تاريخ الحزب لا يكتب في مجلد، ولا يوجز في محاضرة. إنه خزان هائل من المواقف والأحداث والمعارك، التي تحتاج كل منها، إذا رغبنا شرحها بشكل تفصيلي وواضح إلى الكثير من الوقت، ومن الشروحات.
لذا نعرض هنا ملخصاً لأهم المفاصل في مسيرة الحزب منذ التأسيس حتى مغادرة سعاده الوطن عام 1938، على أن يقوم كل رفيق، بمبادرة شخصية، للتعمق في تاريخ حزبه، آملين أيضاً أن نتمكن لاحقاً من نشر المزيد من الشروحات التي تضيء على كل تلك المفاصل.
أولاً: مرحلة ما قبل التأسيس:
في برمانا رفض حمل العلم التركي في مقدمة التلامذة، كما عمد فور انسحاب فرقة الجيش التركي من منطقة برمانا إلى تسلق سارية المدرسة وإنزال العلم التركي وتمزيقه.
وفي بيروت التقى في مكتب عميد كلية طب الأسنان في الجامعة الأميركية، الدكتور دراي، بعدد من الشخصيات السياسية تتناقش فيما بينها حول أية دولة أفضل لتولي حكم بلادنا.
فمن قائل بفرنسا، وآخر يفضل عليها بريطانيا، وثالث أميركا. وإذ التفت أحد الحاضرين إلى الفتى اليافع يسأله: "وأنت يا صغير أية دولة تفضل؟"، أجابهم سعاده الفتى ذلك الجواب الذي أذهلهم: "لا أفضل أحداً، بل أن نحكم أنفسنا، بأنفسنا".
وإلى انصرافه للمطالعة والدرس على نفسه مستفيداً من مكتبة والده ومما كان يشتريه من كتب بلغات مختلفة، راح سعاده يفكر في وضع بلاده ويبحث في الوسائل التي تؤمن وحدتها ورقيها، كما تمكنها من رد الغزوة اليهودية التي كان سعاده قد بدأ يتنبه لها، وينبه، في كتابات له وهو في الـ 21 من عمره.
عمد أولاً إلى تأسيس "جمعية الشبيبة الفدائية السورية"، وإذ وجد أن العناصر التي انتسبت إليها كان يهمها الظهور والعمل الدعائي، انسحب منها ثم أسس مع زملاء له "حزب الأحرار السوريين" الذي كان من أهدافه سيادة الأمة على نفسها، وتوحيد البلاد السورية.
رغم الاغراءات المحيطة ومحاولة العديدين إقناع سعاده بالعدول عن مغادرة البرازيل، إلا أنه كان قد صمم على العودة، ففي الوطن لا في المهجر، يصنع مصير الوطن وفيه يصح تأسيس الحزب القادر على النهوض بالأمة.
*
هذه الفترة كانت تميزت بسيطرة جيش الانتداب الفرنسي في لبنان والشام واستخباراته منتشرة في كل مكان. كما أن القانون الصادر عن الفرنسيين (LR 115) كان يحظر أي نشاط حزبي أو سياسي.
(عرف بقانون قمع الجرائم الذي كان يعني أن كل فئة تتجاوز الخمسة أشخاص تجتمع في مكان ما بغير إذن رسمي وتشاء الحكومة أن تظن أنه يوجد مقاصد وراء الاجتماع فلم يكن ما يمنع من دخول رجال التحري والأمن العام واستياق المجتمعين إلى دوائر التحقيق).
إلا أن تجربته مع رجال الكتلة الوطنية، وكان سعاده قد انتقل من التدريس في "الجامعة العلمية" إلى جريدة "اليوم" التي كانت تصدرها الكتلة الوطنية. تجربته هذه أعطته صورة واضحة عن "صبيان السياسة" في بلادنا كما يصفهم سعاده في مقالات له نشرها في جريدة "النهضة" في بيروت، وفي إحداها يقول: "لقد تغنى الكتلويون كثيراً بجهادهم، والحقيقة أنهم لم يكونوا غير مستغلين لجهاد الأمة ومحوّلينه إلى النتائج التي أرادوها لأنفسهم".
بعد أن أمضى سعاده سنة كاملة في دمشق كانت كافية كي يكتشف أن الأرض فيها لم تكن صالحة للزرع، قرر العودة إلى بيروت بعد أن كان أنشأ بعض الصداقات والعلاقات (جميعهم انتموا فيما بعد باستثناء عادل الصلح، وهم: يعقوب جبور، أديب بربر، معروف صعب، محمد روح غندور، محمد روحي خياط، ورياض حمادة.
الاتصالات الأولى التي أقامها سعاده في كل من ضهور الشوير، وفي المثلث الثقافي (المؤلف من بلدات برمانا، رومية وبيت مري) ومنها انتمى رفقاء في بدايات سنوات التأسيس، والبعض منهم كان له شأنه في النضال القومي الاجتماعي، تلك الاتصالات ساهمت في تأسيس الحزب، إلا أن النواة الأولى للتأسيس أوجدها سعاده في الجامعة الأميركية في بيروت التي كان انتقل إليها مدرساً اللغة الألمانية للراغبين من الطلبة.
