ما يحدث في غزّة ليس حرباً!
ما يحدث، هو أحد الانفجارات الكبرى للتاريخ.
انفجارٌ كبير للتاريخ، بوقائعه وأوهامه، بحقائقه وأكاذيبه، بسرديّاته الشائعة ومعانيه السائدة.
انفجارٌ.. ومن ثم انكشافٌ وعريٌ تام، لا ورقة توت تستر عورة فضّاحة مهما تجمّلت، ولا قناع يُخفي الأنياب الداشرة الناشبة التي يصعب عليها التراجع خلفاً للاختباء خلف ابتسامة (حضاريّة!) سمجة.
الحدث في غزّة، بمكوناته كلّها، يبدو كاكتشافٍ لـ (كنز مفقود)، ليس في الواقع سوى تلك الحقائق التي يتوالى ظهورها، وتلك المعاني التي تُستعاد عن مسألة عنوانها: فلسطين، عنوان عَبَرَ القرن العشرين والتهب مجدداً شعلة تُرى من كل بقاع الأرض.
والحدث في غزّة، وبالمكونات نفسها، يبدو كانكشافٍ غير مسبوق لذلك السؤال الكبير عن هذه الدولة غير المسبوقة بطبيعة وكيفيّة ولادتها: إسرائيل، عن مدى قدرتها على التطبيع مع قوانين التاريخ، وعن وجودها ومصيرها ووظيفتها في هذا العالم؟
كنز غزّة هو (ألواح غزّة)، ليست تلك التي يُنتظر هطولها من السماء، بل تلك التي بدأت تظهر من الأرض – الواقع، منذ أن اخترقت (حماس) غلاف غزّة الكتيم وأسوار المستوطنات، لتباشر بعدها آلة التدمير الاسرائيليّة سحلها للأرض والحجر والبشر، وصولاً إلى هذه اللحظة التي يسجّل فيها عدّاد القتلى الإسرائيلي العدد: 20,891 (هذا العدد مسجّل يوم السبت 23 كانون أول 2023، الساعة السادسة مساءً. يُفترض العودة إلى عدّاد القتلى مع كل قراءة لهذا المقال).
اللوح الأول
خوارزميّات العنف
سيُوصف العنف الإسرائيلي الذي تقع تحته غزّة الآن، بصفات التوحّش، وصفات الإبادة الجماعيّة، ثم سيُوصف بكونه غير قابل للوصف! لأنه غير مسبوق، منذ الحرب العالميّة الثانيّة، التي شهدت عمليات إبادة جماعيّة وعمليات تدمير منهجي للمدن كانت ذروتها في هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين المتفردتين تاريخيّاً بتلقي القنبلة الذريّة الأميركيّة.
على أنَّ العنف الإسرائيلي يُعاير زمنيّاً بكونه (غير مسبوق)، ليتبدّى بأنه مسبوق فعلاً من حيث درجته والآثار التي يسببها والخسائر البشريّة التي يوقعها، مسبوق بعمليات الحرب العالميّة الثانيّة وبغيرها من الحروب التي وقعت في فيتنام وكمبوديا والعراق ولبنان وأفغانستان… وغيرها. ومع ذلك هو عنف غير مسبوق إطلاقاً. لماذا؟
يعود العنف الإسرائيلي الراهن في طبيعته وكيفيّة تعبيره عن هذه الطبيعة إلى مرجعيّة إيديولوجيّة سياسيّة – دينيّة، عبّرت عنها الحركة الصهيونيّة من لحظة تأسيسها في نهاية القرن التاسع عشر وخلال مسيرتها كلها، على أنَّ المستجد في هذه الأيديولوجيا الآن أنّها دفعت بمعناها نحو الأقصى، إلى المرحلة التي لم تعد تجد في الفلسطيني عدوها (الشرير والإرهابي والقاتل) وحسب، بل (حشرة) فائضة على الطبيعة، ويُفترض إبادتها…!!
بالطبع تكرر هذا الوصف ومرادفاته للفلسطيني قبل أن تبدأ العمليّة العسكريّة، وكانت وظيفته الأولى تجريد الفلسطيني من صفاته الإنسانيّة، بتحويله إلى (حشرة – حيوان) ليستتبع وظيفته لاحقاً بتجريده من صفاته الجديدة التي وإن كانت (حيوانيّة) غير أنها أبقته ضمن عالم الكائنات الحيّة، وهذا غير كافٍ، فتم تجريده منها عبر تحويله إلى (هدف) له صفات (الشيء)، ما يجعله قابلاً للدخول في مجال اللعبة العسكريّة المجرّدة غير المحكومة بالشروط التاريخيّة وسيرة الحروب وقوانينها، على التوازي مع (لاعبيها: السياسيين والعسكريين) الذين يلعبونها وهم مجرّدون من الشروط الإنسانيّة وطبيعة البشر وأحاسيسهم وما يتحكّم بتصرفاتهم وسلوكهم.
وفق هذا التسلسل، أنتجت إسرائيل المكونات المجرّدة التي ليست سوى معطيات كافية لتشكيل مصفوفات خوارزميّة تم اعتمادها في المختبر (الإيديولوجي – السياسي – العسكري – التقني) لإنتاج أبلكيشن -application تطبيق غزّة، وبالطبع أكدّ هذا المختبر على أنَّ (حماس) هي من تحظى بـ (شرف) تدشينه في السابع من تشرين أول 2023.
في أبلكيشن غزّة، ستتحكم الخوارزميّات بمختلف العمليات التي تجري. سنرى ولأول مرّة مثلاً (وهذا غير مسبوق) أنَّ (اللاعب الإسرائيلي – الضابط) يهدي ابنته في عيد ميلادها شريطاً من (فيديو الواقع) يوثّق في خلاله كيف يقوم بتدمير مسجد أو منزل أو حي فلسطيني تدميراً تاماً، سيكون حريصاً على إبداء سعادته بهذه الهدية غير المسبوقة! وسنرى لأول مرة أيضاً (وهذا غير مسبوق) أنَّ لاعباً ثانياً يخصص رصاصة واحدة لقتل اثنين، أو إصابة هدفين (امرأة وجنينها)، وسيبدو متشاوفاً بوصوله إلى هذا المستوى الاحترافي من (اللعب)!
