كتاب الأمين نزار سلّوم الأخير، موضوع ندوتنا، هو كتاب مفصلي في تاريخ النهضة السورية القومية الاجتماعية. إنه يضع كل من انتمى لهذه النهضة أمام سؤال مفصلي: هل أنت في حزب غير اعتيادي أم في حزب اعتيادي؟ وهذا السؤال يقودنا بالاستطراد إلى سؤال أكثر حميمية، هل أنت شخص غير اعتيادي أم شخص اعتيادي؟
إن هذا السؤال هو محور الكتاب، ولكن إذا اكتفينا به، تجنّينا على الكتاب والكاتب. فالكتاب جلسة استجواب لسعاده، ليس فقط في مرحلة "أزمة الحزب البنيوية" التي يؤرخ لها الأمين نزار ابتداء من الثامن من تمّوز، 1949، بل يُسائله في مرحلة شهدت تكوّن "علّة الحزب البنيوية" أي إبّان وجوده في قيادته بين 1932-38 وثم بين 1947-49. ويميّز سلّوم بين الأزمة والعلّة بالقول، ".. والفرق بين الأزمة والعلّة كبير وجوهري، حيث تعود الأزمة إلى أسباب عارضة، فيما تعود العلّة إلى سبب رئيسي بنيوي يوجد حصرًا في الأساس، أي في الأصل، أي ابتداء من خط 16 تشرين ثاني، 1932." (ص. 19)
يستهل الكاتب البحث بمقدمة يقول فيها: "أكثر من تسعين سنة انقضت على تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي، وها هو يكابد قدر الشيخوخة، إذ تحاصره الأسئلة الكبرى من مثل: ماذا فعلت في حياتك المديدة؟ ولماذا لم تنتصر؟ وأين أنت الآن؟ وكيف ترى المستقبل؟" ويصف وضع الحزب اليوم بأنه في "متاهة تنظيمية يحاول الخروج منها فيجد نفسه غارقاً في تلافيفها وعقدها." إنه ينظر إلى "أجيال متعاقبة انتمت إلى الحزب، رغم كوارثه وهزائمه ومتاهته التنظيمية. انتمت ودخلت من باب النهضة حيث تجد سعاده وخطابه، ولكن لتجد نفسها مقيمة في (حزب عادي) ومأزوم دائما. "حزب استسلم أمام عناد سكان الاقفاص فالتحق بفلكها متحالفاً أو مؤازراً لقوى الأمر الواقع." (ص. 9-8).
"هل نجازف إذ نعود للبحث عن (العلة) في الأسس الأولى، أو الجذور العميقة التي غرسها سعاده نفسه؟" يسأل سلّوم. هنا يأخذنا في رحلة تفكيك وإعادة بناء لمرحلتي التأسيس كما يراهما، الأولى سنة 1932 والثانية، سنة 1947. إنه يأخذنا إلى "الصندوق الأسود" لحطام الحزب علّنا نجد فيه أسباب سقوطه وتحطمه. إنه يكلمنا عن "الحامل" الذي "يختطف النهضة والعقيدة". إنه يمر على ماركس والأحزاب الشيوعية، ويسوع والكنائس المسيحية ليخلص إلى نتيجة قاسية: "المؤسسات وأنظمتها أقوى من العقائد ونصوصها." (ص. 51).
وماذا عن العلّة؟ العلّة هي أن سعاده أسس حزباً غير اعتيادي، تحوّل، إلى حزب اعتيادي، مرتين. الأولى أثناء غيابه القسري، والثانية منذ استشهاده، وحتى الآن.
لعل الفصل الرابع من الكتاب وعنوانه "العلة البنيوية" هو أهم فصول الكتاب ويجب قراءته بتمعن كبير. هنا يشرح سلوّم إشكالية كون عقيدة الحزب وغايته ومؤسساته "لا تقارب أنظمة الأحزاب السياسية." وكيف أنه، استناداً إلى وصف سعاده نفسه، هو "حزب غير اعتيادي. وكيف أن الجملة النافية هنا (لا اعتيادي) تأخذ محتواها من جمل تعريفية واضحة مثل 'فكرة وحركة تتناولان حياة أمة بأسرها' أو "قضية الحزب هي قضية الآفاق للمجتمع الإنساني"
لا ليس سهلاً نص نزار سلّوم إذ يفكك "علّة الحزب البنيوية"، ولكن العلّة بحد ذاتها معقدة وتتطلب تأنيًا في المقاربة، والمتابعة، والقراءة، والفهم. أكثر من هذا، إن هذا الفهم يردنا إلى السؤال المفصلي الذي بدأنا به هذا المقال، "هل أنت في حزب غير اعتيادي أم في حزب اعتيادي؟ / هل أنت شخص غير اعتيادي أم شخص اعتيادي؟" والسؤال مشروع لأنه إذا توخى سعاده تأسيس حزب غير اعتيادي، فهذا يتطلب أشخاصاً غير اعتياديين. ولإيجاد الجواب، يقدم لنا سلّوم معيارًا هو مرحلة التأسيس الأول، 1938-1932، ومن ثم مرحلة التأسيس الثاني، 1949-1947، أي استعادة الحزب من "الواقع اللبناني" بعد أن تحول بفعل طغيان "المؤسسات" إلى حزب سياسي لبناني اعتيادي.