النواة الأولى تألفت من خمسة رفقاء: 4 منهم كانوا طلبة في الجامعة الأميركية (جورج عبد المسيح، جميل عبدو صوايا، وديع تلحوق وزهاء الدين آل حمود) أما الخامس: فؤاد حداد فهو إبن جريس حداد صاحب المطعم تجاه الجامعة الأميركية حيث كان يرتاده سعاده. وبعد أن تعرف إلى فؤاد انتقل إلى منزل العائلة في شارع جان دارك إذ كانوا يؤجرون غرفاً فيه للطلبة.
المعروف أن اثنين من الخمسة تبين زيفهما (وديع تلحوق وزهاء الدين حمود)، عنهما يقول سعاده: "تظاهرت بأني اقتنعت بصحة قبولهما في حين أن شكوكاً كثيرة خامرتني قي صددهما، ولكني رأيت أن استعين بهذا العدد غير المتجانس على القيام بالاختبار الأول لتأسيس الحزب" (من خطاب أول آذار 1938).
ولأنه لم يكن قد وضع دستور للحزب فقد رأى سعاده أن يكون الطرد بصورة حل للحزب فدعا الأعضاء الخمسة إلى اجتماع وأبدى لهم رغبته في تأجيل العمل الحزبي "إلى أن أكون قد وجدت استعداداً وتفاهماً تامين بين الذين يرغبون في السير معي. وان عملنا قد انتهى وان كل واحد حر" (خطاب أول آذار 1938).
ما يجدر ذكره أن الصعوبات التي رافقت تأسيس الحزب في بدايات الثلاثينات كانت جديرة بأن تثني سعاده عن الاستمرار، والعودة مجدداً إلى البرازيل، كما رغب إليه جورج عبد المسيح: "خير لك يا أستاذ أن تعود إلى مهجرك، أنت مغشوش بهذا الشعب، فالفساد قد غيّر قلبه ولا يمكن أن تجد خمسة يمكن أن يجرأوا على عمل كهذا في ظل الانتداب".
الدكتور أنيس فريحة وكان كاشفه سعاده برغبته في تأسيس حزب يكفل لامته وحدتها ورقيها، يجببه: "اسمك أنطون، وتأمل أن يكون وراءك قاسم وعلي وعبد الساتر؟، بدعسك على رقبتي إن نجحت في مسعاك".
عن ذلك يقول سعاده: "أن الحزب السوري القومي هو أول حزب تجرأ على التأسس في سورية بعد إلغاء الأحزاب وإعلان قانون قمع الجرائم المخيف".
في رسالته الخامسة إلى غسان تويني في 9 تموز 1946 يتحدث سعاده عن ضعف النبتة الحزبية سنة 1933 ويشير "إلى أن رفقاء الزعيم الأول ومعاونيه متفاوتون في المعرفة والإدراك والمؤهلات فبعضهم تفوتهم تفاصيل هامة لا يدركون قيمتها التاريخية وبعضهم يميلون إلى الناحية الشعرية من الأمور، وبعضهم لم يتسن لهم عرفان أمور سابقة لعهد دخولهم وغير ذلك".
مع ذلك فالخمسة الذين تحولوا إلى ثلاثة، أصبحوا 15، فثلاثين في حزيران 1934، فستين ونيف مع آخر العام، حتى إذا عقد اجتماع الأول من حزيران 1935 وفيه تلا سعاده خطابه المنهاجي الأول كان عدد أعضاء الحزب يتجاوز الثلاثماية.
في فترة السنوات الثلاث من العمل السري، ورغم الواقع الذي كانت تفرضه سلطات الانتداب، تمكن الحزب من الانتشار في لبنان والشام وأجزاء من فلسطين، ونظم فروعه في منفذيات، ووضع دستوره فضلاً عن مبادئه، وقام سعاده بزيارات حزبية إلى مناطق طرابلس، الكورة، جزين، برمانا، بيت مري والشوف.
وفي تلك الفترة أيضاً عين سعاده عمداً وشكل منهم مجلس عمد، اختار شكلاً لشعار الحزب من بين أكثر من اقتراح تقدم به رفقاء مهندسون، أصدر أربعة أعداد من مجلة "المجلة" (تلك التي كان أصدرها والده في الأرجنتين، ثم في البرازيل) ودعا الأعضاء إلى اجتماع حزبي عام في دارة نعمة ثابت وفيه تلا عميد الدعاية والنشر (الأمين عبد الله قبرصي) تقريراً عن أعمال العمدات وألقى سعاده الخطاب التاريخي الذي يعتبر من وثائق الحزب الهامة والأساسية. بدوره أنشأ عميد الدعايـة أول لجنة إذاعية مركزية.
تمّ أيضاً اعتماد بطاقة عضوية، وأخرى مالية بحيث يتسلم العضو عند انتمائه وثيقة العضوية (عليها رسمه، توقيعه، وبصمة الإبهام بالإضافة إلى معلومات أساسية عنه) وبطاقته المالية التي تنظم تسديده لاشتراكاته الشهرية.
على صعيد وضع الدستور نبرز النقاط التالية:
1- القسم الذي كان يؤديه الرفقاء الأوائل لم يكن في نصه أية إشارة إلى القوانين أو الأنظمة ولا إلى صفة القيادة وصلاحياتها.
2- كل من الأعضاء الأوائل (يقول الأمين جبران أن عددهم 12، إنما في الشروحات التي ترد في الجزء الأول من "من الجعبة" يتبين أن العدد 15) كان يحمل لقب مؤسس وتشكل منهم مجلس سمي "مجلس المؤسسين".