أمثلة تفرضها المنهجيّات الخوارزميّة كحوادث إجبارية في عملية السباق على جمع النقاط بتدمير أكبر عدد من الأهداف سواء أكانت هذه الأهداف ثابتة بطبيعتها (منازل – مدارس – مستشفيات…) أو متحركة مثل (البشر) لضرورات اللعبة ولزيادة درجة التشويق لللاعبين!!
يتضح من الكيفيّة التي تفرضها الخوارزميّات على اللاعبين أنَّ الغاية النهائيّة هي الوصول إلى إفناء الحياة على المساحة المعروضة في الابلكيشن والتي تأخذ اسم غزّة، وبهذا المعنى ستأخذ الأهداف قيماً متباينة بالنسبة لهذه الغاية. فالمستشفيات مثلاً تعتبر أهدافاً عالية القيمة يتسابق اللاعبون لتدميرها بكونها تسرّع في عملية الوصول إلى الغاية، ويأتي بعدها المدارس التي تديرها الأمم المتحدة (الأونروا)، فيما المساجد والجوامع تأخذ قيمة مضاعفة بكونها تذكّر بالعنوان المفتاحي: طوفان الأقصى. الكنائس و(الأماكن المسيحيّة) يتم استهدافها لقتل الوهم بأنها خارج منظار القنّاص الإسرائيلي، منذ أن قرر هيرودوس استهداف أطفال بيت لحم منذ أكثر من ألفي عام.
التدمير المنهجي للمساحة – غزّة سيتواصل على مدار الوقت، غير أنَّ اللاعبين لن يكونوا بمأمن من هؤلاء (الأشباح) الذين يظهرون من تحت الدمار! يتضح تماماً أنَّ الخوارزميّات لم تتمكن من ترتيب مصفوفات محكمة للتعامل مع أمكنة إقامة الأشباح، والتي ليست سوى الأنفاق. سيُلحق الأشباح أضراراً بالغة بالتطبيق ومن يلعب به، والضرر الكبير سيكون بالتشكيك في قدراته ومدى مصداقيته… الأمر الذي يخضعه لعمليات الترميم والتعديل الدائمة، على التوازي مع عمليات الدعم الكبيرة والمتواصلة التي يتلقاها من (آلهة التكنولوجيا وآلهة السلاح).
رغم ذلك تتواصل عمليات تدمير الأشياء الصغيرة أسوة بالأشياء الكبيرة، وهذه (الأشياء) ليست سوى البشر (الفلسطينيون) أطفالهم وكبارهم، نساؤهم ورجالهم. لا تميز الخوارزميّات الطفل عن البالغ سوى بالحجم فقط، فالطفل (شيء) صغير والبالغ (شيء) كبير!
على هذا النحو، تقدّم إسرائيل (النموذج المستقبلي) للحروب في العالم، والذي لا يمكن الأخذ به دون مرجعيّة إيديولوجيّة، وجدت فرصتها في هذا العالم المنفلت دون ضوابط أخلاقيّة ودون أعراف عامة، لتقوم بذلك التجريد التام الذي يحيل الحياة بمكوناتها إلى عالم من الرموز، التي يمكن اقتناصها وبسهولة بالغة من المختبرات التقنيّة فائقة الشهوة التي تعيد إنتاج العالم برمته وفق منهجيات خوارزميّة تتعدل على مدار الساعة للوصول إلى مرحلة إنتاج نفسها كـ (خالق) لما يراه يستوجب الحياة، وكصاحب الحق والقدرة في تدمير (مخلوقاته).
في هذا نجد (غير المسبوق)، في عدم رؤية البشر كبشر، في تحويل الفلسطيني إلى شيء – هدف، يجب تحييده من الحياة قتلاً وتدميراً أو إبعاداً ونفياً، فالمساحة التي يتيحها الأبلكيشن ليست مبرمجة ليكون فيها.
إنْ انتهت اللعبة وفق منطق الخوارزميّات… ستبدأ لعبة متممة يتم التسويق لها تحت اسم: أبلكيشن إعادة الإعمار…!
أدت حرب غزّة، بأسبابها ووقائعها وطبيعتها، إلى نشوء ارتياب بحقيقة معرفتنا بـ (إسرائيل)، ارتياب سيتحوّل مع فصول الحرب إلى شكٍّ قاطع فيما إذا كنا نعرف إسرائيل فعلاً، أو أنَّ معرفتنا بها ناقصة ومبتورة، أو أننا لا نعرفها أبداً؟
يرتبط هذا التساؤل ارتباطاً وثيقاً بكيفية تعرّفنا إلى إسرائيل؟ أي كيف تشكّلت معرفتنا بها، وأية صورة لها هي الحاضرة في وعينا؟
تعود معرفتنا بـ (إسرائيل) إلى مصدرين رئيسين، أولهما واقع وجودها، وثانيهما رواية وجودها. ولا تخفى بالطبع بديهيّة علاقة المرجعين أحدهما بالآخر.
I
في مستوى الواقع، يمكن التعرّف إلى إسرائيل كدولة ابتداءً من إعلانها في 15 أيار 1948، قبل ذلك كانت دولة إسرائيل مشروعاً للحركة الصهيونيّة المؤسسة في نهاية القرن التاسع عشر. هذه الدولة المُتخيلة لم يكن عندها أرض لتقوم عليها، فبحث قادة مشروعها عن أرض سيكون اختيارها متوافقاً مع المصالح العليا للقوى الكبرى في العالم، لتكون فلسطين أو (المنطقة السمراء) من خريطة اتفاقيّة (سايكس – بيكو 1916) هي الأرض الملائمة لتنفيذ هذا المشروع.
قام هذا المشروع على مبدأ (الحلول محل المالك)، أي إخلاء الأرض بطرد أو نفي أو قتل صاحبها واغتصابها بالقوة. بهذا المعنى اتخذت إسرائيل كدولة وضعية المُغتصب، ولما كان مشروعها غير منتهٍ فإن هذه الوضعية ستلازم وجودها ومعناه، أي أنها ستظل من لحظة ولادتها 1948 وإلى الآن تمارس فعل الاغتصاب، فهي محكومة به بفعل طبيعتها ومرجعياتها الايديولوجيّة ووظيفتها الجيوسياسيّة.
