الرفقاء الذين شاركوا في الثورة الانقلابية اعتقلوا في بادئ الامر في ثكنة الامير بشير ومنها كانوا يتوجهون الى قصر الأونيسكو الذي تحول الى محكمة ترأسها في البدء الزعيم جميل حسامي وفي الاستئناف القاضي الاستاذ اميل ابو خير.
بعد صدور الأحكام (1) نقل الأمناء والرفقاء اسد الاشقر، عبدالله سعادة، انعام رعد، فؤاد عوض، شوقي خيرالله، علي الحاج حسن، صبحي ابو عبيد، بشير عبيد، ديب كردية، محسن نزهة، جبران الاطرش الى سجن الرمل حيث عوملوا معاملة لا تقدم عليها وحوش الغابة ثم نقلوا بعد احتجاجات واضراب عن الطعام الى سجن القلعة في بيروت.
اما الرفقاء الآخرون وعددهم يناهز 150 رفيقا فقد نقلوا الى سجن القبة في طرابلس وفيه أمضوا سنوات قبل نقلهم في خريف عام 1966 الى سجن القلعة.
اما عن الثورة الانقلابية، عن التعذيب الوحشي، عن سقوط شهداء ابطال تصفية خارج المعتقل، او تحت التعذيب، عن مواقف البطولة في المحكمة، عن الاضراب عن الطعام، عن التصدي والمواجهة والعنفوان، عن عمل الرفقاء خارج الاسر وتعرّض العديد منهم للسجون، فهذه كلها تحتاج الى كلام كثير، علّنا، ورفقاء آخرون معنيون، نحفظ القليل من هذا الكثير المشع بكل وقفات العز.
*
من كتابيّ الأمينين منير خوري: "سفينة حياتي" وابراهيم زين: "قطاف من حقول العمر" هذه المعلومات التي تضيء على الاداء القومي الاجتماعي للرفقاء في سجن القبة، وقد حوّلوه الى مدرسة ووحدات انتاجية ادهشت كل من تعرف اليها من ضباط الامن الداخلي والمكتب الثاني اللبناني.
وإذا كان سجن القبة تحوّل الى مدرسة، فسجن القلعة في بيروت الذي انتقل إليه الرفقاء من القبة صيف العام 1966 لينضموا الى من كان سبقهم من امناء ورفقاء، لم يكن اقل منه تجسيداً لفضائل الحياة القومية الاجتماعية.
عنه سنحكي لاحقاً.
*
من كتاب الأمين ابرهيم زين:
" في أواخر شباط من العام 1964، جرى نقل جميع الرفقاء المحكومين نتيجة اشتراكهم الفعلي بالمحاولة الانقلابية أواخر العام 1961، باستثناء الامين انعام رعد والرفيق صبحي أبو عبيد والمحكومين بالإعدام من الرفقاء والأمناء مع الضباط العسكريين الثلاثة الذين ظلوا في سجون بيروت، ورحّلنا جميعاً الى سجن القبة في طرابلس شمال لبنان!
يتألف السجن المذكور من طابقين وقد خصص للمساجين القوميين الاجتماعيين.
فور صعودنا الى الشاحنات التي نقلتنا من ثكنة الامير بشير، في بيروت، الى سجن القبة، في طرابلس، وعلى امتداد مسافة الطريق، كانت أصوات الرفقاء تملأ الأجواء بالأغاني والأناشيد الحزبية، وعند مرورنا في منطقة صربا حيث يوجد القصر الجمهوري، تعالت هتافات الرفقاء بحياة سورية وسعاده، وفور دخولنا الى السجن المذكور، استقبلنا من قبل الدرك بالضرب والشتائم، بقصد ارهابنا!
بعد مرور عدة أيام في هذا السجن، وعلى اثر تلاسن بين احد الدركيين والرفيق أوغست حاماتي(2)، وتعرّضه للإهانة، قررنا الرد على الدرك بشبه عصيان جماعي، والاستعداد لتأديب الدرك بالضرب، أثناء فترة التعداد المسائية، ولما علمت قيادة السجن بذلك، فاوضت الأمناء مصطفى عز الدين، منير خوري، ادمون كنعان وجبران جريج.
وانتهى هذا الإشكال مع الدرك بنقل العسكريين الذين تعرضوا لنا بالإهانة، واعتذار الضابط، مسؤول السجن علناً للرفقاء، أثناء فترة التعداد المسائية، ثم أخذت تتلاشى شيئاً فشيئاً ويوماً بعد يوم طريقة التعامل معنا، حيث تطورت سريعاً من حسن الى أحسن.
بعد استقرارنا في سجن القبة، تبلّغنا تعيين الأمين مصطفى عز الدين مسؤولاً حزبياً عنا، وتحولت غرف السجن الى وحدات حزبية (مديريات) وكلف الأمين ادمون كنعان بضبط موضوع الإنتاج ورعايته.
" بعد مرور فترة من وجودنا في هذا السجن، استقال الأمين مصطفى عز الدين وتسلم المسؤولية الحزبية الأمين الدكتور منير خوري، حيث تطورت طريقة معاملتنا بعد صدامات متكررة مع إدارة السجن الرسمية، تدرجت من التمنع عن الخروج الى النزهة اليومية، والإضراب عن الاستحمام، ومقاطعة دكان السجن، لشراء ما نحتاجه يومياً، مع تهديد بالإضراب عن الطعام، وكان يرافق هذه المواقف مذكرات يقدمها الأمين منير خوري عنا الى إدارة السجن الرسمية، وبنتيجة هذه الجهود، نظمت حياة الرفقاء اليومية على القواعد التالية(3):
وبعد مرور بضعة أشهر تحوّل السجن عملياً الى مدرسة داخلية، وخلية إنتاج منظم.
كما أصدرت اللجنة الإذاعية المؤلفة من الرفقاء: نجيب اسكندر(4)، سليم متري(5)، ابراهيم زين(6)، و فؤاد ذبيان(7)، مجلة اسمتها: "النافذة" حيث تضمنت عدة أبواب ثقافية – عقائدية – ترفيهية – سياسية، يشرف على تحريرها الرفيق فؤاد ذبيان ويعاونه في اخراجها الرفيق حسن رؤوف حسن(8)، تصدر شهرياً ويطلع على مواضيعها الرفقاء في غرفهم.
كما أن حياتنا الحزبية عرفت تنظيماً مبتكراً، فكان هناك مسؤول إداري عن الغرفة، لضبط المسائل الحياتية للرفقاء، ومسؤول حزبي لتوجيه الرفقاء عقائدياً، وله صلاحية فصل الرفيق الذي يرتكب خطأ، عقوبة حزبية تتدرج من التنبيه واللوم والتأنيب والفصل لمدة اسبوع، ثم رفع أمره الى المسؤول الأول الحزبي في السجن، مع اقتراح عقوبة أكبر".