3- كان الأعضاء الأوائل يتوجهون إلى سعاده تارة بـ "الأستاذ" وطوراً بـ "الرئيس" وأحياناً بـ "الزعيم" إلى أن تمّ الاتفاق على اصطلاح تسمية "القائد العام".
4- وضع "القائد العام" التشريع الأساسي للحزب مواد متلاحقة بلغ عددها أربعين أو خمسين مادة إن لم يكن أكثر (كما يقول الأمين جبران جريج). وفي الثلث الأول من العام 1934 دعا "القائد العام" مجلس المؤسسين إلى اجتماع يعقد للتداول بمسودة "التشريع الأساسي" التي وضعها.
5- عقد مجلس المؤسسين جلسات عديدة لمناقشة المواد، واحدة واحدة، وإقرارها. بعد مشادات وخلافات في وجهات النظر، وكان سعاده لا يتدخل في النقاش إلا قليلاً، لإيضاح إبهام أو شرح إحدى النقاط، توصل "مجلس المؤسسين" إلى حسم موضوع الصلاحيات المطلقة للقائد العام، واعتماد تسمية "الزعيم" وتمت إضافة النصوص التي تشير إلى القوانين والأنظمة في القسم الحزبي.
6- الأمين عبد الله قبرصي لا يتحدث عن ذلك في مذكراته إنما يفيد أنه بعد انتمائه وتعيينه عميداً للدعاية والنشر "كان علينا في بادئ عهدنا بالنشاط أن نضع دستوراً للحزب شاملاً لأن دستورنا كان نواة لا بناء شاملاً، وقد كلفت بوضع مشروع للدستور وبالفعل وضعته، وتبنى سعاده أكثر ما ورد فيه".
ويضيف: "وما إن أطل علينا الدكتور جورج حكيم حتى كلف بوضع النظام المالي وهو جزء هام من دستورنا. ولا يزال نظامنا المالي الحالي هو نفسه الذي وضعه الدكتور حكيم وناقشناه في مجلس العمد وأصدره سعاده بمرسوم تشريعي". ويضيف أيضاً: "أما المشروع الذي قدمته فظل عرضة للتعديل حتى أبرم في 21/11/1934 ثم صنف في 20 كانون الثاني 1937. وقد عيدنا أول مرة في سجن الرمل عيد دستورنا في 21/11/1935". (من الجعبة الجزء الثاني ص 275/276).
برأينا أن الأمرين تلازماً إلى أن وضع دستور للحزب، خاصة أن الأمين جبران يستند في شرحه عن مجلس المؤسسين إلى إفادات رفقاء عايشوا تلك المرحلة: جورج عبد المسيح، فؤاد حداد، فكتور أسعد، جميل عبده صوايا، رفيق مروش.
تلك كانت البدايات. أما أهم مفاصل تاريخ الحزب حتى سفر سعاده إلى المغتربات فنوردها في السياق التالي:
الاعتقال الأول: إثر انكشاف أمر الحزب في 16/11/1935، وقد شكل بدايـة التحـدي بين الحزب والانتداب الفرنسي. وإذا كان الفرنسيون رغبوا أن يحاكموا سعاده على أمل أن يجهضوا تصميمه على بناء الحزب – النهضة، إلا أن سعاده حوّل محاكمته إلى منبر يطرح فيه أفكار الحزب، وإلى محكمة يدين فيها الارادات الأجنبية التي تريد العبث بمصير الأمة. "إني متهم بخرق وحدة البلاد الجغرافية وانتهاك حرمة الأرض. فأراني مضطراً للقول أن خرق وحدة وطننا الجغرافية وانتهاك حرمة أرضنا قد تمّا بالفعل في سان ريمو وسيفر ولوزان، والمسؤولون عن ذلك هم غير الحزب السوري القومي".
الرفيق فكتور أسعد وكان بين الذين اعتقلوا إثر انكشاف أمر الحزب يقول: "ما أشد ما كان اعتزازنا نحن به في تلك اللحظة وما أعظمه في وقفة العز تلك. كنا نكاد نرقص في قفص الاتهام إعجاباً وتحية واعتزازاً. يقال أن سعاده ترك لحزبه قضية ونظاماً. لقد ترك سعاده للأمة كلها تاريخاً مجيداً حافلاً بمواقف العز".
وعن ذلك يقول الأمين الياس جرجي في إحدى مقالاته: "بزغ فجر النهضة في السادس عشر من تشرين الثاني سنة 1935 بعد مرور ثلاث سنوات على تأسيسها السري فتلقى الناس عموماً النبأ المفاجئ بمشاعر ومواقف متقاربة ومتناقضة وراحوا جميعاً يتسقطون أخبار التحقيق والمحاكمة أمام القضاء الأجنبي الفرنسي وخصوصاً ما تكشفت عنه شخصية الزعيم العبقري ودفاعه من جرأة وصلابة وشجاعة لم يعهد مثيلها الانتداب طيلة وجوده".
