل في جميع أسباب حياتنا الاجتماعية، العائلية والعمومية على حد سواء، وهي مع الظاهرة الأخرى المصاحبة لها، أي ظاهرة الاستهزاء والاستخفاف، في مقدمة الصعوبات التي تواجه الحركة القومية في عمل التربية والتنظيم القوميين. (سعادة ، الأعمال الكاملة 6، 2001، صفحة 156)
التصادم الفردي هو نتيجة هذه الظاهرة الاجتماعية التي ترافق جميع أعمالنا العمومية التي تحتاج إلى تآلف عدد كبير من الأفراد وتعاونهم في عمل مشترك. فكل فرد يعدّ العمل كله دائرة واحدة يجول فيها تفكيره. ففكرة أنّ العمل العام دوائر صغرى في دائرة كبرى، وأنّ كل فرد يجب أن يعمل ضمن الدائرة التي يقع فيها اختصاصه وكفاءته هي فكرة جديدة أوجدها التنظيم القومي الاجتماعي. ولذلك هي فكرة لا تزال غير مفهومة الفهم اللازم، حتى عند أكثر القوميين الاجتماعيين أنفسهم، بدون استثناء المتنورين منهم. (سعادة ، الأعمال الكاملة 6، 2001، صفحة 157)
كل اجتماع بسيط من اجتماعاتنا العائلية، أو التي توجدها الصدف، يبتدئ بالتصايح وينتهي بالاحتدام والهياج، إلا فيما ندر. وكل جمعية أو حزب يتأسس تبتدئ المشاحنات الفردية فيه منذ ابتداء عمله، حتى ولو لم تكن المآرب الخصوصية النفعية هي السبب، وذلك بدافع النزعة الفردية. والحزب السوري القومي الاجتماعي نفسه لم يسلم في بداءة عهده من المصادمات الفردية العائدة إلى تغلّب النزعة الفردية على العاملين. (سعادة ، الأعمال الكاملة 6، 2001، صفحة 157)
صاحب النزعة الفردية يحسب كرامته الخاصة، كما يراها هو، فوق كل الكرامات. وتدفعه شدة الإحساس بكرامته إلى سلوك مسلك الحدّة دائماً وإلى حسبان كل حدّة معاكسة لحدّته إهانة موجهة إليه لا يقبلها، بل يفضّل أن يدير ظهره لكل من لا يراعي إحساسه بذاته، مهما كانت العواقب وخيمة بشرط أن لا تكون وخامتها عليه. (سعادة ، الأعمال الكاملة 6، 2001، صفحة 159)
من الأول رأينا أنّ النزعة الفردية والرأي النفعي الفردي الشخصي هما مرض من أعظم الأمراض، وصعوبة من أعظم الصعوبات الداخلية التي يجب أن نتغلب عليها لنواجه العالم الخارجي كوحدة متينة وإرادة واحدة. فواضح، إذن، كم هو صحيح هذا القول: "والنجاح الأخير يتوقف، فعلاً، على إدراكنا قيمة هذه الحقيقة وعلى تطبيقنا رموز الحزب الأربعة التي تربطنا ربطاً لا يحل وهي: الحرية والواجب والنظام والقوة". (سعادة ، الأعمال الكاملة 8، 2001، صفحة 26)
يجب على القوميين الاجتماعيين أن يكافحوا النزعة الفردية مكافحتهم الاحتلال الأجنبي، بل أشد. فخطر الاحتلال الأجنبي من الخارج، أما خطر النزعة الفردية على سلامة المجتمع فمن الداخل. (سعادة ، الأعمال الكاملة 6، 2001، صفحة 160)