*
ومن كتاب الأمين د. منير خوري:
" لم يمر وقت طويل حتى بدأ المردود المادي للإنتاج، من جزادين خرزية، ولوحات فنية على أنواعها، ونرابيش أراكيل، وغيرها، يسد قسماً كبيراً من الحاجات المادية من طعام وأدوية ولباس. أكثر من ذلك، شرع بعض السجناء النشيطين انتاجياً، في مساعدة أهاليهم في حدود ثلاث مئة ليرة شهرياً، (وكانت القوة الشرائية لليرة اللبنانية في أوج مجدها).
" ساعدنا عدد كبير من اصدقاء وصديقات للحزب(9) بجد وإخلاص في بيع تلك السلع الى المحلات التجارية والبيوتات اللبنانية. وبلغت حصيلة ما جمعناه من الضريبة على القطع المنتجة حوالي ثماني مئة ليرة، أودعت الصندوق العام عند ادارة السجن. كانت هذه القيمة مخصصة لتغطية النفقات لبعض الرفقاء من أدوية وأمور شخصية متنوعة.
علمت، بعد خروجنا من السجن ان جمعاً من الرفقاء الذين تعلموا على ايدي رفقائهم من حاملي الشهادات الثانوية، أو الجامعية، أموراً، كاللغات: الإنكليزية والفرنسية والعربية، واموراً أخرى كأصول "مسك الدفاتر"(10) والمحاسبة، وغيرها استطاعوا التوظف في عدد من الشركات والمؤسسات التجارية.
" ما ان مرت سنة تقريباً على دخولنا سجن القبة حتى أصبح معتقلنا محط أنظار الإدارة ومضرب المثل في النظام والتنظيم، إلى ان فاجأنا يوماً وفد رفيع المستوى مؤلف من مدير مخابرات الجيش غابي لحود، مدير الأمن الداخلي محمود البنا، يرافقهما آمر السجن فيصل فرحات. كانت نشاطاتنا الثورية، كما يبدو، أثارت حفيظة السلطة فجاء هذا الوفد للتعرف الى هذه القفزة النوعية الايجابية والأولى من نوعها في تاريخ السجون اللبنانية، وربما في العالم.
يضيف الامين منير: " أول سؤال طرح علي مباشرة كان من غابي لحود، بصفتي "المسؤول الاول" (وهذه التسمية الحزبية أعطيت مؤقتاً) عن السجناء القوميين "كيف استطعتم أن تصلوا الى هذا المستوى من النظام والتنظيم وتجعلوا من هذا السجن خلية انتاجية على هذا المستوى؟"، كان جوابي الفوري: " الفضل يعود كله الى الروح النظامية التي تشرّبها هؤلاء الرفقاء منذ اليوم الأول لاعتناقهم العقيدة القومية الاجتماعية".
قاطعني الضابط لحود ولم يدعني أكمل حديثي، وشعرت فوراً أنه لا يريد الاستماع الى محاضرة في العقيدة والنظام والتنظيم، ثم غيّر مجرى الحديث وقال: "نحن جئنا لا لنسمع محاضرة عن العقيدة القومية الاجتماعية، ولا عن النظام والتنظيم اللذين تفتخران بهما. نريد أن نعرف عملياً، كيف تمكنتم، وأنتم سجناء، من تحقيق هذه الأعمال؟"
عندها شرحتُ لهم بالتفصيل كل الخطوات التنظيمية التي قمنا بها لتحويل السجن الى خلية انتاجية، من جهة، والى مدرسة تنتج فكراً وصناعة وثقافة وفناً. ثم اسهبت في الحديث أن العدو الأول للسجين، ولكل إنسان، على الاطلاق هو "الفراغ" – هذا الفراغ القاتل للروح والنفس والعقل وحتى الجسد. لذلك كان لا بد لنا من معالجة هذه المشكلة أساسا،ً وسد هذا الفراغ قبل البدء بأي عملية تأهيلية للسجين. وهذه المعالجة لا تتم إلا بالعمل والإنتاج، لأن العمل قبل كل شيء، كما يقول المفكر الفرنسي فولتير: "ينقذ الإنسان من آفات ثلاث: الفقر والملل والرذيلة". ونحن في هذا المعتقل قتلنا الملل والفقر والسأم والرذيلة، وحققنا حاجة بيولوجية – فيزيائية – نفسية في آن.
" استمر الحديث على هذا المستوى حوالي خمسين دقيقة، والوفد الثنائي، لحود والبنا، يطرح السؤال تلو السؤال، وشعرتُ فعلاً بنشوة الحديث كما شعرا هما ايضاً بالشيء عينه، وبدافع فضولي غريب. كان ذلك طبعاً في غرفة صغيرة منفردة، حتى انتهى الحوار بالسؤال الذي كان كما يبدو في ذهن لحود عندما التفت الى زميله البنا وقال بالحرف الواحد: "يا محمود، الدولة تفكر جدياً ومنذ زمن بعيد بالاستعانة بخبراء من بريطانيا لمساعدتنا في عملية تأهيل السجون والمساجين في لبنان، والظاهر أن لدينا "الدك" (وكأنه يحاول أن يقول الدكتور) ولكنه غير لهجته وأكمل: يبدو أن منير خوري هنا يستطيع أن يقوم بهذه المهمة". ثم التفت إلي موجهاً السؤال: "شو رأيك يا منير؟" ابتسمت وأجبته فوراً ودون تردد انني مستعد لكل خدمة استطيع أن أؤديها في هذا الحقل الإنساني – التربوي، ولكن لي طلب بسيط لا بد من تحقيقه قبل البدء بهذه المهمة الإصلاحية – التأهيلية الكبرى. فهل أستطيع مثلاً، الحصول على الضوء الأخضر بإدخال جميع المواد التربوية من كتب ونشرات وأقلام، والقاء بعض المحاضرات، وإدخال الموسيقى، وإلى ما هنالك من أمور ومعالجات تربوية؟ ثم قبل كل شيء، لا بد من الامتناع عن جميع أنواع الضرب والإهانة والأذى والإذلال المادي والمعنوي عن السجناء المراد تأهيلهم؟ عندها ابتسم وهز رأسه قائلاً: "لا، لا هذا مستحيل".
*
من جهته يوضح الامين ابرهيم زين في كتابه، ما يلي: "وفي حقل التدريس، كان الرفيق حنا قيصر(11) معلم المحاسبة والرفيقان محمد وشقيقه عبد الحفيظ عطايا(12) يعلمان الانكليزية، كما تطوع الكثيرون لمكافحة الأمية وتعليم الرفقاء مبادئ القراءة والكتابة، ومن الذين تعلموا بعد أن كانوا اميين، الرفيق حسين الجميلي، وهو من سكان البادية، قرب حمص, وعدد آخر من الرفقاء أمثاله.