بالرغم من حالة التوتر التي تلازم وجودها إلّا أنَّ دولة إسرائيل ليست “أوهى من بيت العنكبوت”! فهذا الشعار الذي يتم ترويجه لأسباب (تعبويّة؟) يؤدي إلى تضليل الرؤية وحرف المعرفة بـ (إسرائيل) بإحلاله (الوهم) بديلاً من (الواقع).
التوتر الملازم لوجود إسرائيل، والذي هو نفسه التوتر الملازم للمُغتصب – المجرم والقوي في آن، لا ينفي معطيات واقع هذا الوجود:
1- إسرائيل كواقع هي (مخلوق غربي)، فهي ليست دولة حليفة ولا صديقة ولا مُقرّبة ولا مؤيدة… للغرب، بل هي جزء عضوي منه، منذ أن تشكّلت كمشروع في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتأسست كدولة بعد الحرب العالميّة الثانية، وصولاً إلى الآن.
وجودها ليس ببعد وظيفي واحد ومحدود بالحقل الجيوسياسي أو الاستراتيجي، بل يتجاوز ذلك نحو كونه حلاً لمسألة أوروبيّة لم تكن سوى (المسألة اليهوديّة)، وإن كان حلّ هذه المسألة قد حصل جغرافيّاً في (الشرق) إلاَّ أنَّ توضيعه كمشروع جاء بمواصفات غربيّة على مستوى النظام السياسي، كما على مستوى طبيعة الدولة.
إسرائيل بهذا المعنى هي (جزيرة غربيّة) في برِّ الشرق. سيتخلى عنها الغرب الأورو – أميركي، عندما تصاب مراكزه بالضعف، أو عندما ينتهي واقع (الجيتو اليهودي) في مجتمعاته والذي يؤكد استمراره دينيّاً وثقافيّاً إلى جانب (اللوبيّات) والمنظمات والمؤسسات اليهوديّة، في برهان غير قابل للشكّ، بأن المسألة اليهوديّة التي جوهرها يكمن في إشكاليّة الاندماج في المجتمعات الغربيّة لا تزال مستمرة إنما بشكل مغاير لما كانت عليه سابقاً، وإن يتم التستر عليها وإنكارها رسميّاً وإعلاميّاً.
تراجع الوظيفة الجيوسياسيّة لإسرائيل، لا يكفي كي يتخلى عنها الغرب. هذا (المخلوق) سيبقى في المدى المنظور، وفق ما رأى روجيه غارودي مرة مفككاً الخلفيّة الأوروبيّة في العمل على ولادته كدولة، سيبقى “الجيتو العالمي” لليهود المرتبط بشرايين سكانيّة تغذيه من الجيتوات القائمة هناك.
أميركيّاً، وعلى نحو خاص، إسرائيل امتداد أميركي في (قلب العالم).
إسرائيل، ليست موجودة بذاتها ولا يمكن أن تستمر بذاتها. هي موجودة نشوءً وواقعاً بانتمائها إلى الغرب الأورو – أميركي. تفككها الداخلي، أو انقسامها – بعض ظواهره الأولى كانت بادية قبل 7 تشرين أول 2023 – من شأنه أنْ يضعها على أبواب حرب أهليّة، وهو مصطلح أصبح معتاداً في صحافتها، وفي هذه الحالة التي لم يكن يتخيلها أي مؤرخ أو مراقب استراتيجي قبل عدّة سنوات، لا يمكن التكهن بالكيفيّة التي سيتعاطى فيها الغرب وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركيّة معها؟
2- ارتباطاً بما سبق، وعلى مدى 75 عاماً، تم تعمير دولة إسرائيل بمواصفات غربيّة عالية، فهي دولة حديثة في مختلف الحقول، بمستوى معيشة مرتفع في مؤشراته، وفي حقل التكنولوجيا العليا، تأخذ مكانة متميزة وخاصة. الشركات العملاقة مثل غوغل وغيرها ترتبط بمراكز أبحاث إسرائيليّة، أقمارها الصناعية تجوب السماء فيما زراعتها المتقدمة تستثمر الأرض على نحو مثالي.
يمكن القول: تمكّنت إسرائيل خلال سنواتها الـ (75)، من صنع فارق في مستوى الحداثة مع محيطها من العراق إلى لبنان وصولاً إلى مصر، فارق ازداد إلى درجة قياسية مع تفكك هذا المحيط وضرب بناه التحتية وتدمير أغلب مدنه ابتداءً من الحرب الأهليّة اللبنانيّة في السبعينيّات مروراً بحروب العراق والشام وصولاً إلى الآن.
3- تمتلك إسرائيل برنامجاً نوويّاً منذ خمسينيّات القرن الماضي، وهو برنامج سرّي وخارج عن رقابة المنظمات الدوليّة. يمكن القول إنَّ إسرائيل دولة نوويّة، لكن ليس هنالك معلومات معروفة عن قدراتها الحقيقيّة؟
السلاح النووي لم يُنتج كي لا يُستخدم وتكون وظيفته ردعيّة وحسب، كما هو رائج، فقد سبق وتم استخدامه سابقاً من قبل الولايات المتحدة – هيروشيما – ودون وجود سبب عسكري، وبقراءة لإسرائيل كواقع ووظيفة ومرجعيّات إيديولوجيّة، يتبدى بوضوح أنَّ هذا السلاح سيستخدم عند الحاجة، وإن أدى إلى (خراب أورشليم)، فهو يتخفّى منتظراً تحت مسمّى: الخيار شمشون.
في الخلاصة، إسرائيل دولة غربيّة “أميركيّة”، مُغتصِبة ووجودها موسوم بالتوتر، لكنها حديثة ومتقدمة، تمتلك أسلحة نوويّة وبرنامجاً سريّاً، وإن كانت خارج نادي الدول النوويّة المعروفة.
II
ما هي رواية وجود إسرائيل؟
يعتبر المفكّر الفرنسي المعروف روجيه غارودي (1913 – 2012)، هذه الرواية بأنها حزمة من الخرافات، أو الأساطير اللاهوتيّة ” الوعد – الشعب المختار – التطهير العرقي (يشوع وعزرا)” والأساطير الناشئة في القرن العشرين – خلال وبعد الحرب العالميّة الثانية (1938 -1945) – ” معاداة الصهيونيّة للفاشيّة – عدالة محاكمات نورمبرج – الملايين الستة المحروقين في أفران النازيّة – أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”. غني عن القول أنَّ كتاب غارودي “الأساطير السياسيّة المؤسسة لدولة إسرائيل” أدى إلى إعدامه في بلده فرنسا وفي أوروبا وأميركا الشماليّة، معنويّاً ورمزيّاً.