إنّ أعظم بلية حلَّت بالأمة السورية، نتيجة لعصور التقهقر والانحطاط بعامل فقد السيادة القومية، هي بليَّة الأمراض النفسية والانحطاط المناقبي، وقيام المصالح الخصوصية والغايات الفردية مقام مصلحة الأمة والغايات القومية، وتحجر المصالح الخصوصية والغايات الفردية مقام مصلحة الأمة والغايات القومية، وتحجر المجتمع السوري في قوالب الحزبيات الدينية المختلفة، فتفشّت في المتحد الاجتماعي المثالب الأخلاقية، وحلّت محل المناقب، فطغت نفسية الرياء والغش والتزييف والنفاق، يساعدها على الانتشار الجهل والفقر والذل التي تعرّض لها الشعب في سقوطه من سيادته وعزِّه. (سعادة ، الأعمال الكاملة 8، 2001، صفحة 342)
تنتشر النزعة الفردية في مختلف الأوساط بين المتعلمين وغير المتعلمين، وتسيطر على أعمالهم طرق تفكيرهم الفردي وغير المسؤول. السياسة لهم هي في الغايات الفردية الخصوصية، والمقاصد عندهم هي مقاصد فردية، وحتى القضايا القومية تتحول إلى واسطة لتحقيق غاياتهم الخصوصية. (سعادة ، الأعمال الكاملة 8، 2001، صفحة 351)
ويرى سعادة أن الفردية غير المسؤولة هي من أسوأ أمراض المجتمع النفسية ومن أكبر قضاياه الاجتماعية والسياسية. فإذا تحكَّمت هذه الفردية الهدّامة في مصير شعب وسخّرته لأغراضها الشخصية ومقرراتها التحكمية قادته إلى الخراب والذل.!
هذه هي الدكتاتورية البغيضة التي تتخذ شعباً بكليته مطية لإرادتها الفردية المطلقة. إنها أقبح أنواع الاستعباد، لأنها استعباد من الداخل. وإذا لم تصل هذه الدكتاتورية إلى السلطة التنفيذية فهي تمارس طغيانها المخرب بالتهديم من تحت. (سعادة ، الأعمال الكاملة 8، 2001، صفحة 351)
النجاح الفردي والنجاح القومي
يميّز سعادة بين النجاح الفردي والنجاح القومي ويعتبر أن النجاح الفردي، هو نجاح محدود ومنحصر في نقاط قليلة ولا يمكن اتخاذه قاعدة أو مقياساً للنجاح القومي أو لمقدرة الفرد على إحراز النجاح القومي العام. وإنّ طبيعة النجاح القومي تختلف كل الاختلاف عن طبيعة النجاح الفردي. وإننا نرى أنّ مبادئ النجاح الفردي غير المحدود تصل إلى الاصطدام بمبادئ النجاح القومي والاجتماعي ويأخذ هذا الاصطدام أحياناً شكل ثورة دموية من العامة على طبقة امتياز النجاح الفردي المطلق، التي لا يهمها إذا أهين شرف الأمة أو ذلّت أو فقدت سيادتها طالما تقدر هي (الطبقة) أن تظل متمتعة بخيرات الدنيا المادية. (سعادة ، الأعمال الكاملة 6، 2001، صفحة 490)
وكثيراً ما يجرّ العمل بمبدأ النجاح الفردي المطلق إلى تحالف الرأسمال الوطني النفعي مع الإرادة الأجنبية الاستعمارية، كما هو حال معظم الإقطاعيين وأصحاب الثروة في بلادنا
قاعدة النجاح الفردي المطلق هي: عدم الشعور بالمسؤولية إلا عن النجاح الخاص.