أما على صعيد الحزب فيقول سعاده في رسالته الرابعة إلى غسان تويني بتاريخ 26 أيار 1946: "لم يكن بين أيدي القوميين الاجتماعيين غير المبادئ والدستور الأولى، وخطاب الزعيم في أول حزيران 1935، ونص كتاب خصوصي موجه مني إلى سائل عن رأيي في العالم العربي، دافع الأعضاء بهذه الوسائل وما اكتسبوه من المحادثات مع الزعيم وما نقل عنه، وبديهي أن هذه الوسائل كانت ناقصة ولا تفي بحاجة عقيدة خطيرة كعقيدة الحزب السوري القومي الاجتماعي ولكن الدعوة القضائية والمحاكمة في المحكمة المختلطة أنقذتا الموقف وأحدث دفاع الزعيم في المحكمة ذلك التيار من القوة المعنوية الذي رفع منزلة الحزب في أعين الشعب وأعين الفرنسيين".
في فترة اعتقال سعاده شارك الحزب عبر نائب الزعيم صلاح لبكي، نعمة ثابت ومأمون أياس في مؤتمر الساحل الثاني، الذي جرى بتاريخ 10 آذار 1936 في منزل السيد سليم علي سلام في بيروت. من الذين حضروا المحامي فوزي بردويل الذي تأثر بموقف الحزب وانتمى (تولى مسؤولية محافظ البقاع لاحقاً). من المعروف أن مؤتمر الساحل أنه نادى بالوحدة السورية وكان له موقف واضح تجاه الانتداب الفرنسي وباتجاه وحدة الأراضي السورية.
فيما سعاده في السجن، أصدرت الحكومة اللبنانية المؤتمرة بأوامر السلطات الفرنسية قرارها بحل الجمعية المسماة الحزب القومي السوري (المرسوم الجمهوري رقم 218/E تاريخ 17 آذار 1936). رغم ذلك كانت القيادة الحزبية خارج الأسر، ومعها العديد من الرفقاء، تستقبل سعاده عند خروجه من سجن الرمل وتواكبه إلى المنزل الذي استؤجر له مقابل الجامعة الأميركية.
أما قوميو بيروت فقد أشعلوا سماء العاصمة مساءً بإطلاق صواريخ الابتهاج والأسهم النارية.
في المنزل وبعد أن قدم نائب الزعيم صلاح لبكي المسؤولين فرداً فرداً مع تسمية المناطق، وفي أول تصريح له قال سعاده: "علمت وأنا في السجن أن الحكومة اللبنانية حلّت الجمعية المسماة الحزب القومي السوري ، أما أنا فأقول أن الحكومة اللبنانية لا تستطيع حل الحزب السوري القومي لأن الحزب السوري القومي أكبر من الحكومة اللبنانية ولأن الحزب السوري القومي يمثل عقيدة تجري في العروق مع الدم فلا يحل بقرار".
الاعتقال الثاني لسعاده تمّ في 30/6/1936 وقد حصل بعد 45 يوماً على خروجه من سجنه الأول في 12 أيار 1936 في هذه الفترة الفاصلة بين الاعتقالين جرت الأحداث التالية:
يقول سعاده في رسالته إلى القوميين الاجتماعيين من الأرجنتين: "كانت المقابلة ودية أظهرت فيها كل التساهل الذي تسمح به قضيتنا القومية، وأفهمت السيد كيفر أن مصالح سورية وفرنسا المتبادلة توجب على المفوضين الفرنسيين الاعتراف بحركتنا والتفاهم معنا، ولكن رئيس الغرفة الفرنسية كان يطمع، على ما يظهر، بالحصول على أكثر من هذه النتيجة مني".
في 8 تموز، أي بعد اعتقال سعاده بأيام، جرت تظاهرات حزبية أمام سجن الرمل والعديد من السرايات المحلية في المناطق، كانت قررتها القيادة الحزبية دعماً لموقف سعاده ورفقائه في السجن.
وفي 27 تموز جرى تأديب ثان للصحافي الغريب (تمّ في ضهور الشوير عندما التقى به الرفقاء وعرفوه فأشبعوه ضرباً).
في 6/11/1936 خرج سعاده من السجن (أي بعد نيف وأربعة أشهر).
في 16 منه وجه نداء إلى القوميين الاجتماعيين يقول فيه: "إني أخرج من السجن بكفالة مالية قدرها خمسماية ليرة لبنانية سورية عائداً إلى وسطكم لنتابع معاً عملنا القومي الصحيح وخططنا السياسية بدون أي تغيير أو تبديل فيها".
ثم يضيف: "أن موقفنا السياسي فيما يختص بالسياسة الجارية والأوضاع الحالية لن يكون على غير ما أعلناه في البلاغ الأزرق الصادر بتاريخ 15 حزيران 1936 وعالجنا فيه القضايا السياسية المحلية، ولن يكون على غير ما هو واضح في شرح غاية الحركة السورية القومية وخططها. إن خصوم الحركة القومية لا يعدمون أن يجدوا في كل خطة سياسية فنية من خطط الحركة موقعاً للتأويل. فمنعاً لأي التباس، نصرّح بأن مبادئنا ستظل هي هي، وبأن كل برنامج سياسي فرعي سيكون مؤسساً على هذه المبادئ ومستمداً منها".