من جهة الداخل الإسرائيلي، شكّلت موجة “المؤرخين الجدد” ابتداءً من نهاية ثمانينيّات القرن العشرين، التحدي الأبرز لشبه الإجماع المفروض أو الذي كانت تتمتع به الرواية الصهيونيّة. ولم تقتصر اهتمامات هؤلاء المؤرخين على نقض الرواية الرسميّة لتأريخ الأحداث المرافقة لولادة دولة إسرائيل (1947 – 1948)، بل تعدتها نحو التأريخ لولادة الحركة الصهيونيّة في القرن التاسع عشر باعتبارها مُنتجاً (استعماريّاً إمبرياليّاً) غربيّاً.
الآن، ما هي رواية وجود إسرائيل، وإلى أين يمتد نفوذها؟
رواية إسرائيل، هي تلك السرديّة التي وضعتها الحركة الصهيونيّة وفرضتها على معتنقي الديانة اليهوديّة، ومن ثم على المجتمعات الغربيّة ومؤسساتها السياسيّة، حيث استندت على هذه الرواية في استيلاد دولتها وتأسيس استراتيجياتها ومدها بمقومات الاستمرار.
يمكن تكثيف هذه الرواية كما يلي: أتباع الديانة اليهوديّة أينما كانوا ووجدوا في روسيا، أو إنكلترا، أو كندا، أو أثيوبيا، أو العراق، أو إيران، أو المغرب… يتحدّرون من تلك القبيلة اليهوديّة التي وفق الشجرة العرقيّة تصل إلى إبراهيم. ظهرت عوائل هذه القبيلة مع نزول التوراة في سيناء، ثم لتخرج من مصر وتحتل أرض كنعان لكونها “الأرض الموعدة” التي منحها لها “الرب”، ولتقيم هناك مملكتي داوود وسليمان قبل أن تنقسم إلى يهودا وإسرائيل….. ومع تدمير الهيكل في العام 70 ميلادي، انتشر ” الشعب اليهودي” في شتى أصقاع العالم، وظلّ مشتتاً قرابة الألفي عاماً محافظاً على نفسه دون أن تتمكن المجتمعات المُضيفة له من دمجه وتذويب شخصيته.
بعبارة مكثّفة، الرواية الصهيونيّة تقرر أنَّ اليهود ليسوا أتباع ديانة وحسب، بل شعب يعود إلى أصل عرقي واحد.
بطبيعة الحال، تتعرّض هذه الرواية الآن لنقد شديد من المؤرخين الجدد وغيرهم. يعتبر شلومو ساند مؤلف كتاب “اختراع الشعب اليهودي” أنَّ ” الصهيونيّة أمّمت الديانة اليهوديّة” ولا يتردد في التساؤل إن كان “هتلر الذي مني بهزيمة عسكرية في العام 1945 انتصر في نهاية الأمر فكريّاً وعقليّاً في الدولة (اليهوديّة)؟”.
هل يتوقف نفوذ هذه الرواية عند حدود أتباع الديانة اليهوديّة؟
طبعاً لا، فهي تفرض نفسها كرواية معتمدة عن تاريخ “الشعب اليهودي” في الثقافة السياسيّة والدينيّة لمختلف شعوب العالم. وإذا كان من الطبيعي أن تتمكن الحركة الصهيونيّة من فرض روايتها على المجتمعات الغربيّة عموماً، لأسباب عديدة صاحبت تبني هذه المجتمعات ودولها لمشروعها، على أنَّ الإشكاليّة الكبرى تتمثل في تبني مؤسساتنا السياسيّة والثقافيّة والدينيّة والتربويّة للرواية الصهيونيّة باعتبارها رواية “تاريخ اليهود” فعلاً؟
على هذا النحو فرضت الحركة الصهيونيّة علينا مكوناتها المعرفيّة ومنهجيتها في التعرّف إليها وإلى مشروعها: دولة إسرائيل.
المعركة الأولى التي انتصرت فيها الحركة الصهيونيّة، كانت في تحويل (طائفة دينيّة) إلى (شعب)، ولم تكن لتتمكن من ذلك دون اعتمادها خرافة عزرا التوراتيّة بإقامة الجدار الحديدي الذي يمنع اليهود من الاختلاط العرقي بغيرهم. ” العرق اليهودي” هو المقوّم الوحيد والحصري الذي مكّن من ” اختراع الشعب اليهودي” على حد تعبير شلومو ساند. دون العرق ينتهي الشعب وتعود الطائفة أو الدين.
سيكون علينا الإقرار أنَّ مصادرنا الدينيّة تتفق مع جذر الرواية الصهيونيّة، ومن هذه المصادر يتم استيلاد شرعيّة للصراع مع إسرائيل باعتباره صراعاً دينيّاً، كما في الوقت نفسه ومن المصادر نفسها يتم استيلاد شرعيّة للسلام مع إسرائيل لأسباب دينيّة وعرقيّة مزعومة (الحيثيات التي قدمها الرئيس أنور السادات لإضفاء شرعيّة دينيّة – عرقيّة على اتفاقيات كامب ديفيد 1978)، والآن (الابراهيميّة)!
III
وجوداً وروايةً، لا يمكن لإسرائيل الانقلاب على مقوّم وجودها: العرق. مع نفيه، لا يتبقى من مقوّمات تجمع اليهود كـ (شعب واحد في دولة واحدة). ترتهن حيثيّة وجود إسرائيل، بهذا المعنى، إلى هيمنة السرديّة الصهيونيّة على اليهود والمجتمعات الأورو – أميركيّة، ومجتمعنا بمؤسساته الثقافيّة والسياسيّة فضلاً عن طوائفه ومذاهبه الدينيّة.
الخيار العرقي، هو الخيار الوحيد لإسرائيل، ومع سقوطه تسقط الصهيونيّة ودولتها، لذلك تُسجل (اليهوديّة) على البطاقة الوطنيّة للإشارة إلى الهويّة لا إلى الدين.
لذلك، لا يمكن أن تكون دولة إسرائيل الصهيونيّة إلّا دولة يهوديّة عرقيّة.