والذي يمكن تقريره، من درس طبيعة عمل صاحب عقلية النجاح الفردي، أنه غير مؤهل للاضطلاع بأعباء الإدارة العليا للنجاح العام إلا حين يكون هذا النجاح قد تأمن بعمل أصحاب نفسية النجاح القومي المطلق وبالاستناد إلى مؤازرتهم.(سعادة ، الأعمال الكاملة 6، 2001، الصفحات 490-491)
النجاح القومي العام هو مؤمِّن بطبيعته النجاح الفردي. أما النجاح الفردي فليس مؤمِّناً بطبيعته النجاح القومي، لأن طبيعته استبدادية وغرضه محصور في الفرد بذاته. فيحتاج الفرد العامل بهذا المبدأ لإدراك مبدأ آخر: إنّ استمرار النجاح الفردي لا يمكن أن يتحقق إلا ضمن استمرار النجاح العام، وإنّ غرض النجاح الفردي المادي هو السعادة التي لا يمكن أن توجد في المجتمع التعيس، لأنها ليست ذات خصائص نفسية ــــ اجتماعية كطبيعة مبدأ النجاح العام. (سعادة ، الأعمال الكاملة 6، 2001، صفحة 493)
الفردية والتسويات المؤقتة
تقوم الأساليب الفردية العتيقة على قاعدة التسويات الموقتة والتكيف حسب مقتضيات الظروف، فلا توجد قاعدة ثابتة ولا مبدأ ثابت. (سعادة ، الأعمال الكاملة 2، 2001، صفحة 197)
إنّ الأكثرية والأقلية في المجلس النيابي تعبير ديموقراطي ملازم لحياة الأحزاب وله قيمة كبيرة في الأمم الحرة، إذ يكفي أن تعرف من أي حزب تتألف الأكثرية في المجلس النيابي لتعرف اتجاه المجلس التشريعي والسياسة الحكومية القائمة عليها. أما في حالة المجلس النيابي اللبناني فالأكثرية والأقلية مناسبات معرّضة للاختلاف. والأكثرية البرلمانية التي لا رابطة حزبية تجمعها ليست أكثرية ثابتة كل الثبات. وعدم إجماع الائتلاف على تفاصيل الحكم والسياسة الواجب اتباعها يفسح مجالاً واسعاً لتجاذب المصالح بين الكتلتين، خصوصاً وكلتاهما ستمثلان في الوزارة، فتقع مصالح الدولة تحت نفوذ الفريقين وهذه المصالح هي مدار المنافع الفردية التي يتقيد بها النواب (سعادة ، الأعمال الكاملة 2، 2001، صفحة 217)
وإنّ من ضروريات ممارسة السيادة، بواسطة التصويت الشعبي العام أن يكون المجتمع حاصلاً على تربية قومية صحيحة توجه الفرد نحو النظر في مصلحة المجموع دائماً، وتضع في ضميره مبادئ أساسية لا يحيد عنها، وتكون هي هدفه الأخير. (سعادة ، الأعمال الكاملة 2، 2001، صفحة 193)
المعدود اللبناني ينتخب على أساس المنفعة الفردية أو العائلية أو الطائفية. وفي انتصار فريق من المرشحين على فريق آخر لا تنتصر مبادئ ونظريات على مبادئ ونظريات، بل تظفر غايات خاصة بغايات خاصة فتتحول منافع الإدارة العامة إلى فريق من أبناء البلاد دون فريق آخر. فالنزاع أبداً قائم على هذا الشكل. (سعادة ، الأعمال الكاملة 2، 2001، صفحة 193)
النظرة الفردية في الاقتصاد
يربط سعادة سوء الحالة الاقتصادية بالنظام السيّء الذي تنمّيه النظرة الفردية اللا مسؤولة عن المصير القومي في استخدام الآلة الحديثة، وليس في الآلة بحد ذاتها. ودعوته النهضوية تريد أن تضع حداً لهذا الاستعباد ولأصحاب الرساميل الفردية الذين يستعبدون بواسطتها الناس.
