كنا في مناسبة سابقة عممنا نبذة نتحدث فيها عن "دور المرأة القومية الاجتماعية"، ثم عمدنا تباعاً الى نشر نبذات تحكي عن عدد من الرفيقات والامينات الجزيلات الاحترام، بدءا من حضرة الامينة الأولى وصولاً الى الامينة سهام جمال.
اليوم وقعنا على كلمة لافتة نشرتها الامينة جمال بتاريخ 01/10/2003، نعممها للفائدة.
*
" آن لنا أن نسأل عن دور المرأة في الحزب السوري القومي الاجتماعي بعد سبعين عاماً على تأسيسه، وأعتقد بأن المراجعة والمساءلة والنقد البناء، ضرورة ملزمة للوصول إلى الأهداف المرجوة، في أي شأن من شؤون الحياة، فكيف إذا كان في قضية تساوي وجودنا؟
لماذا انتظرنا كل هذا الوقت لنسأل، عن المرأة في الحزب؟ أين هي؟ ما هو موقعها الفعلي؟
ماذا حققت خلال سبعة عقود؟ هل كان لها دور في أخذ القرار، أو صنع القرار؟
هل حققت ذاتها كانسان كامل، له ملء الحرية في خياراته وتطلعاته؟
ما هي الأسباب التي أبقتها دائماً في المؤخرة، إن لم نقل مغيبة؟
هل هي مسؤولة عن ذلك؟ هل الرجل هو المسؤول، أم أن الأسباب تتخطى الاثنين معاً؟
"المرأة الجديدة" 1911. وقد شاركت المرأة العربية بقلمها منذ بداية المعركة بتحرير المرأة، ومن هؤلاء النساء، عائشة التيمورية، وجاءت بعدها زينب فواز، وملك حفني ناصف، وكانت معاصرة لقاسم أمين. ومن الكاتبات الرائدات، مي زيادة التي استطاعت رغم تخلف نظرة المجتمع للمرأة أن تنشئ صالونها الأدبي في القاهرة سنة 1915، وكانت في العشرين من عمرها، وقد انتهت مي زيادة بمأساة تصور القسوة والوحدة والمشاكل التي تتعرض لها المرأة الذكية الفنانة، في مجتمع رجولي، وقد تعرضت مي زيادة لأزمة عاطفية حين أحبت أحد الكتاب المصريين، عباس العقاد، وقد فشلت قصة حبها، بسبب نظرته المتخلفة للمرأة.
" ولم يكن مصير مي زيادة المؤلم يختلف كثيراً عن مصير أي امرأة رائدة حاولت أن تغير نظرة المجتمع الرجولي المتخلف للمرأة، ولم يختلف مصيرها كثيراً عن النساء الذكيات، اللواتي اتهمن في العصور الوسطى، بالجنون أو الفسق أو السحر، بل لم يختلف مصيرها عن مصير كثير من النساء الذكيات في عصرنا الحديث اللواتي لا يجنين من وراء ذكائهن إلا الوحدة القاتلة، أو الاتهام بالهستيريا، أو الشذوذ على أنواعه. وقاتل الجسم مقتول وقاتل الروح لا تدري به البشر. وكلنا يذكر اهتمام سعاده بوضع مي زيادة والخطوات التي اتخذها لمساندتها وإبراز الحقيقة للجميع.
" حين أسس أنطون سعاده الحزب في العام 1932 حدد بوضوح انه يعمل لبعث نهضة تحدث تغييراً جذريا في المجتمع، وتخلق إنسانا جديداً، وبالتالي مجتمعاً جديداً. هل انتقلنا من ذلك المجتمع إلى المجتمع الجديد؟ من الضروري البدء بتوصيف هذا المجتمع الذي أراد سعاده تغييره، فسماته الأساسية سيطرة الأب في العائلة، شأنه في المجتمع، فالأب هو المحور الذي تنتظم حوله العائلة بشكليها الطبيعي والوطني، إذ أن العلاقة بين الأب وأبنائه، وبين الحاكم والمحكوم، علاقة هرمية، فإرادة الأب، في كل من الإطارين، هي الإرادة المطلقة، ويتم التعبير عنها في العائلة والمجتمع بنوع من الإجماع ألقسري، الصامت المبني على الطاعة والقمع، ونجد أن جميع الأنظمة في عالمنا العربي هي أنظمة بطركية ترتكز على ازدواجية الدولة، بمعنى أن هناك تنظيماً عسكرياً إلى جانب تنظيم بوليسي سري، يهيمن على الحياة اليومية، ويشكل أداة الضبط النهائية، في الحياة المدنية والسياسية.