وبهذا المعنى يمكن رؤية إسرائيل والتعرّف إليها من منظار تعريف كارل دويتش للأمّة: ” هي مجموعة من الناس يوحدها خطأ مشترك حول أصلها، وعداء جماعي تجاه جيرانها”، تعريف استعاره شلومو ساند في معاينته لـ (أمته)!
VI
التحرر من هيمنة السرديّة الصهيونيّة، يكشف إسرائيل على نحوٍ آخر ويعيد تعريفها في إطار الأحداث التاريخيّة وخصوصاً في القرن التاسع عشر، مع ملاحظة تقدم (السرديّات العرقيّة) في الأدبيّات الأوروبيّة، وخصوصاً منها الألمانيّة التي إلى جانبها نشأت وانتعشت (العرقيّة اليهوديّة). تلك الأحداث مع الأدبيّات المواكبة لها اجتمعت كعوامل مكّنت من تأسيس الحركة الصهيونيّة التي سرعان ما التحفت المصلحة العليا للإمبراطوريّة البريطانيّة، ومن ثم وبعد نهاية الحرب العالميّة الثانيّة اندرجت في بنيّة المصلحة العليا للولايات المتحدة الأميركيّة، على النحو الذي يؤكد اعتمادها مبدأ تشبيك مصيرها بمصير أقوى قوة عالميّة.
بهذا المعنى، تُعرّف إسرائيل كجزءٍ عضوي من الغرب الأورو أميركي.
V
لا يمكّن التحرر من السرديّة الصهيونيّة، إلّا بتحييد (المصادر والمرجعيّات الدينيّة) عن منظار معاينة الصهيونيّة. دون ذلك ستبقى المعاينة نصيّة (قراءات متضادة في النصوص الدينيّة المؤسسة)، وسيبقى التاريخ وأحداثه وفصوله بعيداً عن هذه المعاينة. وسنبقى تحت حكم السرديّة الصهيونيّة التي تشكّل طليعة هيمنة دولتها: إسرائيل.
اكتشاف إسرائيل، قد يكون المعركة التي يجب أن نخوضها لنرد على انتصار الحركة الصهيونيّة في معركتها الأولى: فرض سرديّة بتحويل أتباع ديانة من عروق لا تعُد ولا تُحصى إلى شعب من عرق واحد نقي خالص!
إسرائيل تملك القنبلة النوويّة… لإنتاج الهلع منها، وتصويرها كقوة رادعة لا تُقهر، وفي الختام لإنتاج الجحيم.
حسناً، نحن بدورنا نملك القنبلة الديمغرافيّة، التي تُستخدم وفق ناموس الطبيعة البشريّة للحفاظ على النوع، قبل أن تدخل المختبرات الاستراتيجيّة ليتم توظيفها في صراع وجودي لا تبدو نهايته قريبة.
غالباً، ما تتم الإشارة إلى يسرائيل كيننغ باعتباره قارع جرس الإنذار في إسرائيل من (القنبلة الديمغرافيّة) الفلسطينيّة، وذلك بعد نشر وثيقته السّريّة التي عُرفت بـ “وثيقة كيننغ” في العام 1976، حيث كان يشغل وظيفة متصرّف لواء الشمال في وزارة الداخليّة. الوثيقة دخلت في الأدبيّات المؤرخة لسياسة الفصل العنصري – أبارتهايد – التي تعمل وفقها الحكومات الاسرائيليّة دون استثناء.
كيننغ الذي اختصت وثيقته بالأصل بوضع الجليل، فتح الباب للاستخدام الواسع لـ (الديمغرافيا) في إطار كونها تمثل الخطر الأكبر إن كانت من الجهة المقابلة الفلسطينيّة، كما في كونها تمثل الأمان الوجودي إن كانت من الجهة الإسرائيليّة. التداول بالديمغرافيا سيتحول لاحقاً إلى ثابت لا يمكن تجاهله في إطار تصوّر “الحل النهائي” للمسألة الفلسطينيّة كما تريده إسرائيل. مصطلحات إضافيّة ستنزل إلى سوق التداول السياسي – الإعلامي الإسرائيلي: الشيطان الديمغرافي، قنبلة الأرحام… إلى جانب “أنبياء الغضب الديمغرافي” الذين يواصلون قرع جرس الإنذار باقتراب غرق إسرائيل بفيضان الديمغرافيا الفلسطينيّة المتعاظمة يوماً بعد يوم ودون توقف.
نكبة العام 1948، اكتملت كحدث مع نجاح خطة بن غوريون بتهجير حوالي مليون فلسطيني من مدنهم وبلداتهم وقراهم، التي تم تدمير أكثر من 500 منها وإقامة مستوطنات على أنقاضها لإسكان قوافل اليهود القادمين على متن السفن من أوروبا أولاً، ومن ثم من مختلف أنحاء العالم، وفق مخطط تم تنفيذه بتسارع متزايد مع خروج القوات البريطانيّة من فلسطين.
احتاج الفلسطينيّون الذين تمكّنوا من البقاء في أرضهم إلى عشرين عاماً للتعويض النسبي عن (النكبة الديمغرافيّة) التي لحقت بهم. ورغم قيام إسرائيل بتنفيذ “نسخة ثانية” من النكبة في العام 1967، إلّا أنَّ الحديث الإسرائيلي عن الخطر الديمغرافي الفلسطيني القادم لا محالة، بدأ يؤسس لاستكمال سياسة “التطهير العرقي” التي دشنها عملياً بن غوريون في العام 1947.
وبالرغم من أنَّ حرب المعلومات الإحصائيّة الخاصة بتعداد الفلسطينيين واليهود المتواجدين على أرض فلسطين، حرب بين إسرائيل والجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني وغيره من الجهات الفلسطينيّة، مستمرة بسلاح الأرقام والأرقام المضادة، غير أنّها في أحد أوجهها تؤكّد على أنَّ الديمغرافيا ستكون (السلاح الطبيعي) القادر على حسم المعركة بمعناها الوجودي – الهوياتي القومي.
اعتمدت إسرائيل استراتيجيّة متعددة الأوجه في مواجهة “القنبلة الديمغرافيّة الفلسطينيّة”، اقتصاديّة، واجتماعيّة، وسياسيّة، وعسكريّة. قطّعت خريطة تواجد الفلسطينيين في محاولة لعزلها بعضها عن بعضها الآخر. تحكّمت بمصدر رزقهم. خلقت مختلف الظروف التي تدفع الفلسطينيين في داخل مناطق الضفة الغربيّة ومناطق 1948 للهجرة. تحكّمت بإمدادات الطاقة والكهرباء خصوصاً في قطاع غزّة الذي مارست عليه حصاراً شاملاً يضيّق سبل الحياة.
