"البحث عن زيوسودرا عن مشروع أنطون سعاده ومصير سورية" عنوان كتاب للباحث نزار سلّوم صادر عن مركز سيرجيل للثقافة والفنون والاعلام، وهو كتاب قيّمٌ يتّسمُ بالغنى والعمقِ والتحليلِ الجدّي، ويُشكِّلُ مرجعاً مهماً في فهمِ رسالةِ سعاده ومشروعِه الإنقاذي لسوريةَ المفككةِ والتائهةِ عن نفسِها وشخصيتِها التاريخية.
العنوان ("البحث عن زيوسودرا" Ziusudra) مُلفتٌ يختزلُ مضمونَ الكتاب، بالرغمِ من أن الكاتبَ لم يخصص إلا ما تجاوزَ الصفحتينِ بقليلٍ ليشرحَ لنا عن فعل هذا الملِكِ التقيِّ الصالح الذي أخذ على عاتقِهِ إنقاذَ بَذرةِ الحياةِ على الأرض، حَسْبَ أسطورةِ الطُّوفانِ السُّومريّة، ببناء سفينة كبيرة تحمل الزمرة الصالحة من البشر وبعض الحيوانات وتصارع أمواج الطوفان الهائجة إلى أن تنتصر عليها بظهور البطل أوتو إله الشمس ناشراً ضوءه في السماء على الأرض فينحسر الطوفان ويتراجع وتنجو الحياة من الدمار الكامل ويعّم الضياء البهي العالم وعندئذ ينعم بطل الطوفان (أوتو) بالحياة السرمدية في أرض دلمون – جنة السومريين ومرتع الآلهة.
في بحثِهِ النقدي الرصين، يطرحُ الباحث (الأمين) نزار سلوم أسئلةً جوهريةً عن الحزبِ السوريِّ القوميِّ الاجتماعي، الذي أوجدَهُ سعاده حزباً غيرَ اعتيادي، ليكونَ حاملاً للنهضةِ السوريةِ القوميةِ الاجتماعية ورسالتِها، ومُتنكّباً مُهِمّةً شاقةً مزدوجة ألا وهي، أولاً، خلاصُ الأمةِ من أمراضِها وتشوُّهاتِها السائرةِ بها إلى الفناءِ، وثانياً، انقاذ الإنسانية من اختناقها بالصراعات والحروب المدّمرة. ويكشِفُ الكاتبُ عن وجودِ علةٍ بُنيويةٍ في الحزبِ رافقت تاريخَهُ وعطّلتْ فِعلَ النهضةِ وأدخلتْهُ في متاهةٍ تنظيميةٍ معقّدةٍ يحاولُ الخروجَ منها فيجدُ نفسَه غارقاً في تلافيفِها وعِقَدِها، فاقداً ذاتَه ومبتعداً عن معناه.
هذا الحزب، تمَّ اختِطافُهُ من قِبَلِ قادةِ (الواقع اللبناني) أثناءَ اغترابِ سعاده القسري، ما اضطرَّ سعاده إلى إعادةِ الحزبِ كنهضةٍ فاعلةٍ بعد عودته إلى الوطن. ولكن بعد استشهاده، نَخَرَتِ الحزبَ جُرثومَةُ (أو تفاحة) التطبيعِ مع الواقعِ القائم، وأحدثَتْ عاهةً دائمةً في جسدِه، وأصبحتْ، برأيِ الكاتب، سبباً دائماً لابتعادِهِ عن جنةِ النهضة، لأنها حوَّلتهُ إلى حزبٍ سياسيٍ عادي مأزومٍ ومهددٍ دائماً بالتفكُّكِ والتآكلِ الذاتي.
أولى الإشكالياتِ التي يطرحها نزار سلّوم هي أن دستورَ الحزب، كما وضعَهُ سعاده، ارتبط عُضوياً بوجودِهِ الفعلي (أي سعاده)، بمَيّزاتِهِ الشخصية، وبصفتِهِ الزعيمَ الضامنَ لسلامةِ الحزبِ من التفكك، جرّاءَ الأهواءِ الخصوصيةِ والمماحكاتِ والأنانيات التي يمكن أن تظهر عند بعض قادته ومسؤوليه. ومع غيابه، أصبح هذا الدستورُ في حالةِ عدمِ التوازنِ مولِّداً أزماتٍ دائمةً في عمليةِ إنتاجِ السلطة، ولم يتمكنِ الفكرُ الدستوريُ القوميُ الاجتماعيُ من مَلءِ فَجوَةِ غيابِ سعاده بابتكارِ نظامٍ تعويضي.