"نهضتنا تريد أن تحرر الآلة من استبداد النظرة الفردية، لأن بتحريرها تحرير مئات وألوف من الناس. والذين يحرمون من أعمالهم بسبب الآلة، تصرفهم نهضتنا إلى أعمال أخرى ولكنها لا تحرمهم، من مجرّد اتجاههم إلى أعمال أخرى" (سعادة ، الأعمال الكاملة 8، 2001، صفحة 115)
نتيجة الفردية وغياب التربية القومية وغياب الوعي القومي ينشأ الفرد في بلادنا لا يشعر إلا بمسائل وقضايا محدودة تختص بدائرته هو، مصيره هو، مهما كان مصير مجموع الأمة، لذلك:
"الرأسمالي عندنا أشد الناس ابتعاداً عن الاهتمام بأية قضية قومية أو وطنية أو بأي مصير للجماعة القومية. إنّ تخطيطه تخطيط فردي محض والمصلحة مصلحة فردية محضة، ولذلك لا يحجم حتى عن التحالف مع أي رأسمال أجنبي مجموعي ضد مصلحة المجموع الذي هو أحد أفراده. فالرأسمال الفردي الآخذ في أن يزداد أمام أعيننا في هذه البلاد ويسيطر على مصير هذه البلاد والشعب، هو من أسوأ حالات الرساميل في العالم على الإطلاق. (سعادة ، الأعمال الكاملة 8، 2001، صفحة 110)
وجاء المبدأ الإصلاحي الرابع تنظيم الاقتصاد على أساس الإنتاج ليضع حدّا للتصرف الفردي المطلق في العمل والإنتاج، الذي يجلب أضراراً اجتماعية كبيرة، لأنه ما من عمل أو إنتاج من المجتمع إلا وهو عمل أو إنتاج مشترك أو تعاوني. فإذا تُرك للفرد الرأسمالي حرية مطلقة في التصرف بالعمل والإنتاج، فإن لا بد من وقوع إجحاف بحق العمل وكثير من العمال. إنّ ثروة الأمة العامة يجب أن تخضع لمصلحة الأمة العامة وضبط الدولة القومية. لا يمكن تنمية موارد القوة والتقدم في الدولة إلى الحد الأعلى إلا بهذا المبدأ وهذه الطريقة. (سعادة ، الأعمال الكاملة 2، 2001، صفحة 49)
المبدأ الاقتصادي الذي وضعه سعادة يضع حداً للتصرف الفردي المطلق في العمل والإنتاج، الذي يجلب أضراراً اجتماعية كبيرة، لأنه ما من عمل أو إنتاج من المجتمع إلا وهو عمل أو إنتاج مشترك أو تعاوني. فإذا تُرك للفرد الرأسمالي حرية مطلقة في التصرف بالعمل والإنتاج، فإن لا بد من وقوع إجحاف بحق العمل وكثير من العمال. إنّ ثروة الأمة العامة يجب أن تخضع لمصلحة الأمة العامة وضبط الدولة القومية. لا يمكن تنمية موارد القوة والتقدم في الدولة إلى الحد الأعلى إلا بهذا المبدأ وهذه الطريقة. (سعادة ، الأعمال الكاملة 2، 2001، صفحة 49)
مصالح المجتمع لا مصالح فردية
الانطلاق من مصالح المجتمع يمنع التصادم الداخلي ويحقق الخير للجميع على عكس الانطلاق من مصالح فردية أو فئوية.
بعد حصول وعينا القومي وبعد شعورنا بارتباط مصيرنا في الحياة ارتباطاً لا يمكن فصمه، لا مناص لنا من الاعتقاد بوحدة المصالح التي هي مصالح الأمة، مصالح الجماعة الكبرى، وليس مصالح فردية معيّنة للأفراد بأنفسهم. (سعادة ، الأعمال الكاملة 8، 2001، صفحة 112)
نظام الجماعة يتطور ولا يلغى
النزعة الفردية تجعل الفرد وميوله غاية كل فكرة ونهاية كل عمل. وهي العدو الأول لكل غاية مجتمعية والعقبة الكأداء التي تعترض نشوء النظام الاجتماعي العام. فطبيعتها مخالفة لطبيعة الاجتماع. والنزعة الفردية، التي تعدّ الفرد كل شيء في العالم، أكبر عامل تفكك وهدم لكيان الجماعة، الذي هو الكيان الإنساني الحقيقي منذ ظهر الإنسان على مسرح الطبيعة. لا يقوم كيان الجماعة إلا بخضوع أفرادها طوعاً أو كرهاً، لكيانها ونظامها، لا فرق بين أن يكون هذا النظام جيداً أو رديئاً.
