بمناسبة الأول من آذار (ميلاد أنطون سعادة)، وصدور «الحق شرع، ولا يُعكس»، وهو كتاب يحتوي على مئات الصور لسعادة كما جمعها بدر الحاج
مشروع «سوراقيا» أو الطبيعية
لمواجهة الاستعمار الغربي، لم يكن من بدّ العمل على إلغاء اتفاق سايكس-بيكو البريطاني-الفرنسي وتحديد معالم هذه الأمة «السوراقية». كان سعادة قد سورية سمّاها في ثلاثينيات القرن الماضي «سورية الطبيعية» لأن حدودها تصل، بالنسبة إليه، إلى نهر الفرات، إلا أنه وبعد إجراء دراسات مستفيضة، قرّر أن العراق هو جزء من هذه الحضارة لأن الصحراء الفاصلة بين هذين البلدين في الوقت الحاضر لم تكن موجودة في تاريخ الهلال الخصيب القديم أو الوسيط، ما يعني تواصل الحضارة، فأدخل العراق عام 1947 كجزء من هذه الدولة-الأمّة، وأبدى استعداده لتغيير الاسم من سورية الطبيعية إلى «سوراقيا».
حين عاد سعادة من الأرجنتين عام 1947، استأجر منزلاً له ولعائلته مقابل مستشفى خالدي في منطقة رأس بيروت، ومن الصدف أن ساطع الحصري أحد مؤسّسي حزب البعث، كان يقيم في الطابق الثالث بينما أقام سعادة في الطابق الأول. أخبرني ابنه خلدون الحصري أنه حين عرف بأن سعادة اعتمد وحدة «سوراقيا» سُرّ كثيراً واعتبر أن ذلك يشكل تقارباً كبيراً مع رؤيته.
يتساءل كثيرون لماذا استبدال اسم «سورية الطبيعية» الذي أطلقه أنطون سعادة، مؤسّس الحزب السوري القومي الاجتماعي، بـ«سوراقيا» التي استنبطها في ما بعد؛ الأسباب متعددة:
أولاً، حين حدّد أنطون سعادة الحدود الجغرافية لسوريا التاريخية في ثلاثينيات القرن الماضي، لم يكن قد أدخل العراق من ضمن تصوّره لهذه الوحدة، لكنه في عام 1947، أعاد النظر في تحديد حدود هذه الدولة-الأمّة بشكل يصبح العراق جزءاً منه. فكان أن سأله بعض الرفقاء حول تغيير التسمية كي تتماشى مع الواقع الجديد، فأجاب بأنه قد يسمّيها «سوراقيا»، لكنّ الوقت داهمه واغتيل بعد سنتين، فلم يتسنَّ له الوقت لمراجعة التسمية (أنطون سعادة، «الأعمال الكاملة»، بيروت: مؤسسة سعادة، 2001. الجزء الثالث: 455؛ والجزء السادس: 444).
ثانياً، حين يصبح العراق جزءاً من «سورية الطبيعية»، يتوجّب علينا تغيير الاسم إلى «سوراقيا» التي تعني بلاد الشام والعراق متحدَين. فمساحة العراق وتعداد سكانه يلزمانِنا بإعادة النظر في الاسم، كون التسمية الأولى لم تكن قد أدخلت العراق ضمن منظومتها القومية. و«سوراقيا» هي الوحدة القومية التي ننشدها، والتي لم نصل إليها بعد.
ثالثاً، حين يظهر اسم الحركة القومية تحت عنوان الحزب السوري القومي الاجتماعي، يلتبس على كثيرين من البحاثة والمفكرين، وخاصة الأجانب منهم، أن الحزب حركة «سورية»، أي حركة ضمن سوريا الحالية كما ضمُرت بفضل تقسيمات سايكس-بيكو، وينتج عن ذلك سوء فهم للقضية، وإحجام الكثيرين عن الانخراط في الحزب بسبب هذا الالتباس، خاصة من سكان الكيانات الأخرى، وهذا ما حصل خاصة مع العراقيين.