بقينا في سجن القبة حتى خريف العام 1966، ثم نقلنا الى سجن القلعة في بيروت، بعد إضراب عن الطعام استمر قرابة الثلاثة اسابيع.
*
وجّه الامين منير خوري بصفته المسؤول الاول عن سجن القبة رسائل توجيهية في المناسبات الحزبية اضافة الى مقالات عقائدية، لمزيد من التثقيف القومي الاجتماعي.
من تلك الرسائل والمقالات اخترنا الكلمة الموجهة الى الرفقاء الاسرى في ذكرى تأسيس الحزب بتاريخ 16/11/1964:
" ايها الرفقاء،
هذه هي الذكرى الثالثة التي نحتفل بها في هذا السجن، والثالثة والثلاثين في حياتنا العامة، فننهي بذلك اعيادنا القومية لهذه السنة ويكتمل بها ثالوث حياة زعيمنا الخالد.
غير ان الحدث الذي نحتفل بذكراه اليوم – ذكرى التأسيس – يختلف عن الحدثين السابقين: مولد الزعيم واستشهاده، في امر اساسي هام، وهو انه فيما تخضع جميع احداث الولادة والموت الى الحتميات الطبيعية، يرفض الحدث الذي نحتفل به الان، الخضوع الا الى الارادة الانسانية الخلاقة.
فبينما بذكرنا الاول من آذار بولادة الربيع وبهجة الحياة وعبقرية الزعيم،
ويذكرنا الثامن من تموز بحرارة الايمان وثورية الروح واستشهاد المعلم،
يذكرنا السادس عشر من تشرين الثاني بصناعة التاريخ وبناء الحضارات ومعنى الخلود الحقيقي.
الولادة والموت امران محتمان وليس للإنسان من سلطة عليهما، واما المساحة التي تفصل بينهما فليس فيها شيء من الحتمية، بل تخضع بكاملها الى الارادة الانسانية. لقد اختصرها الزعيم بوقفة عز وخلّد نفسه بيوم واحد، هو السادس عشر من تشرين الثاني.
" ولد الزعيم سعادة فرأى نفسه امام قطعان من البشرية تمشي بفعل عامل قوة الاستمرار، تسير من المهد الى اللحد، تبدأ بالعدم وتنتهي بالعدم، وكأن احدا لم يكن.
وكغيره من عظماء التاريخ، ابى الزعيم ان يستمر مع الجماهير المقيدة بسلاسل العبودية الراضخة لمشيئة القضاء والقدر، المستسلمة لحتميات الطبيعة. وقف يتحدى الزمن والتاريخ والقضاء والقدر، قائلاً: لا، لن اخطو خطوة واحدة قبل ان اعرف من انا؟ الى اين؟ ولماذا؟
خلا الى نفسه ونفذ الى اعماق اعماقه عله يصل الى ذاته الانسانية فيكلم الاله فيها كما كلم من قبله العباقرة والرسل والانبياء آلهتهم. وهناك وجد ضالته الاولى فعرف ان "الانا" هي ذات اجتماعية.
قرأ ودرس وفكر، ثم القى نظرة شاملة من اعالي الجبال الشامخة فرأى حدود بلاده واضحة جلية، وأطلّ على امجاد امته الغابرة، فرأى فيها الحق كل الحق والخير كل الخير، والجمال كل الجمال.
ثم عاد والتفت فيما حوله، فرأى الجماهير التي انفصل عنها منذ زمن بعيد قريب لا تزال تتخبط في سيرها كالخراف الضالة:
فمنهم من اسرف في تصرفاته في دنياه وكأنه يعيش ابداً، ومنهم من بالغ في تصوفه وانكماشه على نفسه وكأنه يموت غداً، ومنهم من اعتبر حياته نزهة جميلة ليس ألاّ، فغاص في ملذاته وميوعته ولامبالاته.
هز الزعيم رأسه ثم انتفض قائلاً: لا، لن اخطو خطوة واحدة مع هذه الجماهير الببغاوية بعد الان. انهم لا يعلمون ماذا يفعلون. لا، لا يمكن ان تكون حياة الانسان بهذا الرخص: من المهد الى اللحد؟ من العدم الى العدم؟ لا، فالمسافة التي تفصل ولادة الانسان عن موته لا يمكن ان تقاس بمقاييس الزمان والمكان، وعمر الانسان ليس بالسنين المعدودة التي يعيشها. ان حياة الانسان لأعمق من ان تقاس بمقاييس زمنية، واهم من ان تقيّم بترف مادي مكاني.
الحياة ليست وسيلة لغاية، فهي أقدس وأطهر من ان تنزل الى مرتبة الوسيلة. انها الوسيلة والغاية بآن واحد.
لا، لن اخطو خطوة واحدة بعد الان مع هؤلاء العبيد الذين عبدوا كل شيء وآمنوا بكل شيء.. الا بأنفسهم.
نعم علي ان انقذهم واغيّر سبيلهم، ففي نفسي، كما في نفوسهم، قوىً لو فعلت لغيرت مجرى التاريخ.
وهنا سكت الزعيم بعد ان ارتسمت على فمه ابتسامة النصر، وعاد الى عرزاله المتواضع الشامخ، فكان الاساس، فكان البناء، بناء النهضة القومية الاجتماعية.
" ايها الرفقاء، ايها القوميون الاجتماعيون،
عيد التأسيس كلمة، والكلمة نتاج حضاري، والنتاج الحضاري – كل نتاج حضاري – له وجهان:
وجه مادي، ووجه روحي. هذا هو اساس فلسفتنا المدرحية.
والتأسيس، بوجهه المادي لا يختلف كثيراً عن وجهه الروحي، فهو كقطعة النقود، ذات وجهين مختلفين في الشكل، متحدين في الجوهر.
وعملية التأسيس بوجهها المادي لها معان عديدة تظهر بمراحل اربعة:
1- عملية الحفر العميق
2- الوصول الى القاعدة الصخرية
3- عملية الصهر
4- عملية الانطلاق
يقابل هذه المراحل الاربعة في التأسيس المادي مراحل اربع في عملية التأسيس الروحي التي لا بد لنا، ونحن نحتفل بهذا العيد: عيد التأسيس، ان نستوعب مفهومها استيعاباً تاماً لنرى فيما اذا كان البناء القومي فينا مستوفياً جميع الشروط المذكورة اعلاه.
لنضع أنفسنا اليوم تحت مجهر ضميرنا القومي، ولنحكم على متانة الاساس الذي نحتفل بذكراه.