على أنَّ المرجعيّة الأم لجوانب هذه الاستراتيجيّة تكمن في العقيدة الصهيونيّة التي تتبنى “يهوديّة الدولة” دون أيّة مواربة أو لغة تخفيفيّة للمعنى العرقي حرفيّاً. يهوديّة الدولة هو الخيار الوحيد القادر على ضمان اعتبار إسرائيل “بيئة طاردة” للفلسطيني، هو الخيار الذي يضمن وجود تلك المسافة التي تشعر فيها إسرائيل بالأمان. هذا قانون كل الهويّات العرقيّة في التاريخ، وهو الذي تبنته الحركة الصهيونيّة منذ نشوئها في البيئة الأوروبيّة في أواخر القرن التاسع عشر.
كان واضحاً منذ بداية المشروع الصهيوني، أن لا مجال ليقوم ويقيم دولته ويؤمن استمرارها موجودة دون إبعاد السكان الفلسطينيين. سفر عزرا التوراتي أمّن المرجعيّة الدينيّة لاستراتيجيّة للتطهير العرقي التي بدأتها عصابات الهاغانا والشتيرن وتبنتها الدولة التي أعلنت عن وجودها مساء 14 أيار 1948.
لماذا هذه الاستعادة المختصرة لما يمكن اعتباره من السرديّات البديهيّة لتاريخ الصراع مع المشروع الصهيوني، وبمناسبة الحرب التي يشنها على قطاع غزّة منذ السابع من تشرين أول 2023؟
لأنَّ جواب سؤال النكبة، يجب أن يكون واضحاً تماماً. نكبة العام 1948 لا تكمن في هزيمة “جيش الإنقاذ”، بل في نجاح المشروع الصهيوني بتنفيذ خطته بطرد الفلسطينيين من أرضهم بمختلف السبل. ونجاح نسخة العام 1967 من النكبة أنها استكملت ما بدأته قبل عشرين عاماً.
المعارك الوجوديّة المصيريّة لا تبدأ مع قذيفة المدفع الأولى، بل تبدأ من جواب السؤال الأول: أين تقف وكيف ترى عدوك؟ وكيف ترى نفسك؟
(مِنصّة الرؤية) هي بداية هذه المعركة.
(مِنصّة الرؤية) هي المؤشر الأول نحو الطريق الذي تختاره ولماذا؟
الآن، في إطار الصراع ما بين (القنبلة الديمغرافيّة الفلسطينيّة) و (القنبلة النوويّة الاسرائيليّة) يمكن أن نعيد معاينة الهجوم الذي قامت به حركة حماس في السابع من تشرين أول 2023.
تفكيك القنبلة الديمغرافيّة الفلسطينيّة لا يتيسر لإسرائيل إلاَّ بضرب نواتها الصلبة: كثافة تواجدها، واقترابها إلى حدود الالتحام بـ (إسرائيل). ضربها يكون بإبعادها – طردها وتشتيت قوامها.
تعطيل القنبلة النوويّة الاسرائيليّة لا يتيسر للفلسطينيين، إلّا بالاقتراب منها والالتحام بصاحبها الذي هو العدو، والذي يجد نفسه في حالة انتظار دائم خوفاً من الفيضان الديمغرافي الفلسطيني الزاحف مع طلوع شمس كل يوم.
وفق معطيات الجهاز المركزي للإحصاء، يبلغ عدد الفلسطينيين في مختلف أنحاء فلسطين 7 مليون نسمة (3.2 ضفة غربيّة، 1.7 مناطق 1948، 2.1 قطاع غزّة). مقابل 7.1مليون يهودي حسب دائرة الإحصاء الإسرائيليّة.
الآن، أدت الحرب التي تشنها إسرائيل على غزّة إلى تدمير القطاع وتحويله إلى بيئة غير صالحة للحياة، وقتل حوالي 27 ألفاً من سكانه (23 ألف منهم من النساء والأطفال) وتشريد من سيبقى منهم أحياء (2.1 مليون) ووضعهم أمام مصير مجهول؟ ما يعني ضرب أكثر من ربع سكان فلسطين وتشتيتهم وربما إبعادهم نهائيّاً عن أرضهم، أو إعادة توطين بعض من يقبل منهم بشروط (إعادة الإعمار: الإسرائيليّة – الأميركيّة – الأوروبيّة – العربيّة).
هذا يعني بلغة “أنبياء الغضب الديمغرافي” أنَّ إسرائيل نجحت في إسقاط (استراتيجيّة الأرحام) الفلسطينيّة التي تلقت النسخة الثالثة من نكبة العام 1948.
كيف نُعيد معاينة الحدث الحمساوي في 7 تشرين أول 2023 من هذه الزاوية؟
من أيّة (مِنصّة رؤية) انطلق وبدأت عمليته؟
الواضح للآن، نجاح المشروع الصهيوني في إنتاج نسخة إضافيّة من نكبة العام 1948، وربما تكون النسخة الأكثر إيلاماً لكونها تبشّر بخواتيم سياسيّة كانت تُسمى في الأدبيات السياسيّة: تصفية القضيّة الفلسطينيّة.
نجاح إسرائيل الاستراتيجي لا يكمن في القضاء على حماس بالدرجة الأولى، بل في ضرب الديمغرافيا الفلسطينيّة وإسقاط قوتها وتفكيك قوامها.
بن غوريون أوصى دائماً بإنجاز النكبة، ومحمود درويش قال إنها مستمرة ولا يبدو أنها ستتوقف قريباً.
القنبلة الديمغرافيّة تلقت ضربة كبيرة ومصيرية.
القنبلة النوويّة لا تزال رابضة في مكانها.