ولكن هذا المنحى من البحث يقودنا إلى سؤال أدهى من خارج نص سلّوم؟ إذا كان الحزب غير الاعتيادي يقوم على اشخاص غير اعتياديين، فمن أين نأتي بهم في ظل واقع ما دون الاعتيادي؟ سلّوم يجيب على نصف السؤال، حيث للمؤسس الذي "ينشق" عن الواقع صفات تؤهله لاجتذاب الإمكانيات وقيادتها. لنفترض إذن ان هذا حصل، هل يمكن لمن انتمى للحزب، وأصبح شخصاً غير عادي أن يعود إلى "عاديته"؟ والجواب نعم. طبعاً. وهذا يقودنا إلى مراحل "إدارة التغيير"، التي تبدأ من الوعي، فالرغبة، فالمعرفة، فالقدرة، ومن ثم التدعيم. والتدعيم هو من أخطر مراحل عملية التغيير، إذ ان الانسان بطبيعته يميل للعودة إلى ما هو معتاد عليه. من هنا تأخذ عملية تدعيم التغيير كي لا تنزلق المؤسسة، أو الأفراد، أو المجتمع، إلى الحالة السابقة.
إن سفر سعاده سنة 1938، ومنعه من العودة لمدة تسع سنوات، كانت كافية لكي يعود الكثير من قيادات الحزب غير الاعتيادي إلى منطلقاتهم ما دون الاعتيادية التي انتهت بالحزب إلى الواقع اللبناني. وبعد استشهاد سعاده، نسفت القيادات اللاحقة كل الأسس التي وضعها إبان تأسيسه الثاني سنة 1947، وعادت به ليكون حزباً سياسياً اعتيادياً.
يقول سعاده عن الواقع اللبناني، "والظاهر أنّ الحزب قَبِلَ انتشار 'الواقع اللبناني' بحكم النظام فقط، لأنني وجدت أنّ مجموع القوميين الاجتماعيين لم يتقيدوا بفكر واحد من هذه الأفكار". لقد استوقفتني هذه العبارة كثيرا فتساءلت، ما هي قيمتها العملية؟ هل من فارق بين "القبول" بانتشار الواقع اللبناني و"التقيد" بفكرته. لقد قَبل معظم القوميين، أما الذين رفضوا، فهُمشوا أو طُردوا. والقبول كان حياء، أو قلة دراية، أو كسلا، أو تكسباً، أو ممالأة. ولم يكن ممكناً فك قيد "القبول" إلا بعودة سعاده، وتطهيره الحزب. أمّا لو لم يعد، لكان القبول قد تحوّل تقيداً أكيداً.
وبعد، سألت نفسي كثيرا، كيف يتشكل الانسان غير الاعتيادي المطلوب لحزب غير اعتيادي. هل هذه غير الاعتيادية هي شرط مسبق للانتماء أم يمكن لها أن تتشكل أثناء وبعد عملية الانتماء. الجواب يمكن في محاولة فهم العوامل النفسية التي تشكل إنسانا غير اعتيادي في مفهوم النهضة. وللاستعانة بذلك اخترت بضع عبارات لسعاده، أختم مداخلتي بها.
1- كلامه عن الصدق في المحاضرة العاشرة، وهو أساس العقلية الأخلاقية الجديدة التي هي نقيض النفسية العامة التي وصفها في خطاب الأول من آذار سنة 1938، بأنها نفسية خوف وجبن وتهيب وتهرب وترجرج في المناقب والأخلاق، ومن صفاتها الخداع والكذب والرياء والهزؤ والسخرية والاحتيال والنميمة والوشاية والخيانة وبلوغ الأغراض الأنانية ولوكان عن طريق الضرر بالقريب والبعيد. وقد اختصر هذه النفسية في المحاضرة العاشرة بثلاث كلمات: السياسة والدبلوماسية وعدم التصارح، ونقيضها الصدق.
2- مقطع الوجدان القومي من مقدمة نشؤ الأمم:
3- كلامه عن المحبة في فصل الموسيقى من كتاب فاجعة حب: "المحبّة التي إذا وجدت في نفوس شعب بكامله أوجدت في وسطه تعاونا خالصا وتعاطفا جميلا يملأ الحياة آمالا ونشاطا، حينئذ يصبح الجهاد السياسي شيئا قابلا للإنتاج.
4- إن فيكم قوّة لو فعلت لغيّرت وجه التاريخ، شرط ان تكون "لو" أداة تحفيز وليس أداة تمني.
5- إنما النيات بالأعمال وليس العكس.
6- إن الحياة كلها وقفة عزّ فقط.
7- لقد وضعنا أيدينا على المحراث ووجَّهنا نظرنا إلى الأمام