اولاً: في عملية الحفر العميق، علينا ان ندرك ان الحركة القومية الاجتماعية هي ثورة في.. قبل ان تكون ثورة على.. يجب ان نعلم ان القومية الاجتماعية بالمعنى الصحيح ليست في حفظنا المبادئ واستيعابنا للفلسفة القومية، حتى ولا في ثورتنا بوجه الطغيان، وحملُنا سلاح الجهاد وحسب، بل انها ليست شيئاً من هذا ان لم تدخل هذه الثورية وتترسخ هذه المبادئ في اعماق اعماقنا وتغير شخصيتنا من الداخل كما غيرتها من الخارج. كما جاء في جواب رفيقنا الذي قال لاحد المحققين: انا لم ادخل الحزب القومي بل هو الذي دخل فيّ. ليس أجمل من هذا الجواب على ما نعنيه بالمرحلة الاولى من التأسيس، اي مرحلة التعمق في الحفر.
ثانيا: مهما تعمقت المبادئ القومية الاجتماعية فينا تبقى عرضة للخطر ما لم ترتكز جميعها على صخرة الاساس، وهذه الصخرة عندنا هي ذاتنا الانسانية التي لا بد لنا من اكتشافها وتأسيس حياتنا عليها. هذه الذات التي ينكرها علينا الماديون المتطرفون، كما ينكرها علينا الروحانيون – القضاء- قدريون.
فالفئة الاولى تنظر الى الانسان نظرة الكيمائي الى اي مادة تخضع للتحليل الكيمائي وتجعل منه سلعة مادية وقطعة ميكانيكية خاضعة لفعل عوامل الطبيعة.
والفئة الثانية ترى الانسان عبداً حقيراً مسيّراً بقدرة الهية خفية. فلا ترى في حياته على هذه الارض سوى وسيلة، لا أكثر ولا اقل، لحياة اخرى في عالم غير عالمنا ودنيا غير دنيانا. اما نحن فننظر الى الذات الانسانية الكامنة فينا نظرتنا الى الله، ونعتبر ان هذا الانسان الذي قزّمته الفئات الاخرى، يحوي في اعماقه قوة، ان اكتشفت وفعلت لغيرت مجرى التاريخ.
ثالثاً: ان عملية التأسيس الروحي، كعملية التأسيس المادي، لا يتم لبناء فيها ما لم تجر تنظيفات اساسية عامة. فكما ان الاسمنت لا "يعشق" على صخرة ملوثة بالتراب والاوساخ، كذلك المبادئ القومية الاجتماعية لا تتفق والادران العالقة فينا من المجتمع الفاسد. لا بد لنا في عملية التأسيس من تنقية نفوسنا وعقولنا من جميع التقاليد الرثة
البالية والعادات الفردية الهدامة، وصهرها في العقيدة القومية الاجتماعية. فالقومية الاجتماعية الصافية هي في التخلص من جميع الاوساخ والادران التي تمنع التحامه الوثيق بين اسمنت العقيدة وصخرة الذات.
رابعاً: واخيراً، ولكن ليس اخراً، ان عملية التأسيس ليست غاية في نفسها. انها وسيلة لغاية اهم واعظم: انه البناء. والبناء في وجهه الروحي يعني النمو والتقدم المستمرين. انه، كأي كائن حي، ينمو ويكبر ويتقدم، ولكنه قد يقف عن النمو فيتحجر ويموت. وحياته او موته يتوقف على الانطلاقة من قاعدته الاساسية التي تحمل البناء. وانطلاقتنا في الحزب السوري القومي الاجتماعي كما وصفه سعادة لم تكن محدودة لتنغلق وتنكمش فيحكم عليها بالموت، ولا هي بالنظرية المتطرفة التي لا تطبّق عملياً فتنفلش وتندثر. ان انطلاقتنا مبنية على وقائع علمية ثابتة، تبقى جذورها غاربة تتغذى من ارضها الطيبة الاصيلة، واغصانها متشعبة في الفضاء – فضاء العالم الفسيح اللامتناهي.
" ايها الرفقاء القوميون الاجتماعيون،
هذه هي قصة تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي وهذا هو معنى "التأسيس" الذي نحتفل بذكراه اليوم. ان حزبنا العظيم الذي واجه جبالاً من الصعوبات والمحن، وتمكن من التغلب عليها وبقي صامداً في سيره الظافر لتحقيق غاياته واهدافه ما كان ليتمكن من البقاء والصمود لولا صحة العقيدة المحفورة في نفوسنا بعمق وايمان، ومتانة البناء على القاعدة الصخرية وصهر نفوسنا في بوتقة الذات الاجتماعية، والانطلاق الواعي لاهدافه العليا في الحياة.
فاذا كنا نحتفل بالسادس عشر من تشرين الثاني عيداً لتأسيس حركتنا العظيمة، فان الاعتزاز يملأ قلوبنا ونفوسنا بهذا التأسيس العظيم الذي مكّن النهضة من شق طريقها الصعب لتصبح ملء عين الدنيا وامل الشعب السوري الوحيد في جميع كياناته في حياة تليق بعظمته وطموحه".
**
ولأن سجن القبة كان مدرسة للرفقاء، ولأنهم في ادائهم وممارساتهم في ثكنة الامير بشير، في قفص المحكمة، في سجن القبة – ولاحقاً في سجن القلعة – كانوا يجسدون فضائل الالتزام القومي الاجتماعي فإن معظم العسكريين الذين تعاقبوا على الخدمة العسكرية في الاماكن اعلاه، تحولوا الى اصدقاء للحزب، معجبين بأعضائه. وهذا ما لمسته، والرفقاء الذين تواجدوا في غرفة واحدة في سجن الرمل في الفترة 05/11/1968 – 19 شباط 1969 من تعاطٍ ايجابي لافراد الدرك الذين كانوا خدموا في سجني القبة، و او القلعة،
ما يورده الامين ابراهيم زين في كتابه " قطاف من حقول العمر" (ص. 127-128) شهادة حيّة يصح ان تُقرأ، فتستقر في العقل والقلب والوجدان، وتجسّد ممارسة في كل تصرّف:
" أحد حراس السجن، عريف في الدرك من آل رعد، من سكان طرابلس، له قصة معنا من المفيد ان نرويها هنا لعظتها البليغة.
كان هذا العريف مولجاً بفتح ابواب الغرف في مواعيد محدّدة، قبل الظهر وبعده "للنزهة"، والنزهة هنا تعني المشي في رواق مسقوف بعرض ثلاثة أمتار بين جدران غرف السجن والحائط الخارجي للبناء، فيما غرف المساجين تتوزع المبنى من جهتي الجنوب والشمال، يفصل بينهما بوابة من الحديد السميك، كانت تقفل في معظم الايام، لمنع مساجين كل جهة من الاختلاط بالجهة الاخرى!
بعد فترة من وصول هذا العريف، لاحظنا في البدء انها صارت مفتوحة ليل نهار، وكأنها غير موجودة، كان البعض منا يحيي العريف رعد بتحية الصباح او المساء، بحسب مواعيد فترات النزهة، لكنه ما كان يرد علينا التحية، لانه لا يحب القوميين، ولا يريد التعاطي معهم، لا سلباً ولا ايجاباً، إلا انه كان يراقبنا باهتمام، فتتغير قناعاته تجاهنا. لم يمضِ على هذه الحالة أكثر من أسبوعين حتى حصل انقلاب جذري في نفسية هذا العريف!