وأود هنا أن أنقل رؤية الدكتور هشام شرابي لواقعنا المرير، يقول في مقدمة كتابه "البنية البطركية": كنت في بيروت، عندما صدر قرار التقسيم، نوفمبر 1947. كان عمري آنذاك عشرين سنة، وكنت على وشك السفر إلى الولايات المتحدة لمتابعة دراستي في الفلسفة. وكنت واثقاً من المستقبل لثقتي الكلية بأن الحركة القومية الاجتماعية ستنتصر، وان نظاماً اجتماعياً جديداً سيقوم على أنقاض الواقع الحقير البالي.
أما فلسطين، جنوب سوريا الغربي، فلم أشك لحظة في قدرتنا على إنقاذها، وعلى تصفي الخطر الصهيوني هناك، أكثر من ذلك: كنت واثقاً من عودة الاسكندرون وكيليكية إلى حظيرة الوطن، ومن توحيد الأمة، لهذا عندما أقلتني الطائرة في منتصف ديسمبر أنا ورفيقي فايز صايغ إلى الولايات المتحدة، لم يراودني أي شعور بالذنب لمغادرة الوطن في تلك اللحظة العصيبة.
حين قامت الناصرية، برزت معها آمال جديدة بدت الوحدة في متناول اليد، والتصدي العسكري للصهيونيين أمراً واقعاً، وفي حزيران1967 كان العلم اليهودي يرفرف فوق المدينة المقدسة، وفوق الضفة وقطاع غزة، والمرتفعات السورية وسيناء، ليس عاراً أن ننكسر، بل العار أن نقبل الانكسار خانعين، فبدل أن تدفعنا نكبة 1948 إلى العمل والاستعداد لغسل الهزيمة واسترجاع الأرض والحق، أتحنا للصهيونية أن تهزمنا مرة ثانية، في حزيران 1967، وبشكل أبشع وأعم، هكذا عوضاً عن تحقيق الوحدة والاشتراكية وتحرير فلسطين، انكسرت الناصرية وجاء السادات والهيمنة "الإسرائيلية- الأميركية".
لماذا خسرنا نحن أبناء هذا الجيل، كل معركة خضناها: مع العدو في فلسطين، مع التخلف في أنظمتنا، مع الرجعية في المجتمع؟
" السبب هو المرض الفتاك، الذي ينخر في صميم بنية مجتمعنا، المرض الذي يفتك بلبنان، وتظهر عوارضه في أطراف الجسم العربي كله، على صعيد الدولة، وعلى صعيد المجتمع، وعلى صعيد العائلة، وعلى صعيد الفرد.
تتخذ أعراض هذا المرض، على مستوى الدولة، شكل السلطة "الحديثة" (سواء في الأنظمة المحافظة، أو شبه القبلية، أو التقدمية)، ونرى هذه الأعراض، على الصعيد المجتمعي، في التركيب الاجتماعي البطركي، والعلاقات المهيمنة فيه، مثلاً في تغلب الانتماءات الجزئية، والمحلية، كالطائفية، والقبلية، في الممارسات الاجتماعية، في هيمنة السلطة الأبوية في العلاقات الذاتية وتضاربها مع الأهداف والمصالح العامة. وتظهر هذه الأعراض بشكل مباشر على مستوى العائلة في أساليب التنشئة الاجتماعية، حيث تتكون الشخصية (البطركية) وتكتمل عملية القيم، والعلاقات الاجتماعية، التي يحتاج إليها هذا المجتمع، ونظام السلطة فيه للبقاء والاستمرار.
ليس مستغرباً إذا كان كل تغيير حصل في هذه الفترة، كان تغييراً سطحياً، يتخذ أشكالاً لا تمس البنية الأساسية للمجتمع، بل تعززها، إذ يغطيها بأنماط مستحدثة، تخفي علاقاتها الداخلية، وتؤكد هيمنة قيمها السلطوية.
يدرك المجتمع البطركي في أعماق لا وعيه أن الفاعل الثوري الحقيقي في المجتمع البطركي لم يعد المتآمر، ولا مدبر الانقلابات، بل المرأة، القنبلة الموقوتة في صميمه، ففي اللحظة التي يتغير فيها وعي المرأة، وتصبح قادرة على الرفض والمقاومة، تتزعزع أسس النظام، وتتخلخل شرعية سلطته، وتتفكك بنيته.