رابعاً، في حال توحّدت المنطقة على شكل فدرالية أو كونفدرالية، على مواطنيها حمل هويات وجوازات سفر، ومن غير الممكن وضع اسم «سورية الطبيعية» عليها، كما لم يكن ممكناً وضع اسم «لبنان الكبير» بعد اختراعه من قبل الفرنسيين مع انتهاء الحرب العالمية الأولى. إلغاء «الطبيعية» والإبقاء على اسم «سوريا» فيهما التباس كما أسلفنا وإجحاف بالعراق وغيره من الكيانات التي هي اليوم خارج «سورية الطبيعية» أو «سورية الكبرى». وفي المحصّلة، الهدف ليس الاسم بل بناء اتجاه تضامني تشاركي، اقتصادي، اجتماعي، سياسي ضمن الكيانات السوراقية.
وجد سعادة أن الشعب السوراقي هو شعب عربي متميّز عن بقية الشعوب العربية بسبب بيئته، والتفاعل بين هذه البيئة الخصبة والشعب الذي سكنها. فالمثبت تاريخياً أن سكان منطقة الهلال الخصيب تشاركوا الحضارة نفسها، خاصة أنها قامت على الزراعة والعمران. التراث الحضاري الوثني لسوراقيا يدل على أهمية الإنتاج الزراعي لهذه الحضارة، من خلال إقامة الشعائر الدينية لآلهة المطر والرعد والخصب، كما يدل أيضاً على الاتجاه الذي أخذته هذه الحضارة انطلاقاً من محدّدات بيئتها الجغرافية وتفاعل شعبها المقيم على تلك الأرض، وهو بطبيعة الحال مختلف عن حضارة شعب ترعرع في بيئة صحراوية قاسية أحادية لا مكان فيها لنشوء عمران أو إنتاج يقود إلى البحبوحة والاستقرار. مثّلت الشمس مثلاً مصيبة بالنسبة إلى المقيم في الصحراء لأنها قاتلة، لذلك تم تأنيثها في اللغة العربية، بينما اعتبرت حضارة الهلال الخصيب الشمس مذكّراً «شمش». وبيئة منطقة الهلال الخصيب أنتجت تطوراً ثقافياً وعلمياً لافتاً في عصره القديم، من بناء قصور فخمة تعكس مرحلة التقدم الازدهار التي بلغتها تلك الحضارة، وتقدّم التكنولوجيا واختراع الدولاب الذي مثّل ثورة في زيادة الإنتاج الزراعي والتنقل التجاري؛ وبلورة عمليات حسابية وهندسية معقّدة، وإقامة قنوات للري في مناطق أصبحت صحراوية اليوم، وإرساء قواعد قيمية لتبادل السلع (barter economy)، وصكّ النقود واختراع الكتابة المسمارية على ألواح الطين المجفّفة ثم الأبجدية، ودراسة حركة الكواكب وصلتها بالأرض والفصول الأربعة، والاهتمام بالجماليات من نحت ورسم وغناء وموسيقى وشعر وأساطير، وإرساء قوانين كقانون حمورابي.