*
من الأحداث التي جرت بعد خروج سعاده من الأسر الثاني نورد ما يلي:
جدير بالذكر أن تشكيلات حزبية كانت رأت النور، بعد بزوغ النهضة وكرد عليها، رغم أن قانون قمع الجرائم
يمنع قيامها. فسياسة فرنسا تقسو وتلاحق الحزب السوري القومي الاجتماعي من جهة، ومن جهة أخرى
تشجع على إنشاء أحزاب من نوع آخر يخدم مصالحها، وهي التالية:
إلى جانب تلك التشكيلات، وبالإضافة إلى الحملات المنظمة التي كانت تستهدف الحزب وتقودها صحف مأجورة، فقد صدر في أواسط الثلاثينات مؤلفان ضد الحزب، أحدهما من منطلق شيوعي بعنوان "أصابع الاستعمار والفاشيستية في بلادنا - الحزب القومي السوري" لفايز يارد، والثاني من منطلق كنائسي للخور اسقف لويس خليل (وكان برتبة مرسل بطريركي ماروني) بعنوان "الحزب السوري مؤامرة على الدين والوطن"، وقد أشار سعاده في "المحاضرة الأولى" إلى الخور اسقف المذكور.
من المعروف أن رفقاء عديدين شاركوا في ثورة العام 1936 في فلسطين، وفيها سقط الرفيق حسين البنا شهيداً في 23 أيلول 1936 ثم القائد سعيد العاص في 7/11/1936 أي بعد خروج سعاده من الأسر بيوم واحد.
الرفيق سعيد العاص له سجل حافل بالنضال، فقد كان قائداً للجبهة الشمالية في الثورة السورية عام 1925، ثم انضم إلى الثورة التي اندلعت في فلسطين عام 1936. هناك التقى بفرقة من المتطوعين للقتال أفرادها من مناطق متعددة ومن طوائف دينية مختلفة. كان فيها ابن الشوف وابن المتن وابن بيروت وابن صيدا من لبنان وأبناء حيفا والناصرة ويافا وما جاورها من فلسطين. وكان فيها المحمدي والمسيحي والدرزي. هي الفرقة الوحيدة التي اجتمع أفرادها على تعداد مناطقهم وتباعدها، اجتماعاً مقصوداً ظهروا فيه بوحدة روحية وفكرية متينة ميّزتهم عن جميع المجاهدين الآخرين. وكان تصرفهم النظامي في غاية الدقة والحماس.
استلفتت هذه الفرقة نظر القائد سعيد العاص فأعجب بروحيتها ونظامها إعجاباً كبيراً وحمله إعجابه على البحث عن سر روحيتها ونظامها فسأل أفرادها فأخبروه بأمرهم وعرفوه حقيقة العقيدة السورية القومية الاجتماعية التي يدينون بها. (الجزء الأول من سيرة شهداء الحزب-الخالدون).
نعود إلى سعاده وهو يدير الصراع من بيروت فنقرأ هنا مقطعاً ورد في خطبة ألقاها سعاده عام 1933 في النادي الفلسطيني في بيروت ففيه يتوضح كيف كان سعاده يستشرف أوضاع أمته، يقول: "إني أخشى أن تكون سوريانا آخذة في الانزلاق من أيدينا المتفرقة، ففي الجنوب تتراجع الخطوط السورية أمام الحدود اليهودية وفي الشمال تتقلص الحدود السورية أمام الحدود التركية".
وأيضاً نقرأ مقطعاً من رسالة سعاده إلى الرفيق عبد الله نعواس في فلسطين، بتاريخ 25 حزيران 1936، يقول فيها: "إن مركز الحزب اليوم في حالة لا يتمكن البعيد من تقديرها، فنحن في معركة شديدة وإن تكن صامتة مع قوى الحكومة والقوى الرجعية التي ترى في حركة الحزب السوري القومي خطراً على كيانها وهذا الضغط في مركز العمل يجعل اشتراك المركز في حوادث سورية غير ممكن من الوجهة العملية، لذلك اعتمدنا على مجهودات أعضائنا في تلك المناطق للقيام بواجبهم في هذه الظروف"، ثم يضيف: "إن وصيتي اليوم إليكم وإلى جميع السوريين القوميين في الجنوب هي أن يقوم كل فرد بما يدعوه إليه الواجب القومي في الظروف العصيبة الحاضرة وأن لا يسمح أحدكم باليأس يتسرب إلى قلبه عند مشاهدته الفوضى في العمل وما يؤدي إليه من نتائج بل أن يظل كلكم يؤمن بأمته التي لن تموت وبحزبه الذي يسير دائماً إلى أمام".
*
الاهتمام بالحدود الشمالية لسورية:
وهنا بعض الأمثلة:
يوم شارون:
"يوم شارون" هو الاحتفال الشعبي الرائع الذي أقيم في شارون تكريماً للرفيق الشهيد حسين البنا، الذي سقط شهيداً في فلسطين والزعيم في الأسر. بعد خروجه من أسره الثاني (امتد من 30/6 إلى 12/11/1936) بادر سعاده فوراً إلى إقامة المهرجان لتكريم الرفيق الشهيد.
يقول الأمين عجاج المهتار الذي شارك في الاحتفال الشعبي: "إن التجمع كان في صوفر، وفي الموعد المحدد زحفت المواكب والعدد بالألوف يتقدمها الزعيم سيراً على الأقدام إلى شارون (طريق السيارات لم تكن قد وصلت) كان المهرجان رائعاً وخطاب الزعيم أكثر عظمة وروعة".
يوم عماطور:
كما كان لزيارة سعاده إلى محافظة اللاذقية في أواسط كانون أول 1936 أثرها الجيد، سياسياً وإذاعياً، وساعدت على نمو الحزب وانتشاره، فقد كانت الزيارة التي قام بها الزعيم إلى الشوف، وخاصة عماطور، تأكيداً على قوة الحركة السورية القومية الاجتماعية.