" اذاً القاعدة الأساسية، تحرير المرأة، شرط لتحرير المجتمع، بوصفه كلام، ودون هذا التحرير لن تجدي الانقلابات، ولن تؤدي "الثورات" إلا إلى أشكال أخرى من السلطة البطركية، ولكن لا يمكن تحرير المرأة من خلال العمل النسائي، والجمعيات النسائية وحدها، فقضية المرآة قضية قومية في صميمها، ولكي تحتل مكانها الصحيح، يجب أن تصبح بالفعل، قضية "رجالية"، وهنا تكمن الصعوبة الكبرى: فالرجل البطركي بطبيعة تنشئته وتكوينه النفسي، لا يستطيع تقبل أطروحة التكافؤ مع المرآة، وحتى لو اقتنع بذلك ذهنياً، على صعيد العقل والمصلحة القومية، فمن الصعب عليه أن يترجم تلك القناعة إلى حيز الممارسة والعمل.
" من هنا كانت الضرورة الملحة للقيام بعملية نقد ذاتي على أوسع نطاق، لا في ضوء المفهومات أو النصوص التراثية (التي تمنح المرأة بعض الحقوق) وحدها، بل أيضاً في ضوء الوقائع الوجودية التي تميز تنشئة الذكر في المجتمع البطركي، وتجعله كائناً متفوقاً على الأنثى، منذ اللحظة التي يعي فيها ذاته، ومن هنا كذلك إعادة النظر في التنظيم العملي للنشاط النسائي، لإيجاد الصيغ المناسبة لانخراط المرأة في حركة التحرير، فطالما بقيت الجمعيات "النسائية" وحدها تحمل عبئ قضية المرأة، لا يمكن لهذه القضية أن تجد حلاً حتى لو ساندتها الأحزاب والتنظيمات الرجالية من الخارج إن المعادلة الحقيقية هي كالتالي:
لكي يتحرر المجتمع، ويجب أن تكون المرأة حرة فيه، لا يمكن المجتمع أن يصبح حراً (وليس فعلاً مستقلاً) إذا كان نصفه مستبعداً أو مشلولاً.
اذاً المرأة هي عامل التغيير، أنها القنبلة الموقوتة، والتي إذا انفجرت ستطيح بهذا المجتمع ألبطركي، الذي أورثنا كل الهزائم ومنعنا من الحياة الكريمة الفاضلة، فكيف لها أن "تنفجر"؟
يقول سعاده: "إن أعظم بلية حلت بالأمة السورية نتيجة لعصور التقهقر والانحطاط بعامل فقدان السيادة القومية، هي بلية الأمراض النفسية والانحطاط المناقبي وقيام المصالح الخصوصية والغايات الفردية مقام مصلحة الأمة والغايات القومية. من أمراضنا النفسية القائلة اعتبار المرأة إنسانا أدنى رتبة من الرجل".
من موروثاتنا أن المرأة تخضع للرجل وبقدر خضوعها وخدمتها له تكون مثالية، هي التابع، المنفذ حرفياً لكل رغباته وطموحاته، لا تناقش آراءه، مطيعة هنية، لا تجادل وتحسم القضايا لصالح رأي الرجل فقط، لأنه يقول أنا الرجل وعليك الطاعة.
سأل أحدهم سلام الراسي: " لشو بتنعاز المرا ببلادنا؟ المرا ببلادنا بتنعاز لثلاث شغلات، أول شغلة أنت سيد العارفين، ثاني شغلة فهمك كفاية، وثالث شغلة منشان حتى تبيض وجه زوجا قدام الناس".
على بساطة هذه الأجوبة وعفويتها فإنها
تمثل واقعنا أفضل تمثيل بالرغم مما ندعيه من بلوغ الحداثة والعلم، فما زالت أمراضنا النفسية متحكمة فينا كما الموروثات، وهي جلية واضحة دون مواربة، الذهنية التسلطية قبلتها المرأة لأنها تربت عليها وهي حسب سعاده عقد نفسية، المرأة بطبعها وتكوينها أداة حب وعطاء، فهي دائماً تعيش للآخر وبالآخر، الحب عندها سبب وجودها، هي معطاءة بتكوينها، تهب دون حساب في سبيل من تحب. لكن هل هذه الطبيعة المعطاءة تفرض عليها التخلي عن ارادتها ومشاعرها وحريتها الفكرية؟
" أليس حرياً بها إبداء الرأي مباشرة ودون مواربة واحتيال، من الند للند، أي من إنسان إلى إنسان متساويين في الحياة، وتكون الغلبة للعقل في الحوار والمداولات، وكل ما يتعلق بمصلحة العائلة والوطن؟
ما معنى إن لم يكن لنا رأي وحرية في إبدائه والدفاع عنه، وأين المرأة عامةً في الحياة؟
هي كثيراً ما تعتقد أنها تحيا بسبب الموروث المتحكم بها كما الرجل.