اعتبر سعادة أن «سوراقيا» أمّة من أمم العالم العربي، ووحدة «سوراقيا» الاجتماعية والاقتصادية معروفة منذ القدم (راجع: Charles Issawi, The Fertile Crescent. 1988)، وبقيت جغرافيتها واحدة عبر العصور، إذ إن الصراع على الخلافة في الدولة «السوراقية» لم يكن حول الجغرافيا، وإنما حول السلطة، فحُكْم الأمويين انطلاقاً من عاصمتهم دمشق لم يلغ سيطرتهم على المنطقة ككل، وكذلك الأمر بالنسبة إلى العباسيين الذين بنوا بغداد وجعلوها عاصمتهم. بقيت جغرافية «سوراقيا» واحدة عبر العصور وحتى بداية القرن العشرين حين مزّقها الاستعمار الغربي بهدف الإمعان في السيطرة وتأليب الفئات الشعبية بعضها ضد البعض الآخر عبر إثارة النعرات الطائفية والإثنية، ولا يزال يمارس السياسة ذاتها. فالحرب الطائفية التي حذّر منها سعادة واعتبر أنها لا تؤدي إلا إلى «الخراب القومي» نشبت في لبنان عام 1975 ودمّرت البلد، وحين انتهى المستعمر من استعمال الطائفة المسيحية لمآربه الخاصة وقضى على وجودها، انتقل إلى تأليب السني ضد الشيعي، والكردي ضد العناصر الأخرى، ولن يتوانى عن تدمير هذه الحضارة التي هي نقيض الحضارة الغربية القائمة على التطهير العرقي والديني كما يبيّن تاريخ الغرب منذ بداية الحضارة الغربية في اليونان وبعدها روما ثم الكنيسة الكاثوليكية والدولة الحديثة العنصرية وهيمنة العرق الأبيض. فحضارة «سوراقيا» حضارة اندماجية منفتحة، محبة للآخر، تقبله ويصبح جزءاً منها، سواء أكان هذا الآخر مختلفاً دينياً أم إثنياً، لذلك شدّد سعادة على أن الشعب المقيم على أرض سوراقيا شعب واحد بمعزل عن دينه أو إثنيته أو جندره، وعلى هذا الأساس أصبح شعار الزوبعة التوحيدي علم حزبه:
"زوبعة الحزب السوري القومي الإصلاحي نشأت من فكرة سوريّة خالصة أرادت أن ترمز إلى الاتحاد الشعبي بإزالة الفوارق الدينية. هذه الزوبعة هي الطريقة الوحيدة للجمع بين الصليب والهلال متدامجين ومتحدين اتحاداً متيناً في حركة واحدة. هذا هو رمز الزوبعة، وليس تقليد الصليب المعقوف الألماني"، («الأعمال الكاملة»، الجزء السابع، الصفحة 79، العام 1944). وتظهر الصور كيف أن سعادة أشرك كل الطوائف والمذاهب والإثنيات رجالاً ونساء في نهضته ولم يستثن أحداً من شعبه في بلاد الشام.
خلال فترة القرن العشرين، ركّز المستعمر على ترسيخ حدود سايكس-بيكو، وإقناع كل كيان من كيانات سوراقيا بأنه بلد نهائي وأن جاره ألدّ أعدائه، ولسوء الحظ اقتنع عدد كبير من السكان بهذا المنطق وحسبوا أنفسهم «العرق الأبيض» الجديد في المنطقة، وأصبحوا يحاربون في سبيل انعزالهم وبناء كيان مستقل لهم، ويعملون بكل قوتهم ضد أي مشروع وحدوي ويستجلبون الغربي والإسرائيلي لدعمهم ضد أخيهم في المواطنة والعيش المشترك. هذا تماماً ما حاول سعادة تلافيه، إذ كان هاجسه إعادة اللحمة إلى «سوراقيا»، لأنه يعرف مسبقاً أنه من المستحيل أن ينجح أحد الكيانات التي قام الاحتلال الغربي بإنشائها في الحصول على أيّ استقلالية سياسية أو اقتصادية بسبب هزالها وضعفها وعدم استحواذها على الإمكانات المادية الضرورية حتى لو شاء شعبها تغيير الأمر الواقع، وارتأى، كما والده من قبل، أن الوحدة ضرورية لتعميم ثقافة واحدة تؤسّس لوحدة المجتمع.
إذاً، يصبو سعادة إلى توحيد المجتمع قبل أي شيء آخر، وإزالة الانقسامات العمودية من إثنية ودينية، واعتبار هذا التنوع مصدر غنى ثقافي بالغ الأهمية كونه يشير إلى هذه الحضارة المتميزة عن غيرها في هذه النقطة بالذات، أي انفتاحها وتسامحها تجاه الآخر، فلا تقتله أو تلغيه أو تهجره، ما أدى إلى الحفاظ على كل هذه التلاوين الرائعة بالرغم من تضاربها في بعض الأحيان.
بنى سعادة حزبه على هذا الأساس، فانضم إلى الحزب فلسطينيون وأردنيون وسوريون ولبنانيون، ومن جميع الطوائف والملل والإثنيات، فمنهم الكردي والأرمني والشركسي والمسيحي والمسلم، لا فرق بينهم، يشعرون بالتقارب عبر إيمانهم بقضية واحدة ألا وهي تحرير الأرض والنهوض بهذه الأمّة التي يرى فيها سعادة كل المقوّمات التي تؤهلها للنهوض والتطور لو استطاعت أن تستقل بقراراتها وتتخلص من سلاسل العبودية.