الأنظمة تتطور وترتقي ضمن دائرة الاعتراف بالنظام وتقديم حق الجماعة على حقوق الأفراد. فنظام الجماعة يتطور ولا يلغى، ويقوم على إرادة الجماعة حسب اختيارها أو قبولها وليس على إرادة الفرد. (سعادة ، الأعمال الكاملة 6، 2001، صفحة 185)
النظرة الفردية والنظرة الاجتماعية
المجتمع القيم اجتماعية لا فردية
الحق والخير والجمال والحقيقة هي قيم اجتماعية، متحدية، لا قيم فردية، لا الكثرة ولا القلة تقرر الحق وتفرضه فرضاً. وإذا لم تكن الكثرة ولا القلة أساس تقرير الحق فبالأَوْلى أن لا يكون الفرد أساس تقرير الحق وذا السلطان لفرضه. إنّ مسألة الحق ليست مسألة عددية، بل مسألة إنسانية اجتماعية. الحق قد يبتدئ بفرد وقد يبتدئ بعدد قليل ضئيل وقد يبتدئ بعدد كثير. ولكن شرط الحق في الإنسانية، ليكون حقًّا، أن لا يعلن نفسه ساعة ويختفي، وأن لا يختزنه العدد الفردي أو المجموعي في نطاقه الخاص فيفنى فيه – أن لا يكون حقًّا عدديًّا، بل حقًّا اجتماعيًّا لا ينفرد فيه الفرد ولا يستقل به العدد، بل يمتد في المجتمع بلا حدود – في المتحد نفسه في تعاقب أجياله. الحق ليس فرديًّا ولا عدديًّا. فهو لا يموت مع الفرد ولا يفنى بفناء العدد. إنّ الحق اجتماعي يظل قائماً ما ظل المتحد قائماً. (سعادة ، الأعمال الكاملة 7، 2001، صفحة 386)
ليس المجتمع مجرّد مجموع عددي من الناس. إنّ المجتمع غير المجموع. إنّ المجتمع أعمق بكثير من الجموع العددي وأسمى بكثير منه. الأفراد، في المجتمع، يأتون ويذهبون. ولكن الحق، لا يذهب معهم، بل يبقى، لأن الحق إنساني والإنساني اجتماعي.
إنّ عقيدتنا اجتماعية، تنظر إلى الإنسان من زاوية الحقيقة الإنسانية الكبرى – حقيقة المجتمع، لا من زاوية الفرد، الذي هو، في حد ذاته وضمن ذلك الحد، مجرّد إمكانية إنسانية. (سعادة ، الأعمال الكاملة 7، 2001، صفحة 387)
عقيدتنا تقول بحقيقة إنسانية، كلية، أساسية هي الحقيقة الاجتماعية: الجماعة، المجتمع المتحد. فالاجتماع للإنسان حتمي لوجوده، ضروري لبقائه واستمراره. والمجتمع هو الوجود الإنساني الكامل والحقيقة الإنسانية الكلية. والقيم الإنسانية العليا لا يمكن أن يكون لها وجود وفعل إلا في المجتمع فمتجه القيم كلها هو المجتمع – هو مصدرها وهو غايتها. (سعادة، المجلد 7، 2001 ، صفحة 386)
إنّ السفسطائيين أدخلوا موضوع الإنسان إلى الفلسفة ولكنهم فهموا بالإنسان الفرد وقالوا بالنسبية الفردية. وقد أوصلهم هذا المذهب إلى حالة الهُزْءِ والسخرية.
إنّ الإنسان، في عُرف السفسطائيين، هو الفرد ـ كل فرد هو لنفسه مقياس الحقيقة شعوراً ومعرفة، فلا تكون هناك حقيقة واحدة بل حقائق عددها عدد الأفراد وعدد الحالات التي يمر بها الأفراد. أما سعاده فيقول إنّ الإنسان الحقيقي هو المجتمع لا الفرد، وإنّ الفرد هو مجرد إمكانية إنسانية. (سعادة ، الأعمال الكاملة 8، 2001، صفحة 173)
إنّ الإنسان ـ المجتمع الذي يعلنه سعاده هو غير الإنسان الفرد الذي أعلنه السفسطائيون.