لقد كانت لي تجربة مع نساء عاملات في الحقل الاجتماعي، والحقيقة المرة أني صدمت من تصرفاتهن السطحية، لذا أقول أن الخطأ لا يقع على الرجل وحده لما آلت إليه حال المرأة، بل عليها أيضاً، فهي اقتنعت أن التسلط والقمع وازدراء الآخر وتسفيهه في آرائه والنظر إليه بوجه كالح متجهم يوصلها إلى السلطة. فهم هذه العينة من الناس رجالاً ونساءً يعتبرون السلطة تسلطاً كما هو حاصل في مجتمعاتنا. هذا التماثل بالرجل القمعي الأبوي خطأ فادح عاينته في نساء يعملن في الحقل العام أو وصلن إلى مراكز حكومية، بشاعتهن لا توصف، فقد تخلين عن كل ما يميز المرأة من قيمها الحلوة وأنوثتها وتفانيها ورحمتها وحنوها وجمال العطاء غير المشروط ومحاورة الآخر بحب.
" إن العمل في المجتمع بالنسبة لنا يجب أن يكون كالعمل داخل المنزل والأسرة، دون منة، لأنه واجب ضروري للتقدم وارقى في كل طبقات المجتمع المختلفة بيئياً وحضاريا وثقافياً. لماذا كل هذا التشاوف وتصدر الصفوف الأمامية في المناسبات واحتكارها من العاملات حسب ادعاءهن تنمية المرأة خاصة والمجتمع عامة، أليس هذا العمل من صلب طبيعة المرأة؟
ألا تجسد هي الحب والعطاء والتفاني من أجل الغير؟
" الإنسان الحضاري إنسان سعاده الجديد هو القادر أن يحافظ على قيمه ومثله العليا وأصالته وحريته الفكرية، لا أن يتماثل بالرجل المتسلط القامع المهدم للآخرين، السالب حقوقهم في التعبير والعمل، فقط لأنه مسؤول.
وهل المسؤولية بدل أن نقول السلطة تعني التسلط؟ أوليس هذا التصرف من صلب الأمراض النفسية والانحطاط المناقبي؟
إلى اليوم لم يصل إلى موقع القرار من نساء سوى من كانت ابنة متنفذ أو زوجته أو أخته، أي أن هناك دائماً رجل يوصلها، لا هي بقدرتها الذاتية القادرة على التغيير.
يقول نابليون: "وراء كل رجل عظيم امرأة"، وعندنا انعكست الآية.
" تصل الإمرأة وتتماها بالرجل، ومن خلال مسؤوليتها العامة تفعل ما يرضيه لكي تستمر في موقعها، أي مصلحتها الذاتية لا مصلحة المجموع. على المرأة أولاً أن تؤمن بأنها إنسان كامل الحقوق مستقل في رأيه قادر على التأثير الايجابي في مجتمعه، دون التماثل بالرجل السلطوي الأبوي القامع، أن تكون امرأة بكل جمالاتها وقيمها الذاتية التي وهبتها إياها الطبيعة، كالمحبة والتفاني والعطف والايجابية والتفهم أين دور الحب في علاقة الرجل بالمرأة؟
هل نفهم الحب كما يجب أن يكون أم أن العقد النفسية تحكم بنا؟
هل التسلط يخدم استمرار الحب؟ هل قمع الشريك وإملاء الشروط عليه وقولبته حسب مزاج الرجل وبيئته ومفاهيمه يوصل إلى حياة مشتركة فضلى؟
هل التكاذب المتبادل يجلب الثقة والتفاهم؟ المرأة دائماً هي خانعة قابلة لقناعتها الخاطئة بأن هذا هو دورها. هكذا تعلمت من جدتها وأمها والمجتمع.
يقول سعاده: "أليس شريفاً ونبيلاً أن يفعل الإنسان كل شيء في سبيل الحب، إلا إهمال الواجب القومي. لولا الحب لما كان لأي تفاهم قيمة".