في أحد الايام، فتح لنا الباب لكي نخرج الى "النزهة"، وعندما شاهد جميع الرفقاء في غرفتنا يجلسون الى مائدة واحدة ويتناولون نفس الطعام، وكان ذلك بعد يوم واحد من أيام المقابلات، حيث أُحضرت للرفقاء من ذويهم بعض الاطعمة، قال لنا: "مساء الخير يا اوادم، الف صحة يا أبطال، انتم الشرفاء، أنتم الاحرار، كل الذين يدّعون الاشتراكية والوطنية يجب ان يأتوا الى هذا السجن للتعلم منكم النظام والرجولة والمحبة والاخلاق، صار لي فترة اسبوعين مشغول بمراقبتكم، كانت الصورة في ذهني مخيفة وبشعة عنكم وعن حزبكم، لكنني بعد المراقبة لكم، انقلبت الصورة تماماً في نفسي، وتأكدت بأن كل ما ألصقه أخصامكم بكم كان مجرد دسّ رخيص وتشويه مغرض، لذلك أعتذر منكم لفهمي السابق الخاطىء لكم. تفضلوا، شرفوا الى نزهتكم اليومية. وبالفعل صار هذا العريف مثال المواطن الشريف المخلص الذي يلبي كل ما كنا نطلبه منه، كما أصبح بعد الجفاء والخصومة السياسية من اصدقاء الحزب، لم يكن ذلك بفعل المحاضرات والدروس العقائدية، بل بفضل السلوك النظامي، والتهذيب الراقي، الذي تعلمناه في الحزب، ومارسناه في حياتنا مع كل الناس!".
*
الانتقال الى سجن القلعة في بيروت
يورد الأمين إبراهيم الزين في كتابه "قطاف من حقول العمر": " نجحت مساعي الوسطاء بين الحزب والسلطة اللبنانية، فتّم نقلنا صيف عام 1966 الى سجن القلعة في بيروت، وكان موعد لقائنا برفقائنا الذين فصلتهم السلطة عنا عام 1964، يوم فرح كبير للجميع.
لم تمر عدة ايام على وجودنا في هذا السجن الجديد، الذي شغل الطابق الأول منه، في الباحة الخارجية، العسكريون المحكومون بجرائم عادية، فيما شغل القادة السابقون للحزب غرفة في الطابق الأرضي من تلك الباحة، وتوزع باقي الرفقاء على الغرف الموجودة في الباحة الداخلية مع الطابق الأول منه، ثم شكلت هيئة منفذية لإدارته حزبياً على الشكل التالي: الأمبن جبران جريج منفذاً عاماً، رضا خطار(13) ناموس منفذية، حنا قيصر ناظر مالية، ابراهيم الزين ناظر اذاعة، عادل الطبري(14) ناظر تدريب، وبعد تعيين مسؤولين فرعيين للغرف، بدأ تنظيم حياتنا في السجن الجديد، فعيّن الأمين ادمون كنعان(15) مسؤولاً عن تنظيم الانتاج وتصريفه، عاونه الرفيق حنا قيصر في ضبط الحسابات للرفقاء المنتجين.
بعدها، نظمنا مطبخاً واحداً للسجن، فكنا نتسلم المواد التموينية دون طهي من الدولة، ثم نشتري ما نحتاجه حسب لائحة الوجبات المقررة يومياً، فيما كان تمويل ما نحتاجه من مواد يتم بواسطة اشتراكات شهرية من الرفقاء، كل رفيق حسب استطاعته، فكان الجميع يتناولون طعاماً صحياً شهياً ونظيفاً، ما عدا المرضى الذين كان يتأمن الطعام لهم بناء لوصفة الطبيب. فيما كانت تفرض ضرائب على تصريف الانتاج بموجب تسعيرة معينة للسلعة، مخفضة للرفقاء، وعادية للآخرين، وكان الرصيد المتجمع شهرياً من هذه الضرائب يؤمن للمحتاجين من الرفقاء المرضى أدويتهم، كما كان يتم شراء بعض الكتب للمطالعة، توضع في مكتبة منفذية السجن، كما كنا نشتري عند الضرورة بعض الحاجات للرفقاء المعوزين. كانت الغرف تُفتح لنا من الساعة السادسة صباحاً وحتى الساعة السادسة مساءً، فكنا نتمتع بحرية الحركة طيلة ساعات النهار. نظمنا صفوفاً لمكافحة الأمية، وصفوفاً لتعلم اللغة الفرنسية وأخرى للإنكليزية والمحاسبة، وقد نال العديد من الرفقاء شهادات من معاهد معترف بها(16)، باختصاص المحاسبة، كما طبقنا في هذا السجن شعار الحزب الاقتصادي القائل "كل مواطن يجب أن يكون منتجاً بطريقة ما". لم نعد نشعر بعدها بوطأة السجن وضغطه النفسي على أعصابنا، بل صار النهار بطوله مع جزء من الليل، مليئاً بالنشاط والانتاج.
" لقد أخذت حياتنا في تلك الفترة من الأسر، تعرف الاستقرار والعمل المنتج المنظم، كما بدأ الرفقاء يرسلون الى عائلاتهم مردوداً مادياً جيداً من أتعابهم، وفي هذا الصدد يقول الدكتور عبدالله سعادة، في كتابه ("أوراق قومية" ص 191) ما يلي:
مع تحسن الوضع الاقتصادي والنفسي بين الرفقاء، عادت وحدة الروح القومية الاجتماعية تلف الجميع، وأعطوا دليلاً على أن القومية الاجتماعية، ليست شأناً سياسياً، وعسكرياً فحسب، بل هي شأن حضاري إنساني في الأساس، وأن شعبنا، هذا الشعب الصبور، الصامد، لا ينقصه إلا طرد تجار الهيكل واللصوص من هيكله، وقيام قيادة ملتزمة به، مسؤولة عنه، في رؤية شاملة للحياة في كل أبعادها المادية والنفسية"!
" كما أن سعادة يؤكد، في كتاب "نشوء الامم" أن حياة الفرد تدور ضمن ثلاثة أضلاع: الزاوية الاجتماعية والزاوية النفسية، والزاوية الاقتصادية، وقد أدرك كل الرفقاء نتيجة هذا التنظيم المستوحى من عقيدتنا، أن انفصالهم عن هذا المتحد ولو بانتهاء عقوبة بعضهم هو انفصال عن حياة راقية جديدة، منتجة، مثقفة، فيرى واحدهم خارجها الغربة والوحدة والضياع، وتعطل إنتاجه الذي يؤمن بواستطه حاجاته وحاجات عائلته الضرورية، للعيش المتواضع المستقر.