ماذا نقصد عندما نتفحّص كيف يتعامل “العالم” مع ما يجري في فلسطين؟
بل، من هو هذا “العالم” الذي نقصده؟
هل هو على نحو الاجمال تلك المليارات التي تجاوزت الثمانية، وتتكاثر يوميّاً على أرض تضيق بها يوماً بعد يوم؟
هل “العالم” الذي نرصد رؤيته إلى فلسطين، نرى فيه دولة كإندونيسيا مثلاً؟ أو الفليبين؟ أو غانا؟ أو الأرجنتين؟ أو رومانيا؟ أو حتى الهند؟ بل والصين؟
أنشعر بالخيبة الشديدة لأنَّ مستوى الوحشية السائد في غزّة لم يوقظ ضمير هذه الدول فعلاً؟
دون أدنى شكّ، كل ما تم تعداده من هذه الدول مع غيرها ممن هي موجودة إلى جوارها أو بعيدة عنها، ولكنها مشابهة لها، ليست هي “العالم” الذي نتصوّره أو نعنيه، ولا العالم الذي ننظر إليه على مدار الساعة ونترقب أفعاله وما سيقوم به، ونأمل منه أن يقوم بفعل ما، بل أن يقوم بمعجزة ما توقف هذه المذبحة الكبرى التي لا يبدو أن فلسطين قادرة على مواجهة من يولم لها ويغذي نارها ويبشّر بتوسّعها.
ليس “العالم” بنظرنا سوى ذلك الغرب المقيم على ضفتي المحيط الأطلسي، غرب بجسد مزدوج أوروبي – أميركي شمالي، ولكن برأس أميركي واحد لا شريك له.
كل ما عداه، ليس سوى فائض سياسي مربك ومرتبك يُصنّف كـ “عالم آخر”، ولا يُرتجى منه القيام بأفعال مؤثّرة على مصير شعوب هذه الكرة الأرضيّة، حتى الشعوب التي تقيم فيه!!
“الغرب” تحديداً هو هذا “العالم” الذي نتصوّره، ونقصده، ونحدّق فيه باستمرار، علّه يتغير، علّه ينتفض على نفسه، علّه يتأثر.. يبكي.. يندب.. يغضب.. يشمّر عن ساعديه.. ويقول: كفى!!
وبالرغم من أنّه لم يقل ولا مرة كفى في سياق تاريخ المجازر التي ارتكبت بحقنا، وبالرغم من أنّه يقف دائماً في الموقع المعادي لنا والمتعضّي مع إسرائيل، إلّا أنَّ تحديقنا فيه لا يتغيّر وأملنا بأن يقوم بشيء ما يبقى موجوداً دائماً!!
نبدو كمحكومين بنظرة تطابق رؤيتنا إلى العالم برؤيتنا إلى “الغرب”.
بالنسبة لنا، العالم هو “الغرب”.
-2-
ليس المجال الذي نخوض فيه الآن معني بـ “الغرب التاريخي”، الذي ودّع القرون الوسطى في منتصف القرن الخامس عشر، وبدأ يصنع قروناً جديدة، ليست في نهاية الأمر سوى قرونه هو بقيادته وسيطرته. مجالنا هو الغرب الحديث، بل “الغرب الأخير”، الذي يمكن التأريخ لبدايته مع تمكن النيوليبرالية من الشروع في إعادة مأسسته في بداية الثمانينيات من القرن العشرين.
في المجال الذي نعنيه، يمكن أن نرى “الغرب الأخير” من منصّتين – حدثين كبيرين:
الأول: سقوط جدار برلين ابتداءً من العام 1989، ومن ثم تفكك الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية برمتها.
الثاني: أحداث 11 أيلول 2001، التي أدت إلى سقوط برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك مع أكثر من ثلاثة آلاف ضحية، بهجوم انتحاري أعلنت الولايات المتحدة أنَّ منظمة القاعدة مسؤولة عنه تخطيطاً وتنفيذاً.
غالباً ما يُرى ركام جدار برلين على الجانب الشرقي حيث ترقد تحته جثّة الاتحاد السوفيتي والنظام الشيوعي برمته، ولكن هذه الرؤية تبقى ناقصة وقاصرة إذ تغفل ذلك الركام الذي انهال على الجانب الغربي ليطمر المعنى الحقيقي للسياسة في “الغرب”، بقضائه على الثنائية المتوازنة والمتفاعلة على الدوام بين قطبي النظام السياسي: السلطة والمعارضة. مع سقوط جدار برلين سقط المحتوى السياسي للمعارضة وتحوّل النظام الرأسمالي بهذا المعنى إلى نظام شبه شمولي مدجج بعنوان “الحوكمة”، التي أجهزت على أي فكر أو اتجاه تغييري، مساهمة في تعبيد طريق تأبيد الرأسماليّة.
مع الحدث الثاني تم قمع المعارضة في السياسة الدولية، بعد أن تم إعدام النظام الثنائي القطب مع الحدث الأول، فسادت الولايات المتحدة قائدة “الغرب الأخير” السياسة العالمية وفق منطق ثنائي مدجج بالمعاني الأخلاقية: خير – شر (معنا – ضدنا).
حاولت فرنسا التمرّد على هذا النظام الجديد للغرب، بمناسبة انعقاد مجلس الأمن الدولي في 14 شباط 2003 لبحث مسألة التدخل في العراق في ضوء تقرير المفتش الدولي هانز بليكس. في هذا الاجتماع مثّل فرنسا دومينيك دي فيلبان الذي استلهم التمرّد الديغولي على حلف شمال الأطلسي وألقى كلمة من خارج اللغة السياسيّة السائدة وصفها وزير الخارجيّة الأميركي آنذاك كولن بأول بأنها “خطاب مثالي”.
رحلة انتهاء حالة التمرّد الفرنسية بدأت مع قمة الثماني في حزيران 2003، واختتمت باستسلام فرنسا تماماً، في حزيران 2004، بلقاء بوش – شيراك خلال الاحتفال بذكرى إنزال النورماندي.
من العام 2004 وحتى العام 2024، يمكن ملاحظة وجود محاولة وحيدة للتمرّد تمثلت بانتفاضة السياسي البريطاني المعارض رئيس حزب العمال جيرمي كوربين، الذي وجد نفسه في العام 2020 موقوفاً بقرار من حزبه بسبب من تقصيره في مواجهة حالات (معاداة الساميّة). وكوربين نفسه من يقود اليوم حملة التضامن مع فلسطين، في بريطانيا.
خلال العقدين الأخيرين، ازدادت قوة العلاقة بين إسرائيل والغرب الذي ساعدها في مختلف حروبها على لبنان وغزّة التي تحوّلت منذ العام 2006 إلى أكبر معتقل للسكان في التاريخ بسبب الحصار المحكم عليها من مختلف الجهات.