يقول سعاده: إذا غلط امرؤ في استنتاج أو تأويل أو في حس ما فيصلح غلطه باستنتاج أمرؤ آخر، أو تأويله أو حسه الصحيح. وهو يقول أيضاً: "شرط الحق، في الإنسانية، ليكون حقاً، أن لا يعلن نفسه ساعة ويختفي، وأن لا يختزنه العدد الفردي أو المجموعي في نطاقه الخاص فيفنى فيه ـ أن لا يكون حقاً عددياً، بل حقاً اجتماعياً لا ينفرد فيه الفرد ولا يستقل به العدد، بل يمتد في المجتمع بلا حدود" (سعادة ، الأعمال الكاملة 8، 2001، صفحة 174)
النظرة الى الفرد والمجتمع
تهتم النهضة التي قام بها سعادة، في كل أمر من أمور المجتمع الإنساني، في النظر إلى الفرد، إلى المجتمع، في قيمة الإنسان، في قيم الحياة للإنسان، في غرض الوجود الإنساني.(سعادة ، الأعمال الكاملة 8، 2001، صفحة 136)
روّج فايز صايغ، نظرة كركيغاد وبرديايف الشخصية الفردية، وهي تناقض نظرة سعادة الفلسفية المؤسسة على دراسته وفهمه للتطور الاجتماعي.
نظرية الشخصية الفردية تعتبر" إنّ شخصية الإنسان (الفرد) ونموها هي غاية المجتمع الرئيسية" أي أنّ المجتمع ليس سوى واسطة لهذه الغاية، وبقولكم إنه لخطأ القول بشخصية للمجتمع وإنّ المجتمع "عدد من البشر ليس إلا". (سعادة ، الأعمال الكاملة 7، 2001، صفحة 372)
العصبية القومية
إنّ وضع العصبية القومية موضع العصبيات الدينية والعشائرية أنقذ الحيوية السورية من فوضى التجزئة وأطلق قوة روحية عظيمة لا حد لممكناتها وأقام في المجتمع السوري نظام التعاون بدلاً من نظام التصادم الذي أسسته النهضة الرجعية، وأحل مصلحة الأمة محل مصلحة الفرد، التي يقول بها النفعيون والرأسماليون ومحل مصلحة الطبقة التي ينادي بها الشيوعيون. (سعادة ، الأعمال الكاملة 2، 2001، صفحة 130)
النظرة السياسية المجموعية تنظر في أحوال الوضع السياسي العام وشؤون مجموع الحزب وتضع هذه الشؤون فوق جميع الاعتبارات.