قبل زيارته عماطور كان سعاده قد زار بعقلين حيث كانت منفذية الشوف قد دعت المسؤولين المحليين للاجتماع بالزعيم الذي شرح مضمون التعاليم السورية القومية الاجتماعية بعد أن مر باستعراض الحالات المرضية السيئة التي وصلت إليها البلاد.
مديريات الشوف الأعلى دعت سعاده إلى زيارتها فوراً وعقد اجتماع في عماطور التي كانت شهدت المصالحة بين العائلتين الكبيرتين، عبد الصمد وأبو شقرا، بفضل العقيدة القومية الاجتماعية التي صهرت أبناء العائلتين المتخاصمتين تاريخياً في وحدة الإيمان والصراع.
المنفذ العام (الأمين كامل أبو كامل) كان يرى أنه بعد أن عقد الزعيم اجتماعاً ناجحاً في بعقلين فلم يعد من ضرورة لعقد اجتماع آخر في عماطور قد يعرّض الحزب لملاحقات جديدة، إلا أنه انصاع لقرار الزعيم، بينما تشبث نائب الزعيم صلاح لبكي برأيه بحجة أن الشوف منطقة معادية للحزب بسبب موقف "سيدة المختارة" التي يساندها الانتداب ويعتبرها ركيزة ودعامة كبيرتين له في هذه المنطقة، خصوصاً أن المتوجهين إلى عماطور سيمرون حكماً في المختارة، إلا أن سعاده قرر أن يتحدى السلطة في عقر دارها.
في 19 كانون الثاني 1937 تلاقت الوفود الحزبية من جميع أنحاء الشوف تتقدمها أعلامها الحزبية وتسير بخطى موزونة كأنها قطع جبارة من جيش مدرب عظيم.
كذلك حضرت القوة الحكومية المستنفرة وحضر معها قائمقام الشوف ناظم عكاري وقائد الدرك في بيت الدين نسيب دحروج. وأمام دار البلدية وساحتها كان التحدي واضحاً: قوة هائلة مستعدة لكل طارئ، وقوات حكومية تطوق الساحة، فيما قوة قومية اجتماعية أخرى خفية تطوق هذه القوات من على السطوح ومن جوانب المداخل إلى الساحة.
وصل الزعيم، فأبلغه القائمقام عكاري وقائد الدرك الأسباب الموجبة لإلغاء المهرجان، فأحالهما سعاده إلى المنفذ العام للتفاوض والمشورة.
في هذه الأثناء، بدا الزعيم خطابه، في وقت بدأ الرفقاء المسلحون فوق السطوح وعند المداخل يظهرون تباعاً، مما جعل السلطة المحلية ترى أن الاصطدام لن يكون لصالحها، كما أنه لم يعد بإمكانها إلغاء المهرجان، والزعيم كان قد بدأ الكلام.
يوم بكفيا:
كانت الصحف قد راحت تتحدث بعد يوم عماطور عن الفشل الذي منيت به السلطة التي عجزت عن أن تحول دون عقد المهرجان. لذلك رغبت السلطة أن تعطل اجتماع بكفيا بعد أن كانت سمحت به لتظهر بمظهر القوة وتستعيد معنوياتها، فسيّرت قوة من الدرك مع أوامر صارمة بمنع إقامة المهرجان. مرة جديدة تفشل الدولة، ومحاولاتها اصطدمت بسد منيع أسفر عن جرحى من الطرفين وعن عدد كبير من البنادق المحطمة.
اعتقل رفقاء، ولوحق غيرهم، كما تمّت ملاحقة سعاده إلى أن اعتقل في المريجات عند حاجز للدرك، وكان متوجهاً إلى الشام في سيارة الرفيقة وداد ناصيف، ومعه جورج عبد المسيح. ما يهمنا هو البيان العنيف الذي أصدره سعاده في الأول من آذار 1937 بعد مهرجان بكفيا، ومنه نقتطع التالي:
"إننا نعلن أن كياناً من هذا النوع هو كيان فاسد من أساسه. فإذا كان للبنان كيان فهو كيان الشعب اللبناني كله. إذا كانت الطبقة الحاكمة في لبنان تعتبر أنها هي لبنان وأن الشعب ليس سوى الجماعة المحكومة فلنا الشرف أن نعلن أن من أهم أهداف الحزب السوري القومي الاجتماعي إزالة هذه الصورة السيئة لحياتنا القومية – صورة الحاكم والمحكوم – والقضاء على الامتيازات المدنية في الدولة .
"إن الدولة هي جمعية الشعب الكبرى وكل فرد من أفراد الشعب مشترك في حياة الدولة هو عضو في الدولة وما السوريون القوميون الاجتماعيون في لبنان سوى أعضاء في الدولة اللبنانية، وكل حكومة تحاول أن تربط مصير الشعب بمصيرها هي، تكون حكومة خائنة مصلحة الدولة. والحكومة التي تمنع أعضاء الدولة من التفكير في مصير دولتهم ومن استعمال حقوقهم المدنية والسياسية في تقرير هذا المصير حكومة قد تجاوزت حدودها وخرقت حرمة المبادئ التي تقوم هي نفسها عليها وعصت إرادة الشعب الذي له وحده حق تقرير مصيرها ومصيره. إن حكومة من هذا النوع يجب إعلانها حكومة عاصية. وإني أعلنها حكومة عاصية".