-3-
منذ خمسة أشهر، تواظب إسرائيل على تنفيذ عملية عسكريّة، بمنهجيتها ونتائجها تأخذ مواصفات الإبادة الجماعيّة، وقد اخترنا – واختيارنا مقصود – “موسوعة الهولوكوست” كمصدر لتعريف وتحديد هذه المواصفات التي تم الاجماع عليها في الاتفاقية الدولية في العام 1948. جاء في الموسوعة: “الإبادة الجماعيّة تعني ارتكاب أي عمل من الأعمال الآتية بقصد الإبادة الكليّة أو الجزئيّة لجماعة ما على أساس القوميّة أو العرق أو الدين، مثل:
(أ) قتل أعضاء الجماعة.
(ب) إلحاق الأذى الجسدي أو النفسي الخطير بأعضاء الجماعة.
(ج) إلحاق الأضرار بالأوضاع المعيشيّة للجماعة بشكل متعمّد بهدف التدمير الفعلي للجماعة كليّاً أو جزئيّاً……”
وهذه المواصفات ومظاهرها، التي تنطبق على العمليّة العسكريّة الاسرائيليّة، تحاكي مستوى من العنف والوحشيّة يُفترض أن يُوقظ ويحرّك الضمير الإنساني برمته.
نحن كنا ولا زلنا ننتظر أن تؤثّر فصول هذه الإبادة في العالم ونقصد “الغرب” الذي بحكوماته كلّها لم يصل إلّا للتمني على إسرائيل بمراعاة المدنيين وتخفيف الخسائر منهم ما أمكن، والعمل على وقف مؤقت لإطلاق النار لأسباب إنسانيّة، لتسهيل إدخال المساعدات الغذائية. كل ذلك بلغة سياسية مواربة، خوفاً من التأنيب الإسرائيلي لكل ذي صوت احتجاجي.
ماذا يعني ذلك كله؟
يعني وبوضوح شديد، أنَّ العمليّة العسكريّة الإسرائيليّة تخدم أهدافاً مترابطة جيوسياسيّة واقتصاديّة لأطراف متعددة ومتضامنة، إضافة إلى كونها تخدم استراتيجيّة التطهير العرقي التي تعتمدها إسرائيل منذ تأسيسها. ولا يمكن إنجاز هذه الأهداف وخدمة هذه الاستراتيجيّة دون حصول هذه العملية بالمواصفات التي تجري وفقها.
قراءة “الغرب الأخير” مع قراءة الأبعاد الحقيقيّة للعمليّة الإسرائيليّة، تجعل من التحديق في الغرب وانتظار شيء ما منه عملاً فاقد المعنى، ضائعاً في متاهة لا تنتهي.
-4-
لماذا في كل مرة تقوم بها إسرائيل بعملية تحاكي معنى الإبادة الجماعيّة، أو مجزرة تصل إلى مستوى سحيق من الوحشيّة، نتطلع إلى الغرب على أمل تغيير موقفه؟ وهو مصنّف كعدو وخصم، فيما لا نتطلع إلى الصديق والحليف الذي بدوره لا يغيّر موقفه قيد أنملة، وإن تغيرت لغته ولهجته ودعواته؟!
-5-
دومينيك دي فيلبان، الذي سخر كولن بأول من خطبته المثاليّة ذات يوم، يقول في تصريحات صحفية غداة عملية حماس في السابع من تشرين أول 2023، وبداية العمل العسكري الإسرائيلي في غزّة، يقول: “يجب علينا الانتباه والقلق لأنَّ القضيّة الفلسطينيّة لم تطرح على الطاولة ولم تسلّط عليها الأضواء لدرجة أنَّ معظم الشباب في أوروبا اليوم لم يسمعوا بها من قبل. من حديث دي فيلبان لقناة بي أف أم الإخباريّة”.
حسناً، ها قد عادت القضيّة الفلسطينيّة مع عملية حماس ومن ثم العمليّة الإسرائيليّة، إلى الشارع الغربي، حيث تشهد أكثر من 50 مدينة أوروبيّة وأميركيّة وكنديّة قيام مظاهرات أسبوعيّة في شوارعها وساحاتها تأييداً للحق الفلسطيني وتنديداً بالإبادة الجماعيّة التي تقوم بها إسرائيل.
بالرغم من ذلك، يبدو أننا سننتظر وقتاً إضافيّاً لنرى إن كانت هذه الحشود في شوارع المدن الغربية ستفرز قوى سياسيّة مؤثّرة أو لا؟ الحكومات الغربيّة لا تتعامل معها كمعارضة سياسيّة تقليديّة، بل كحالة من خارج السياق السياسي السائد، لذلك تبادر الشركات والجامعات والمؤسسات للاقتصاص من موظفيها الذين يشاركون في هذه المظاهرات. وصل الأمر برئيس الوزارة البريطاني للقول بصوت عالي النبرة “شوارعنا محتلة، وسنصدر قوانين لتحريرها”!!
-6-
في 28 شباط من العام 1986، تم اغتيال أولف بالمه، رئيس وزراء السويد ورئيس الحزب الاشتراكي الديمقراطي. الرجل اقترب سياسيّاً من القضيّة الفلسطينيّة أكثر من المسافة المسموح بها، وفق المقاييس المعتمدة في “الغرب الأخير” الذي منه إسرائيل.
-7-
عبارة الشاعر الإنكليزي روديار كيبلينغ الشهيرة: “الشرق شرق، والغرب غرب ولن يلتقيا أبداً” ستكون خارج المعنى الثقافي والجغرافي، مجرد تضليل للرؤية.
“الغرب” يقيم في مخيلة “الشرق”، بل يحتل تلك المخيلة.
هل نقول إن تحرير تلك المخيلة، يحررنا من الانتظار الدائم للغرب كي يقول لإسرائيل: كفى.
بلى.
ألواح غزّة - اللوح الثاني: اكتشافُ إسرائيل؟
ألواح غزّة - اللوح الثالث: تفكيك القنبلة الديمغرافيّة الفلسطينيّة
ألواح غزّة - اللوح الرابع: فلسطين والعالم: "الغرب الأخير" عدونا... وأملنا!!
ألواح غزّة - اللوح الخامس: اليوم التالي: إعادة إعمار "سطح القمر"؟