إنها الطريقة العملية الوحيدة لإنقاذ المجموع من أمراض الشؤون الشخصية وسيطرة المصالح الفردية، وإنها الطريقة العملية الأولى لتربية الشعب على حب المصلحة العامة وتفضل نظرة المنظمة على نظرة الفرد الأولية الناقصة المبنية على رغبات خاصة (سعادة ، الأعمال الكاملة 2، 2001، صفحة 197)
تغيير النظرة إلى الحياة وتغيير الأساس النفسي الخلقي للبناء الاجتماعي
النهضة التي دعا إليها سعاده تعني تغيير النظرة إلى الحياة وتغيير الأساس النفسي الخلقي القائم عليه بناء اجتماعي متفسخ متزعزع. كل شيء في هذا المجتمع مسخر لنفعية الفرد، والحيلة الفردية في تسخير الأوضاع والأشكال والأسس بعينها لخدمة المنفعة الفردية (سعادة ، الأعمال الكاملة 2، 2001، صفحة 232)
جاء سعاده يقول بتغيير هذا الأساس وإبدال هذه النظرية اللاقومية اللاوجدانية وبتأسيس أخلاق قومية ثابتة توجد قاعدة ثابتة لتلاؤم المجتمع وتجانس أفكاره وأعماله وبإحلال النظرة القومية محل النظرة الفردية وبإقامة مبدأ التساند العام النزيه. (سعادة ، الأعمال الكاملة 2، 2001، صفحة 232)
إنّ الزعيم قد وضع رسالته أمانة في قلوب القوميين الاجتماعيين وعقولهم. وهي الرسالة التي عبّر بها ليس عن نظرته الشخصية الفردية إلى العالم وشؤونه، بل عن نظرة الأمة السورية إلى الحياة والكون والفن، ولذلك أصبحت هذه عقيدة القوميين الاجتماعيين وإيمانهم لأنهم وجدوا فيها التعبير عن نفسية أمتهم وخططها في التاريخ. والزعيم نفسه قد عبّر عن إيمانه العظيم بأمته وعن أنه ليس إلا معبّراً عن شخصيتها العظيمة ومواهبها السامية بقوله، في ختام كتابه الأخير الصراع الفكري في الأدب السوري: "إنّ ما دفعني إلى إعطاء هذا التوجيه هو محبة الحقيقة الأساسية التي وصل إليها تفكيري ودرسي وأوصلني إليها فهمي، الذي أنا مديون به كله لأمتي وحقيقتها النفسية". (سعادة ، الأعمال الكاملة 7، 2001، صفحة 372)
الوجدان القومي في السلوك العملي
يؤكّد سعادة على احترام وتقدير كرامة ومشاعر كل فرد ويقول: " في الحزب السوري القومي الاجتماعي شرع يضمن لكل فرد حقه كفرد في النظام والعمل والرأي، ولكل فرد يحسب نفسه مظلوماً في أمر أن يطلب المحاكمة العلنية إذا لم تجرِ محاكمة علنية لأغلاطه. فيكون أميناً على أنّ قضيته لا يُبتّ فيها بالخفاء بطرق لا يقرها المجموع." (سعادة ، الأعمال الكاملة 6، 2001، صفحة 514)
ولا يقبل أي إهانة لفظية أو جسدية من رفيق مسؤول أو غير مسؤول لأي شخص كان، فعندما خاطبت منفذة عامة للسيدات ناموسة المنفذية بالقول "سؤالك بلا معنى جرى استجواب المنفّذة العامة في اجتماع عمومي وإقالتها من وظيفتها. (سعادة ، الأعمال الكاملة 10، 2001، صفحة 203)
وفي قصة فاجعة حب يستهجن بلسان سليم تدخل القوم في شؤون الفرد الخصوصية. (سعادة ، الأعمال الكاملة 1، 2001، صفحة 363)
وفي قضية فخري المعلوف يؤكّد على احترام شعور ومعتقدات الفرد وعلى حرية الاعتقاد ومساواة جميع الأعضاء فيها، ويستغرب عدم احترام شعوره ومعتقداته الخصوصية كما احترم هو شعور ومعتقدات المعلوف. والخوض في قضايا لاهوتية يعتبر سعاده أنها من شؤون الوجدان الفردي الخاص التي يجب أن لا تثير وأن لا نسمح بأن تثير قضية اجتماعية - سياسية. (سعادة ، الأعمال الكاملة 11، 2001، صفحة 336)