في الفترة بين يوم عماطور ويوم بكفيا، وبعد أن صنف دستور الحزب في 20/1/1937 – وقد أضيف إليه مرسوم رتبة الأمانة – دعي الأمناء الذين كان سعاده منحهم الرتبة إلى اجتماع في منزل نعمة ثابت، وبحضور الزعيم، تمّ انتخاب أول مجلس أعلى للحزب، ففاز بالعضوية الأمناء فخري معلوف، نعمة ثابت، مأمون أياس، جورج عبد المسيح، كامل أبو كامل، عبد الله قبرصي، ومعروف صعب.
وجرى الاقتراع على الرئاسة ففاز فخري معلوف برئاسة المجلس، (إنما استقال لاحقاً بسبب سفره فانتخب نعمة ثابت رئيساً).
الاعتقال الثالث وهو الأخير قبل مغادرة سعاده الوطن، تمّ في 9 آذار 1937، كما ان حملة الاعتقالات شملت المناطق اللبنانية كلها حتى أن عدد المعتقلين في سجن بعبدا وحده بلغ مئة وخمسة وثلاثون رفيقاً، والتهمة التي شملت الجميع هي تهمة العمل في حزب منحل.
خارج السجن تولى القيادة الحزبية الأمين أنيس فاخوري بعد أن كان سعـاده أصـدر، وهو في السجن، مرسوماً بتعيينه نائباً للزعيم له كل الصلاحيات الإدارية التنفيذية، إلا السياسية منها، وساعده في القيادة هيئة تنفيذية من مفوضين (جبران جريج للمالية، قاسم حاطوم للداخلية، إميل خوري حرب للإذاعة، وفريد مبارك الذي كان عميداً قبل الاعتقال).
لم تطل إقامة الزعيم في السجن، ذلك أن الدولة كانت مقدمة على خوض الانتخابات النيابية، وتحتاج إلى قوة الحزب، والحزب بدوره كان بحاجة إلى فترة من الراحة ليعيد تنظيم فروعه وأوضاعه.
لذلك فإن الاتصالات السياسية أسفرت عن هدنة بين الدولة والحزب، يوضحها سعاده في رسالته إلى غسان تويني بتاريخ 26 أيار 1946 إذ يقول:
"وما خرجت من السجن في أيار سنة 1936 حتى عدت إليه في حزيران سنة 1936 وفي السجن وضعت "شرح المبادئ" الذي بلور العقيدة وصفاها من التآويل غير المسؤولة ومن المخالطات الغريبة. وبعد خروجي من السجن الثاني ببضعة أشهر جرت اصطدامات بكفيا المشهورة وحصل السجن الثالث.
فيكون غياب الزعيم، موجد العقيدة وصاحب الدعوة، عن الحزب وعمله الإداري السياسي مدة سنتين تتخللها فترتان قصيرتان جداً. وكانت الحرب على العقيدة تشتد وكان يجب ارساخ العقيدة في الحزب وصيانته من الميعان المبادئي والأخلاقي المتفشي في شعبنا وإكسابه الصلابة والمناعة اللتين هما، مع رسوخ العقيدة، كل رأسماله المعنوي الذي يكسبه هذه المنزلة الممتازة في الأمة ويؤهله لبدء المرحلة الجديدة – مرحلة دخول ميدان السياسة العملية. والحقيقة ان هذه المرحلة كانت قد ابتدأت في زمن السجن الثالث حين شعرت الحكومة اللبنانية بمناعة الحزب وصلابته وحاجتها إلى التفاهم معه فابتدأت من جانبها بمفاوضة الزعيم في السجن فقبل الزعيم المفاوضة وتمكن من الفوز بذلك "التفاهم" مع الحكومة اللبنانية المؤلفة من حزب إميل اده – خير الدين الأحدب وكان من وراء ذلك الإفراج عن المعتقلين وعدم التعرض لحركات الحزب والسماح للصحف بنشر أخباره واكتساب الرخصة بإصدار جريدة "النهضة" وإصدارها أشهراً عديدة وطبع مبادئ الحزب مشروحة بقلم الزعيم وكتاب "نشوء الأمم".
عن ذلك يقول الأمين جبران جريج في الجزء الثالث من كتابه "من الجعبة" أن سعاده طالب، وحصل على ما يلي:
ويضيف أن سعاده أوضح في رسالة قدمها أن الحزب لا يعمل على هدم الكيان اللبناني، وهذا نصها:
"أنا أنطون سعاده أؤكد أن المبادئ القومية هي عقيدة علمية تعمل في سبيل تحقيق وحدة المجتمع ولا تعمل على هدم الكيان اللبناني".
في الفترة التي أعقبت خروج سعاده من الاعتقال الثالث، وحتى مغادرته الوطن حصلت أمور عديدة منها:
أما الأبرز فهي الانتخابات النيابية في كل من الشام ولبنان.
عن الانتخابات النيابية الشامية يقول الأمين الياس جرجي أن "الحزب خاضها في معظم المناطق بزخم قوي وفاعلية لفتت إليه اهتمام الأصدقاء والخصوم. وقد كان له في بعض الدوائر الانتخابية مرشحون من أعضائه، وأيد في المناطق الأخرى مرشحين من أنصاره".