كان بودّه زيارة العراق بعد عام 1947 وعودته الثانية، لكن الوقت لم يسعفه فانقضّ عليه من خاف من مشروعه في تموز من عام 1949.
حين عاد سعادة إلى لبنان قادماً من البرازيل عام 1930 وجد بلاده مقطّعة الأوصال ومحتلّة من قبل البريطانيين والفرنسيين. مهمته الأولى تمثّلت في عملية تحريرها، لكنه رأى أنه من غير الممكن تحرير كيان من كيانات «سوراقيا» بدون تحرير الكيانات الأخرى، فأنشأ حزبه الجامع للكيانات كلها للعمل من أجل إعادة لحمة جميع كياناتها؛ عنى ذلك إقامة فروع للحزب الذي عليه أن ينفذ عملية التحرير في أرجاء الكيانات.
لم تثبط ضخامة هذا المشروع همّة سعادة، ولم يأبه لكل التنبيهات التي وصلته من بعض المثقفين الذين أكدوا له أنه من المستحيل أن ينشئ حزباً يجمع كل الطوائف والأعراق المتواجدة في منطقة الهلال الخصيب، وهو المسيحي المنتمي إلى ملة الروم الأرثوذوكس. قبِل الرهان وانتصر، فكما تبين الصور انضم إلى حزبه الآلاف من الشباب المتحمس لهذه القضية من كل أرجاء «سوراقيا»، لا فرق بين مسلم ومسيحي، لأن هؤلاء الشباب اقتنعوا بصوابية مشروعه القومي الذي ساوى بين الجميع، أي أن التعصب الديني اضمحلّ ليحل محله الولاء الوطني القومي. هذا الإيمان بقي لدى جميع القوميين، بالرغم من انقساماتهم، أو انسحابهم من حزبهم، فلا تجد واحداً ينصر أعداء الأمة «السوراقية»، ولا تجد واحداً منهم يضع ولاءه الطائفي أو العرقي فوق انتمائه الوطني. هذا من نتائج عمل سعادة الدؤوب الذي أخذ يزور كيانات «سوراقيا» دون كلل أو ملل لاستقطاب الشباب بشكل خاص، لأنهم يمثلون العمود الفقري للحزب، ولأنه بحاجة إلى زنودهم في هذه المعركة التي كان يعرف سلفاً أنها لن تحل إلا بالقوة، لكن الإمكانات المادية لم تكن على قدر طموحاته.
نشأ الحزب بشكل سري لأن السلطات الفرنسية منعت حرية الرأي والاجتماع، ولأن سعادة كان متيقّناً أنه وحزبه سيُضطهدان ويُحاربان في اللحظة التي سيُعرف بها برنامجه. وبالرغم من جميع احتياطاته، كُشف أمر الحزب، وأعلنت السلطات الفرنسية مطاردتها لسعادة الذي يعمل لدحرها وإخراجها من بلاده، وحين حصل على فرصة لتعليم اللغة الألمانية في الجامعة الأميركية في بيروت، وجدها فرصة لنشر آرائه بين الطلاب. وقصة تعاقده مع الجامعة الأميركية طريفة، إذ إن رئيس الجامعة آنذاك، بايارد دودج، يعرف والده الدكتور خليل سعادة الذي تخرّج طبيباً من هذه الجامعة والتي كان اسمها الأصلي الكلية السورية البروتستانتية، بما أن بيروت جزء من سوريا آنذاك. وحين انتهى سعادة من كتابة قصتيه «فاجعة حب» و«عيد سيدة صيدنايا»، أهدى رئيس الجامعة الأميركية قصتيه وذكّره بوالده، فقدّم له هذا الأخير عرضاً للتعليم، لكنه أيضاً صمّم على مراقبة هذا الشاب، خاصة أن والده الدكتور خليل التحق بثورة الطلاب حين قرّر مؤسس الجامعة القسيس، دانيال بليس، أن يغيّر التعليم في الجامعة من اللغة العربية إلى اللغة الإنكليزية، لكنّ أستاذهم فإن دايك انضم إلى الطلبة، وأكمل تعليمهم باللغة العربية إلى حين.