ولتوضيح هذا الأمر بشكل علمي، أروي هنا هذه الحادثة الغريبة المعبّرة، التي حصلت فعلاً مع أحد الرفقاء:
انتهت فترة سجن الرفيق مصطفى يزبك اواخر العام 1967 على ما أذكر، فراح يودع بالنحيب والدموع، ثم اكتشف فجأة أن عليه دفع مبلغ مادي كان معاقباً به، فطلب من مدير السجن إعادته الى المعتقل، حيث نحن. لأنه يريد أن يبقى معنا سجيناً، لسداد تلك الغرامة المادية، مع أن وضعه المادي ليس سيئاً، في حين كانت خطيبته تتحرق شوقاً للقائه، وهي التي بقيت تنتظر خروجه من السجن خمس سنوات بأيامها ولياليها الطويلة المرهقة!
ونتيجة لتأثير نهج حياتنا القومية في السجن، طلب حراسنا من الدرك في سجن القلعة من مدير السجن النقيب سعيد ابو كروم، أخذ دروس باللغة الإنكليزية مع رفقائنا، فسمح لهم بذلك، وبعد فترة طلبوا منه السماح لهم بلعب الكرة الطائرة مع الرفقاء، فسمح لهم ايضاً، ثم طلبوا منه السماح لهم أن يشتركوا معنا في مطبخ السجن، لأن الطعام من مطاعم المدينة يكلفهم مبالغ طائلة شهرياً، عندها رفض النقيب السماح لهم بذلك، خوفاً من انتمائهم الى الحزب، لأنه عندها سيعرض نفسه للعقوبة، وربما للطرد من سلك الدرك!
"والجدير ذكره هنا، هو أن حراس السجن من الدرك، في حال ارتكب أحد رفقائنا مخالفة او خطأ ما، لم يكونوا يشكونه الى ادارتهم، بل الى هيئة المنفذية، وإذا ما عوقب احد الرفقاء مرة، كان يتوسل لكي تكون العقوبة مخفضة حتى لا يتعطل تصريف إنتاجه، فيتضرر نفسياً ومادياً أيضاً، كما كان الرفقاء يخضعون، بناء على برنامج نظارة التدريب، الى رياضة صباحية، ثم تبدأ بعدها برامج النهار العديدة والمتنوعة.
" في عام 1968، نظمنا سلسلة محاضرات كان يلقيها علينا المسؤولون السابقون، كل حسب اختصاصه، فالدكتور عبدالله سعادة أعطانا سلسلة دروس في الصحة العامة وتشريح جسم الإنسان، كما درسنا على يديه، مع نخبة من رفقاء السجن كتاب "نشوء الأمم" للزعيم، ثم قدمنا بعد انتهاء الدروس امتحاناً خطياً عن أهم النظريات التي تضمنها الكتاب العلمي المذكور!
*
هزيمة حزيران والتبرع بالدم
على أثر اندلاع الحرب بين الدول العربية و"اسرائيل" في شهر حزيران عام 1967، أرسلت قيادة الحزب في المعتقل برقية الى السلطات اللبنانية تطلب فيها السماح للسجناء القوميين الاجتماعيين بالإشتراك في قتال العدو، مع التعهد بعودة من يبقى حياً بعد انتهاء القتال الى السجن، لإكمال حكمه. لم تستجب الحكومة لهذا الطلب، لأنها اعتبرته نوعاً من الدعاية الإعلامية للحزب. وبعد مرور عدة ايام على الهزيمة المروّعة، طلبنا من إدارة السجن السماح لنا بالتبرع بالدم لجرحى المعارك مع العدو بواسطة الصليب الأحمر اللبناني، وبالفعل، حضرت عناصر من جمعية الصليب الأحمر، فتسابق الرفقاء للتبرع بكمية من دمهم، علها تسهم بشفاء بعض جرحى تلك الحرب – الفاجعة. ثم تكررت هذه المسألة بعد شهر من حملة التبرع الأولى، وكان هذا جلّ ما استطاع الرفقاء تقديمه، الأمر الذي لفت إدارة السجن الى فرادة روح العطاء التي يتحلى بها القوميون الاجتماعيون، حتى وهم في غياهب الأسر والسجون.
تابعنا بعد ذلك حياتنا في السجن كالعادة، حيث قررنا إقامة مباراة بين الرفقاء في لعبة "الكرة الطائرة" و"الشطرنج" و"طاولة الزهر"، وحين فاز الرفيق الضابط علي الحاج حسن ببطولة "طاولة الزهر" لعبة "المحبوسة"، قررنا إقامة حفلة تكريمية له في الباحة الداخلية لسجن القلعة، نظراً لوضعه الصحي الدقيق. وقد تقرر أن يلقي رئيس المجلس الأعلى، الأمين محمد البعلبكي، كلمة للمناسبة، كما نظمتُ قصيدة ألقيتها في تلك الحفلة، لاقت استحسان جميع الرفقاء، كان عنوانها "فرحة الحظ" لأن لعبة "طاولة الزهر" تُعرف بأنها لعبة حظ، يحتل فيها "الزهر" دوراً أساسياً في تقرير فوز اللاعب مع خصمه، إذا كان المتباري على معرفة جيدة بفن تحريك حجارة الطاولة. وقد شارك بعض رجال درك السجن وزوارنا من الرهبان التلاميذ في جامعة الكسليك بالمهرجان المذكور، فأعجبوا بنشاطاتنا وتنظيمها وبما ألقي في ذلك الاحتفال من كلمات حملت في مضمونها توجهاً قومياً لافتاً، كما أعد ناظر التدريب، الرفيق عادل الطبري زمراً من الرفقاء الأسرى لتلقّي محاضرات في حرب العصابات، كان يلقيها عليهم الرفيق النقيب شوقي خيرالله، في مواعيد اسبوعية ثابتة، لإنماء ثقافتهم في هذا المجال، الذي يمكنه أن يكون في المستقبل أسلوب القتال الوحيد الناجع، ضد عدو يتفوق على جيوشنا بنوعية السلاح وبالجندي المعقدن بفكر توراتي عنصري، لاغٍ للآخرين. كما عرفت صفحات ملحق جريدة "النهار" كتابات ثورية ـــــ عقائدية ـــــ سياسية هامة باسم "سبع بولس حميدان"، "عبدالله فرح" و"قيس الجردي"، للأمناء اسد الأشقر، عبدالله سعاده وانعام رعد، فكان لكتاباتهم تلك صدى واسع في أوساط المثقفين اللبنانيين.