في الانتخابات المذكورة نجح الياس الجرجس فكان أول نائب يفوز بدعم من الحزب في دائرة الحصن – تلكلخ. ومن جرائها خسر عزيز حديد رتبة الأمانة فجرد منها بسبب موقفه في الانتخابات.
الجدير بالذكر أن الحزب خاض الانتخابات في مواجهة لوائح السلطة في العديد من المناطق، مؤكداً على حضوره الجيد في الوسط الشعبي.
أما بالنسبة للانتخابات النيابية في لبنان فإن أوضح شرح لها هو ما ورد في خطاب الزعيم في أول آذار عام 1938 يقول: "جاءت الانتخابات اللبنانية بعد مدة قليلة من وقت خروجنا من السجن (في أيار 1937)، وكان جو هذه الانتخابات متجهماً والدعاوات سائرة على قدم وساق. وبرزت الأنانيات الجامحة على المسرح. وظن بعض أصحاب هذه الأنانيات أنه يستطيع تسخير الحزب السوري القومي الاجتماعي لأغراضه وتضحيته على مذبح شهواته. أما الحزب فتجاه ما كان متراكماً عليه من القضايا الجزائية وتجاه الحاجة إلى وقت لإعادة تنظيمه بعد نحو سنتين من اعتقالات وملاحقات لم يكن في حالة تسمح له بخوض المعركة الانتخابية بأساليبها الطائفية الفاسدة وإمكان شراء أصوات كثيرة بالمال فضلاً عن الاتجاهات السياسية، التي كنت أرى خطوطها بجلاء. ولذلك فضلت العمل لمصلحة الحزب، لا سيما ونحن لا فرق عندنا بين حكوميين ومعارضين في السياسة الحاضرة فكان موقف الحزب السوري القومي الاجتماعي في الانتخابات أعظم الانتصارات السياسية.
إن هناك أفراداً تعودوا تسخير الأحزاب التقليدية لمنافعهم الخاصة فظنوا أنهم ينالون من الحزب السوري القومي الاجتماعي ما كانوا ينالون من الأحزاب الأخرى. وقد ساء فألهم، لأن الحزب السوري القومي الاجتماعي يقول أن الأفراد يسخرون للقضية القومية لا القضية القومية للأفراد".
وإذا كان عزيز حديد قد سقط قومياً اجتماعياً في انتخابات الشام فإن عميد الإذاعة إميل خوري حرب سقط بدوره إذ كان من الطامعين بالترشيح عن منطقة البترون. راح يبتعد عن الحزب إلى أن انزوى كلياً.
*
سفر الزعيم
في 11 حزيران 1938 غادر سعاده بيروت متوجهاً إلى دمشق، فعمان حيث التقى الأمير عبد الله، فإلى حيفا حيث مكث أياماً قبل مغادرته إلى قبرص. فيها أمضى سعاده ما يقارب الشهر وجّه أثناءها العديد من الرسائل إلى المجلس الأعلى في بيروت كما إلى رفقاء في الوطن وعبر الحدود وفي 28 تموز غادر سعاده قبرص متوجها إلى إيطالياً، فإلى ألمانيا ومنها سافر إلى البرازيل.
مع بداية اغتراب سعاده تنتهي مرحلة المهادنة التي كانت قائمة بين الحزب والس
لطات المحلية اللبنانية وبالتالي الفرنسية. كانت الهدنة قد دامت سنة كاملة وبضعة أيام.
كان سعاده قد ابلغ المجلس الأعلى أنه يزمع السفر إلى المغتربات لجمع مبلغ كاف يغطي النفقات المركزية، ولتنظيم فروع الحزب، قبل ذلك كان قد قرر في إحدى جلسات مجلس العمد ضرورة قيامه بجولة إلى مناطق عبر الحدود للسببين أعلاه. وقبل الموعد المحدد للسفر علم سعاده من مكتب حزبي مختص بجمع المعلومات الأمنية أن السلطات تتجه إلى اعتقاله فبادر إلى تقريب موعد المغادرة وترك بيروت في الموعد المشار إليه أعلاه. وبالفعل فقد بدأت السلطات بمداهمة مركز الحزب وبيوت القوميين لكنها فوجئت بأن سعاده ليس في لبنان، وبالتالي فإن الخطة التي وضعتها دوائر الأمن العام بالاشتراك مع بعض المراجع العليا من أجل القضاء على الحزب قد فشلت.
في عدد "سورية الجديدة" – التي صدرت في البرازيل – بتاريخ 11/3/1939 نقرأ لسعاده:
"في الحقيقة إن هذه الملاحقة الرابعة كانت بناء على ما بلغ دائرة الاستخبارات الفرنسية من قيام الحزب بتوسيع دائرة التدريب التطوعي وتوزيع بعض الخبراء العسكريين على يعض المناطق الاستراتيجية وإعداد الزعيم برنامج رحلته إلى المهاجر، فأوعز إلى مكتب التحريات بملاحقة الحزب والقبض على زعيمه وأركانه".
لذا انفجر حقد الدوائر المتربصة الحاقدة خاصة بعد أن عجزت عن معرفة مكان سعاده إلا بعد مرور شهر، فتبين لها أنه في قبرص. فيما كان مكتب التحريات (تولاه القاضي فرنان ارسانيوس) يقوم بحملات الدهم والبحث والاعتقال.
سعاده في المغترب، والحزب في غياب سعاده، حديث يطول.
في: 15/11/2023 لجنة تاريخ الحزب