باشر سعادة الدعوة لحزبه السري بين الطلبة، فشرح وناقش، لكن سرعان ما اكتشف دودج الحقيقة وأخبر السلطات الفرنسية التي ألقت القبض عليه بتهمة إنشاء حزب سري. لم يهنأ سعادة بفترة راحة بين مجيئه وتركه المنطقة مكرهاً عام 1938 بسبب الملاحقة الفرنسية، فلا يكاد يخرج من السجن حتى يعود إليه، وشعر سعادة بأن السلطات الفرنسية تنوي القضاء عليه ومحو الحزب من الوجود، فقرّر السفر والاهتمام بالجاليات «السوراقية» في المغترب.
المغترب القسري (1939-1947)
غادر سعادة لبنان سرّاً وزار فلسطين قبل سفره باتجاه البرازيل بحراً. ومن مفارقات القدر أن سعادة سيتبع الطريق نفسها التي سار عليها والده مرغماً أيضاً من السلطات الفرنسية. ففي عام 1908 اختلف خليل سعادة مع القنصل الفرنسي بعد أن دعاه سعادة للمساهمة في إنشاء مستشفى وطني في بيروت إبان حكم السلطنة العثمانية. رفض القنصل الفرنسي المساهمة بالرغم من قبوله الدعوة، فكتب خليل سعادة مقالة ينتقد فيها القنصل وموقف فرنسا، ما أثار حفيظة بعض الموارنة الذين قرروا التخلص من خليل سعادة، فما كان من السلطات العثمانية إلا أن تمنّت على خليل سعادة مغادرة البلاد حفاظاً على نفسه وعائلته، فغادر إلى القاهرة وبقي فيها حتى عام 1913 حين توفيت زوجته نايفة نصير، فتكفّلت زوجة سعد زغلول بالاعتناء بالأطفال السبعة إلى حين تدبّر أمور والدهم. حنو واهتمام زوجة سعد زغلول بالأطفال تركا أثراً بالغاً في قلب أنطون سعادة الذي كان يحب والدته حباً جماً، فسمّى ابنته البكر «صفية» عرفاناً وامتناناً لهذه السيدة النبيلة. وكما غادر الأب مصر متوجهاً إلى الأرجنتين فالبرازيل، سيجد أنطون سعادة نفسه في المسار ذاته لكن بشكل معكوس، فيصل البرازيل لينتهي به المطاف في الأرجنتين. وكما ترك خليل سعادة القاهرة عام 1913 وما لبثت أن نشبت الحرب العالمية الأولى في السنة التالية، كذلك سعادة حطّ في الأرجنتين قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية! والاثنان اختارا منطقة محايدة في أميركا اللاتينية، وامتنعا عن الإقامة في الولايات المتحدة الأميركية أو أوروبا.
اختار سعادة البرازيل لأنه أمضى فيها عقداً من الزمن وله معارف كثيرة وصداقات بين المثقفين «السوراقيين»، كما يحظى والده بتقدير كبير من الجالية العربية هناك. ما إن وصل ساو باولو حتى عمد بعض المناوئين لفكره إلى إبلاغ السلطات البرازيلية بأن وجوده يشكّل خطراً، فطلبت السلطات من سعادة مغادرة البلاد، ولم يكن أمامه من طريق إلا الذهاب إلى بوينس آيرس، عاصمة الأرجنتين.
لم تكن الجالية العربية في الأرجنتين بالمستوى الثقافي الموجود في البرازيل، فجلّ «السوريين» يعملون في التجارة. ومع ذلك لم ييأس سعادة بل عكف على تجميع القوميين وباشر بإنشاء جريدة انطلاقاً من البرازيل حيث تولاها بعض معارفه. تعرّف في العاصمة إلى جولييت المير التي تخرّجت لتوّها ممرضةً ونوت التخصص طبيبةً في قسم الأشعة، وهي الآتية من طرابلس الشام بعد أن هاجر أهلها مع نهاية القرن التاسع عشر. اهتمت جولييت بمبادئ سعادة لأنها كانت متحمّسة جداً لوطنها الأم، وتفتش عن طريقة للانخراط في عمل وطني، فتزوجا عام 1940 وبقيت تعمل ممرضةً وزوجها يعمل دون مقابل لبناء الحزب ودفع المغتربين والمغتربات إلى مؤازرة بلادهم التي ولدوا فيها.