الإشكاليةُ الثانيةُ التي يطرحُها الكاتب تتعلقُ بالوضعِ الراهنِ لسوريةَ المفككةِ والضعيفةِ والخاضعةِ لسيطرةِ قُوىً ودولٍ وإرادات.. في الصفحتين 110-111 من الكتاب، يُلخِّصُ الكاتب حالة سورية المأساوية وضياعها التاريخي واستسلامها لسرديّات دينيّة أثنية متضاربة، فيقول:
"سورية الآن دون قوام جغرافي وتاريخي وسياسي وسكّاني، ففضلاً عن كونها أشلاء كيانات سياسيّة، أكثر من ثلث أراضيها محتل ومستلب تماماً شمالاً، وجنوباً، وشرقاً، وغرباً. دولها مفككة ضعيفة وتحت سيطرة قوى ودول، وإرادات، واستراتيجيات إقليميّة، وعالميّة. مجتمعها مفكك ومنقسم على ذاته ومتوضّع على مرتسم طائفي مذهبي إقطاعي عرقي عائلي. أوابدها وآثارها التي هي شاهد على أسبقيتها الحضاريّة مهدّمة ومسروقة ومهملة ومسجّاة في متاحف العالم. ثرواتها داشرة ومبدّدة ومنهوبة. أرضها تتصحّر ومياه أنهرها الكبرى تجفّ. العديد من مدنها وبلداتها مهدم ومدمّر، إن بفعل أعدائها أو بفعل أهلها أو بفعل الكوارث الطبيعيّة. أكثر من ثلث شعبها نازح ولاجئ ومشرّد، وأعظمه يحاول الهجرة. نخبها الفكريّة ضائعة ومشتتة أو ملتحقة بمراكز ماليّة وسياسيّة إقليميّة - عالميّة. نخبها العلميّة مهاجرة في أعظمها. حركاتها وأحزابها عتيقة طائفيّة ومذهبيّة وأثنية، واعتباطيّة، وخادعة بأفكار وهميّة. شعبها فاقد لنظام قيم واضح لتحكمه فوضى أخلاقية تغمره بمستنقع فساد هائل، ويخضع في الوقت نفسه لحملة تجهّيل هائجة، ربما لا سابق لها من حيث شراستها. حملة تجهّيل تستهدف إنتاجه ببعد واحد فقط: ديني، يتمظهر بحالات طائفيّة ومذهبيّة."
باختصار، سورية الآن في حالةِ (التيه العظيم) أو الضَّياعِ الكبيرِ المُثقلِ بهزائمَ وكوارثَ وتراجعاتٍ في مختلفِ المستويات والمعاني، وبالتالي، فَهْيَ في مواجهةٍ مصيريةٍ مع خيارين: أوَّلُهُما مُهلكٌ سيقودُها إلى الفناءِ كأمة، وثانِيهِما يمثلُ لها طريقَ خلاصٍ وحيد.
يستخلصُ الكاتبُ بأن مصيرَ سورية، وجوداً وارتقاءً، يتوقفُ على مشروعِ سعاده، أي على عقيدتِهِ ووُجهتِها. ولكنَّ هذه العقيدة، برأيه، لا حاملَ لها يوازيها الآن، لذلك فهي تحتاجُ اليوم إلى حاملٍ قادرٍ على وضعِ مشروعها، الذي وحدَه سينقذُ سوريةَ من الضياعِ النهائي، وربما من الفناءِ ويعودُ بها إلى زمنِ البهاءِ المضيء.
ويطرح الكاتبُ السؤالَ الأساس: أين الخلاص لسورية من الخيار المهلك المتمثل في تصحيرها النهائي الناتج من التدمير المعرفي والفيزيائي الذي تتعرض له بوحشية لا مثيل لها؟ كيف سيكون الإنقاذ من طوفانٍ (متمثل بعمليات التدمير الشامل) يغرق سورية ويعمّق مأساتها؟
برأيه، سيكون الإنقاذُ باستحضارِ الأسطورةِ السُّومرية والبحثِ عن زيوسودرا الجديد، المشابه لزيوسودرا الملك الذي أنقذ سومر من الطوفان قبل حوالي 4000 عام. وزيوسودرا الجديد هو رمز لجهةٍ صالحةٍ تمثِّلُ الحاملَ الجديدَ للعقيدة، الذي يعيدُ إلى سوريةَ وعيَها بذاتِها ويرشدُها إلى خطِّها الإبداعيِ الخصب تحتَ نورِ النهضة، ويوصِلُها إلى الحياةِ الجديدة، تماما كما استنجد إله الماء والحكمة إنكي (حسب الأسطورة) بالملك زيوسودرا وسفينته العملاقة – لينقذ الحياة في العالم القديم بعد أن ندمت الآلهة لخلق الإنسان عندما رأت فساده في الأرض، فقررت إفناء البشر بواسطة طوفان يغمر الأرض. ومثل إنكي، فعلت إلهة الحب والخصب (السومرية) إنانا المقدسة التي ناحت على شعبها وبكت مصير البشر المفجع.
فمتى تظهرُ هذه الجِهَةُ الصالحةُ وتنشقُّ عن هذا الخرابِ الفظيع؟
هل ننتظر طويلاً، وإلى متى؟
هل يهبط علينا الإنقاذ من السماء؟ أم يأتينا من الخارج؟
أليس بإمكانِ أبناء الحياة الأوفياء الذين راهن سعاده على إيمانهم وقوتهم وعقلهم الجمعي أن يكونوا هم الجهةَ الصالحةَ العاملة للإنقاذ؟