ويؤكّد على حرية الفكر ويقول: " ليس في عقيدتنا القومية الاجتماعية ما يحرم العقائد الدينية، أو يحجز حرية الفكر في أي أمر من الأمور الروحية والقضايا الفكرية، بشرط أن لا تطلب الهيمنة على عقيدتنا القومية الاجتماعية، أو إفسادها، أو تعطيل غايتها الأخيرة. وقد كنت حريصاً جداً على عدم مزج إيماننا القومي بقضايا الإيمان الفردي اللاقومي الذي له صفة مجاوزة من العقيدة القومية. ولذلك فصلتُ بين كتاب عقيدتنا، الذي هو المبادئ وشرحها، وكتاب نشوء الأمم وكل كتاب آخر يشمل مسائل تخرج عن حدود عقيدتنا القومية الواضحة. فالسوري القومي الاجتماعي يمتحن سلوكه وعمله، ويحاسب، وفاقاً لمبادئنا، ولا يمتحن ولا يحاسب بموجب كتاب نشوء الأمم." (سعادة ، الأعمال الكاملة 11، 2001، صفحة 393)
وبالرغم من تأكيده على مفهوم المجتمع والانسان المجتمع واعتبار الفرد مجرد إمكانية إنسانية، غير أنه يشير إلى تأثير الأفراد في المجتمع خاصة فئة المثقفين. ويقول:
" لأن حياة الفرد مستمدة من حياة المجموع، ولأن الأفكار الصادرة عن الأفراد لا تلبث أن تؤثر في أحوال المجموع إذا تناولتها الطبقة المتعلمة المتنورة. وهذه الحقيقة تجعلنا ندرك إدراكاً جلياً حقيقة العلاقة بين حياة الأفراد وحياة المجموع وأهمية الأفكار في جعل هذه العلاقة شيئاً مفيداً للفرد والمجموع كليهما، فالتفكير مظهر من مظاهر الحياة الراقية لأنه العمل الأساسي للعقل البشري." (سعادة ، الأعمال الكاملة 1، 2001، صفحة 390)
التفكير العملي المجموعي
ويميّز بين التفكير العملي المجموعي والتفكير العملي الفردي، الأول يتناول المجموع وينعكس على الفرد، والثاني ينحصر في الفرد وقد يؤول إلى أذيته من حيث لا يدري، لأن ما لا يعود على المجموع بالخير لا يعود بالخير على الأفراد، وإذا ظهر أنّ بعض الأفراد استفادوا منه ففائدتهم إلى حين، ثم ينقلب الخير إلى شر عليهم أو على أبنائهم، وفي حياتنا أمثلة كثيرة على ذلك تظهر لنا كل يوم.
ويبيّن الأضرار التي تنجم عن عدم التفكير بمصلحة المجموع والاهتمام فقط بمصلحة الفرد
"إنّ الذين غشوا أبناء أمتهم لأجل فائدتهم الفردية لم ينعموا طويلاً بتلك الفائدة، لأن الغش الذي شلَّ حياة مواطنيهم شل حياتهم هي أيضاً في الأخير. وإنّ الشلل الذي يصيب الحياة العامة لا يعفو عن الحياة الخاصة.
لقد تعلمنا فيما مضى أن نهتم كثيراً بحياتنا الفردية وأن نحافظ كثيراً على جلودنا، وكانت نتيجة ذلك أننا أهملنا حياتنا العامة حتى دبّ فيها الفساد وملأها غلاً وغشاً وحقداً وبغضاً وحسداً ونميمة ورياء، وأصبح محيطنا كله يعج بالفساد ويضج." (سعادة ، الأعمال الكاملة 1، 2001، صفحة 396)
إنّ أكثر مصائبنا هي من فقدان الهدف المجموعي في هيئتنا الاجتماعية. والذي أراه أنّ أقدس واجبات الشبيبة السورية هو أن تحل المصلحة العامة محل المصلحة الخاصة، وأن تبتدىء في العمل الإصلاحي الكبير لتنقية حياتنا القومية من الأدران النفسية والصدأ العقلي، فتعود الصحة والنشاط إلينا ويصبح في إمكاننا بذل الجهود الصادقة لتحقيق مطلبنا الأعلى، وإلا فإننا مهما اجتهدنا في تحسين أحوالنا الفردية نظل معروفين بين شعوب العالم بالصفة الملازمة لنا، وهي صفة الخمول والأنانية الخائفة على ذاتها المحبة للأخذ الكارهة للإعطاء. وليس للآخذ كرامة المعطي. (سعادة ، الأعمال الكاملة 1، 2001، صفحة 397)