كان سعادة متحرراً كلياً من الأدوار الجندرية التقليدية في بلاده، لذلك لم يأبه لوجوده في المنزل بينما زوجته تعمل، ورحّب بالاعتناء بابنته البكر حين ولدت لأنه يحب الأطفال، فاعتنى بها وقدّم لها هدية لا تُقدّر بثمن، ألا وهو تربيتها بطريقة عصرية فاقت في تحررها ما كان سائداً آنذاك، فلا فرق بينها وبين طفل ذكر، ولا حدود لأحلامها إلا ما تخطّه هي بنفسها، ولم يفرض عليها شيئاً كـ«دوغما»، بل حافظ على طفولتها وبراءتها وحمى خصوصيتها، وترك لها الحرية في اختيار ما تريد حين تكبر. وهو لعب دوراً كبير الأهمية في بلاد الشام بالنسبة إلى تعليم المرأة وانخراطها في الشأن العام، إذ إنه شجّع المرأة على الخوض في مضمار الشأن العام، فانضم العديد من النساء إلى الحزب، لكنهن تركنه بعد استشهاد سعادة بسبب الممارسات الذكورية للقيادات الحزبية، ورفضها تبوّؤ المرأة المثقفة والمتمكنة من دخول المجالس العليا، من مجلس عمد أو مجلس أعلى، أو في القضاء، واقتصر الأمر على اختيار امرأة واحدة تزين المجلس الأعلى تماماً كما يفعل الرجل الأبيض في الولايات المتحدة الأميركية حين ينصّب رجلاً أسود اللون. وشتان ما بين نظرة سعادة إلى المرأة، ومن تبعه من قيادات. يكفي أن نقارن بين الصور التي تُظهر بشكل واضح كيف كان سعادة محاطاً بالنساء، وبانخراطهن في المديريات بكثافة، وصور القوميين واجتماعاتهم في ما بعد، حيث بالكاد نجد وجهاً أنثوياً.
حارب سعادة من أجل حقوق المرأة على الصعد كافة، وكان صراعه عنيفاً في مواجهة المجتمع ورجال الدين، خاصة حين تم الاستيلاء على إرث الكاتبة والأديبة الشهيرة مي زيادة من قبل عمها بعد وفاة والدها، بحجة اختلال قدراتها العقلية، فرُميت في ما كان المجتمع اللبناني ينعته بـ«مستشفى المجانين». تدخّل سعادة وهدّد باستعمال القوة واستطاع إخراجها من المصح. («الأعمال الكاملة»، الجزء الرابع: 320-332). مثّل سعادة قدوة للكثيرين المنضوين في الحزب، خاصة أولئك الآتين من بيئات محافظة دأبت على منع المرأة من التعلم، فكانوا من الأوائل الذين بعثوا ببناتهم إلى المدارس.
كان سعادة يبني نهضة تستطيع الدفاع عن وطنها وتجابه المستعمر، لكنه وجد نفسه يحارب وحيداً وقد تألّبت عليه كل القوى المتواطئة مع الغرب، وكل من اعتبر نفسه خاسراً في حال نجاح مشروع هذا الرجل. استطاعوا إلغاءه من الوجود بعد سنتين من عودته من المغترب، لكنهم لم يستطيعوا إلغاء إيمانه الراسخ بشعبه، ولا استطاعوا إلغاء فكره وصوابية مشروعه الذي أخذ المجتمع السوراقي بتنفيذه، سواء أكان قرأ أنطون سعادة أم لم يقرأه، فهو استشرف الطريق قبل أن يخطّها المقاومون بأرجلهم، إذ أكّد أنه يعمل «لأجيال لم تولد بعد»، فكان القضاء والقدر: قضاء استشهاده، وقدر انتصار أمته.
* أستاذة جامعية