*
النظام فوق الجميع
في أحد الأيام، أرسل الرفيق شوقي خيرالله رسالة الى منفذ عام منفذية سجن القلعة الأمين جبران جريج، يطلب فيها السماح له بالانتقال من غرفة القيادة الى غرفة مستقلة موجودة قرب مطبخ السجن، لأنه يريد أن يتفرغ للكتابة في أمور لها علاقة باختصاصه العسكري قد يستفيد منها الحزب مستقبلاً. وبعد دراسة الرسالة في جلسة رسمية لهيئة المنفذية، اتخذ قرار بالموافقة على طلبه. نقل الرفيق شوقي أمتعته من غرفة القيادة الحزبية السابقة، وسكن تلك الغرفة، وقد لاحظنا أن الأمين عبدالله سعادة، اتخذ موقفاً من هذا المظهر "الانفصالي" للرفيق خيرالله، فقاطعه ولم يعد يتحدث اليه، وحين عرفنا بهذا الأمر، طرحنا على المنفذ العام استدعاء الأمين سعادة الى جلسة مع هيئة المنفذية من أجل تنبيهه الى خطأ مقاطعة الرفيق خيرالله. تهيّب المنفذ العام هذا الأمر في البداية، وبسبب إصرار جميع أعضاء هيئة المنفذية على حسم هذا الاشكال اللانظامي، استُدعي الدكتور عبدالله الى جلسة مع الهيئة، وبعد مناقشته في خطأ موقفه من الرفيق شوقي، أدى التحية الحزبية، بكل انضباط، ثم ذهب على الفور وصالح الرفيق خيرالله. وهكذا، انتهى هذا الاشكال الفردي، بالخضوع المثالي للنظام. ولإظهار أهميته في حياتنا الحزبية الداخلية.
*
وقـفـــات عـــــز في السجن
ننقل عن كتاب الامين انعام رعد "الكلمات الاخيرة" تلك الوقفات الرائعة التي تميّز فيها رفقاؤنا عند كل الشدائد، فهم ابدا يواجهون المحن والعنف باعصاب حديدية، وبكل مناقب الجرأة والبطولة والتحدي والتفاني.
।. في الصفحتين 135 و 136:
" قبل الحديث عن الاحكام التي صدرت، لا بد من التوقف عند وقفات العز التي وقفها المجموع القومي الاجتماعي. القادة يسجلون مذكراتهم وكأن المجموع مجرد مشاهدين، ولكن المجموع كان في الواقع هو الجسم المتحرك، كان هو النهر الهادر، كان هو القوة الحقيقية.
" اتوقف أمام بعض الومضات، وأقول آسفاً كيف لم يُسجَّـل تاريخ هذه الدراما الكبرى التي جسّدها المجموع القومي الاجتماعي وهنا أريد ان أحيي الأمين شوقي خيرالله، أبا علي، على كتابه "بسمة النور"، وفيه أقوال لعدد من الرفقاء المناضلين.. وكان من الواجب تشكيل لجنة تعمل على هذا الامر، فها نحن بعد أكثر من ثلاثين عاماً نفتقر الى مثل هذا الكتاب المهم(17).
" لا يمكنني أن أنسى يوم استُـنفرت ثكنة المير بشير، فلم يخطر على بال القوة العسكرية التي تحيط بالثكنة، التي احتشد فيها مئات القوميين الأسرى، ما حصل في فجر الثامن من تموز من العام 1963. فجأة عند دنو خيوط الفجر الاولى، بدأ القوميون يخلعون لباس النوم ويلبسون بذلاتهم، التي قلما لبسوها، الا عند المحاكمة، او عند المحاكمة، او عند مواجهة الاهل، او مواجهة المحامين، وضّبوا فرشهم ووقفوا صفوفاً في غرف سجنهم، سطعت الأنوار المبهرة في الثكنة، مسلّطة على فرق القوميين وتحركت الدبابات والمصفحات، والرشاشات الثقيلة، فقد توقعت قيادة الموقع ان عملية عصيان وفرار على وشك ان تنفّذ، لكن الصوت دوى: "تحية للزعيم خذ"، ارتفعت مئات الايدي باليمين، وسادت رهبة اجتاحت نفوس السجانين، فباتوا هم سجناء هذا الموقف الاسطوري الساحر. احد الضباط أخذته الدهشة وعقد لسانه، ثم انفجر يهذي: "مجانين، مجانين". لقد تقزّمت نفسه امام الحزب، وهو يرى هذا الصف الطويل من المحكومين بالإعدام والسنوات الطويلة، ينهض ليؤدي التحية لزعيمه الشهيد في ذكرى استشهاده.
" في ذلك اليوم، برز جسم الاسرى القوميين الاجتماعيين، كما أبرزت الإضرابات الجماعية، الصف القومي الاجتماعي صفاً متراصاً نظامياً، فتلاشت الضربات التي انزلت به على صخرة صموده، وتحوّل الجسم الى ثكنة ومدرسة وتنظيم، ضمن السجن وخلال السنوات التالية، فكان مصدر استنهاض للعمل الحزبي في كل مكان.
" لا أزال أذكر وباعتزاز، يوم عاد جبران الاطرش من المحكمة، وكان تقرر مقاطعة الحكم والمحاكمة في طورها الاخير، بعد ان تبيّن عزم المحكمة، باستثناء رئيسها إميل ابو خير، إصدار الحكم على أساس ان الجريمة جريمة عادية وليست سياسية، وقد تحدى جبران ببسالة وجرأة المحكمة وأحكامها. جلسنا في ذلك اليوم وكأن العرس قد خيّم على الاسر، وأطلق ديب كردية مواويله يتحدى فيها الموت في سبيل القضية، وتردّدت اصداء ذلك العرس في كل الجهات، حتى ان الضباط جاؤوا وهم مبهورون. ألم تصدر بحق هؤلاء احكام الإعدام والمؤبد، فكيف يهزجون وكيف يمرحون وكيف يتحدون؟ ما عرفوا ان في هؤلاء "قوة لو فعلت لتغيّر وجه التاريخ".
` - وفي الصفحتين 53 و 54:
" وصول خبر استشهاد الزعيم
في الثامن من تموز 1949، شعرنا بجلبة في السجن، ولم نعرف في مهجعنا ما الخبر، ولكن في التاسع من تموز أرسل إليّ الامين كامل ابو كامل، وكان في المهجع الرابع، جريدة وصلته مع الزوّادة، وفيها صورة الزعيم في المحكمة العسكرية، وهو يسأل: هل هذه الصورة مزيّفة أم حقيقية؟
" تمعّـنت في الصورة، فاعتبرت أنها حقيقية، واعتبرت أنه لا يمكن تزييف مثل هذه الصورة، وتزييفها يسيء الى الحكومة أكثر مما يفيدها، فيما لو لم يكن الحدث حقيقياً وصحيحاً. بهذا أجبتُ الامين كامل ابو كامل.
" وكان لا بد من إعلان الخبر على القوميين الاجتماعيين. وكلّف كل مسؤول ان يعلن الخبر في قاووشه. وكان المسؤول الاعلى في مهجعنا وكيل عميد التدريب الرفيق سليم خوري(18)، ولكن الرفيق خوري اغرورقت عيناه بالدموع فلم يستطع إعلان الخبر، فتوليتُ إعلانه، وشعرت كأن عبء المسؤولية قد ألقي على كل قومي اجتماعي، فقلت: اليوم قد أعطانا سعاده قدوة كبرى، علينا ان نكون في مستواها، لقد علّمنا ان المبادئ تساوي كل وجودنا، وقد أعطى حياته في سبيل هذه القضية، فلنتحمل مسؤوليتها التاريخية.
" القوميون، بعضهم صمت وصعق، وبعضهم أجهش بالبكاء، وبعضهم هتف. وما هي إلّا ساعات، حتى كان السجن يضم بين قضبانه أسود النهضة، تزأر زئير الأسود الجريحة.
" جاء المقدم محمد جواد دبوق ليزفّ الخبر وليتشفّى، فانتهره الرفيق محمد جبلاوي(19) وهجم عليه يريد ان يضربه، وكان ان حصل محمد الجبلاوي على "فلق". ولكن ذلك كان وسام الشجاعة القومية الاجتماعية، وكان إيذاناً بغضبة كبرى عمّت الحزب السوري القومي الاجتماعي كله.
" في ذكرى الاسبوع تولينا الخطابة، وتنظيم شبه تظاهرة بين مختلف القواويش. وكان الدكتور عبدالله سعاده، وكنت أنا ايضاً، نخطب في تلك اللحظات، فصدر الأمر بنقلنا من قاووش الى آخر، وإبعادنا لأننا كنا، حسب إدارة السجن، نقوم بالتخريب والشغب. وهتف القوميون الاجتماعيون في لحظة واحدة لسعاده وهتفوا ضد الحكومة الطاغية. هكذا خرجت صيحة القوميين الاجتماعيين من السجن مدوية غاضبة.
هوامش:
1- صدر الحكم بالاعدام على كل من العسكريين: الامينين شوقي خيرالله وفؤاد عوض، والرفيق علي الحاج حسن، وعلي خمسة آخرين: الامناء عبد الله سعاده، محمد بعلبكي، بشير عبيد، محسن نزهة، والرفيق جبران الاطرش.
2- اوغست حاماتي: تولى مسؤوليات في عمدة الدفاع، وناظراً للتدريب في منفذية طرابلس، شارك في الثورة الانقلابية واسر لمدة 4 سنوات. غادر الى المهجر وما زال. شقيقه الامين هنري حاماتي.
3- وردت ايضا في كتاب الامين منير خوري
4- نجيب إسكندر: اديب واعلامي. كان مراسلاً لجريدة "النهار" في شمال لبنان. من زغرتا. منح رتبة الامانة وتولى مسؤوليات حزبية عديدة. توفي عام 2012.
5- سليم متري: من عكار. نشط حزبياً بعد خروجه من الاسر متولياً مسؤولية العمل الاداري في لبنان في فترة العمل السري الى جانب الامين الراحل خليل دياب. غادر الى سيراليون وفيها تولى مسؤولية العمل الحزبي. عاد الى الوطن وفيه فارق الحياة.
6- إبراهيم زين: اديب وشاعر. تولى مسؤوليات مركزية منها عمدة الاذاعة، ومنفذا عاماً في اكثر من منفذية. انتخب عضواً رديفاً في المجلس الاعلى.
7- فؤاد ذبيان: شاعر معروف، من منارات العمل القومي الاجتماعي في الشوف. تولى اكثر من مرة مسؤولية المنفذ العام فيه.
8- حسن رؤوف حسن: من الشوف. عمل في الصحافة، وتولى مسؤوليات حزبية منها منفذ عام الشوف. مناضل صادق ومناقبي.
9- من ابرز الذين اهتموا في تلك الفترة: السيدة ليلى جدع، وكان الرفقاء الطلبة يقومون بجهد مميّز عبر تنظيم حضورهم في الاماكن التي تعرض فيها منتوجات الرفقاء الاسرى.
10- تأمن الحصول على عدد من الشهادات بواسطة الرفيق سمير صيقلي الذي تابع الامر مع والده سامي صيقلي الذي كان يملك معهد لبنان للمحاسبة.
11- حنا قيصر: تولى مسؤولية خازن عام للحزب عام 1981. منح رتبة الامانة. غادر الى الامارات العربية المتحدة وبقي ناشطاً حزبياً حتى وفاته.
12- الرفيق محمد عطايا: والد العميد الرفيق هملقارت عطايا. كان وشقيقه الرفيق عبد الحفيظ، من مناضلي الحزب.
13- رضا خطار: من باتر (الشوف) تولى مسؤوليات عديدة، منها منفذ عام وعميد للداخلية. غادر الى الامارات العربية المتحدة وفيها وافته المنية. عرف بالتزامه النضالي واخلاصه الحزبي وتفانيه.
14- عادل الطبري: من الجنوب السوري. عرف المسؤوليات الحزبية في كل من الشام ولبنان. بعد خروجه من الأسر تابع نشاطه الحزبي وتوليه للمسؤوليات في كل من دمشق وبيروت. منح رتبة الامانة وانتخب عضواً في هيئة منح الرتبة. مقيم حالياً في دمشق.
15- ادمون كنعان: من كفرشيما. ومن مؤسسي العمل الحزبي فيها. منح رتبة الأمانة. تولى مسؤوليات عديدة أبرزها عمدة المالية. غادر الى أفريقيا مؤسساً أعمالاً ناجحة في نيجيريا. ثم انتقل الى باريس حيث يقيم حالياً.
16- كنت رئيساً لمكتب الطلبة عندما تابعت موضوع حصول الرفقاء على شهادات معترف بها. والفضل في ذلك يعود الى صاحب "معهد لبنان" الاستاذ سامي الصيقلي.
مراجعة النبذة بعنوان "الرفيقان سمير صيقلي ووليد عبدالخالق" على الموقع المذكور آنفاً.
17- وما زلنا نفـتـقر، لولا ما كان اورده الامناء عبدالله سعاده، فؤاد عوض، شوقي خيرالله، منير خوري، ابراهيم زين، اما الاسباب فعديدة وقد أكتب عنها في وقت لاحق، واتحدث عن واقع التعاطي مع موضوع تاريخ الحزب منذ بدء اهتمامي به.
18- سليم خوري: من بلدة "عيناب". من اوائل الرفقاء فيها. تولى في الاربعينات مسؤولية وكيل عميد الدفاع، من اشقائه الرفيق المناضل الفرد خوري.
19- محمد جبلاوي: من المناضلين الذين عرفوا الحزب منذ أوائل الثلاثينات، واستمر مناضلاً في كل الظروف السهلة والصعبة. توفي بتاريخ 11 كانون الثاني 2019.
في: 25/01/2024 لجنة تاريخ الحزب