ويقول كذلك: "متى وجد الإنسان الحب فقد وجد أساس الحياة والقوة التي ينتصر بها على كل عدو".
أليس الموروث عدواً للتقدم؟ أليس الذكورية الأبوية التسلطية عدوة الإنسان الجديد الداعي لحرية الفكر وحرية الرأي وحرية الخيار المؤديين إلى الخلق والإبداع؟ أن نحب هو أن نقبل المحبوب كما هو لا كما نراه أن يكون.
في إحدى رسائله إلى الأمينة الأولى مؤرخة 17 مايو 1940 يقول الزعيم: "أتمنى أن تكوني كما أرغب لك". ويقول لها في رسالة أخرى: "ضيائي، إنني أحبك كما أنت وكما تكونين بطبيعتك فحافظي عليها بكل قوتك ولا تدعي قوة تغلب إرادتك."
وإذا أعدنا قراءة القصتين اللتين كتبهما الزعيم أي "عيد سيدة صيدنايا" و"فاجعة حب"، نرى رأيه واضحاً في الحب كما في الموسيقى.
" ففي"عيد سيدة صيدنايا"، عرف ابراهيم طريق قلبه وسار إلى نهايتها معرضاً نفسه للموت دون وجل أو خوف للاتحاد بمن يحب، وفي "فاجعة حب" ترك سليم الحياة إلى الآخرة غير آسف لأن التقاليد البالية منعته من التوحد مع من أحب.
يصف الزعيم شخص ابراهيم كالتالي: "الناظر إليه يدرك لأول وهلة أنه ليس من الذين ذهبت أخلاقهم وفسدت طباعهم من شبان هذا العصر الذين لم يحصلوا حين نشأتهم على تربية عائلية اجتماعية صحيحة ولا من الذين أنشبت مخالبها بهم المشارب القديمة الفاسدة التي لا تجر على من يتمسك بها في القرن الحاضر إلا الوبال. كانت نفسه بسيطة وكان في مقتبل العمر وأسميه ابراهيم ومن المؤكد أنه لم يأت إلى صيدنايا للقيام بفروض كنسية لأنه يحب الله والطبيعة حباً خالياً من الرهبة التي تدعو إلى السجود وتقديم القرابين ويهرب من الطقوس. ورغبته الوحيدة كانت أن يشترك في العيد ويرى مظاهر جديدة من مظاهر قومه الشعبية".
اذاً ابراهيم مؤمن بصدق بعيداً عن الطقوس ولقد نال تربية اجتماعية صحيحة.
" أما سليم في قصة "فاجعة حب"، فهو مع مفهوم التجدد، ويتحدث عنه صديقه قائلاً: "إن الحديث المتقدم يوضح روح التجدد التي ملأت حياة سليم وأرادت أن تتناول عصراً وأمه (وهنا أود أن أشدد على عصر وأمه)، ويتابع الصديق الذي اعلمه إن سليماً كان قد ابتدأ بنظم سمفونية في انهاء عصر الخمول وبزوغ شمس يقظة الشعب السوري.
والصدق يوجب عليّ أن أروي أن سليماً كان يعتقد أن نهضة الشعب السوري ضرورية للتمدن، لأنه كان مؤمناً من مزايا الحرية والسلام والمحبة المتأصلة في قومه، وهو لم يكن يرمي من وراء ذلك إلى غرض سياسي بل إلى ما هو أعظم شأناً وأكثر فائدةً من الغرض السياسي.
" انه كان يرى الفورة السياسية أمراً تافهاً إذا لم تكن مرتكزة على نفسية متينة يثبتها في قلب كل فرد سواءً كان رجلاً أو امرأة أو شابة، أدب حي وفن وموسيقى يوحد العواطف ويجمعها حول مطلب أعلى حتى تصبح ولها ايمان اجتماعي واحد قائم على المحبة، المحبة التي إذا وجدت في نفوس شعب بكامله أوجدت في وسطه تعاوناً خالصاً وتعاطفاً جميلاً يملأ الحياة آمالاً ونشاطاً.
حينئذ يصبح الجهاد السياسي شيئاً قابل الانتاج. أما الوطنية القائمة على تقاليد رجعية رثة فهي شيء عقيم ولو أدت إلى الحرية السياسية".
"إن حرية النفس أساس كل الحريات"، هكذا يقول سعاده في مقطع آخر، "كما أن هذه الحرية تثير غضباً في النفس وثورة على الاستبداد والظلم".
لا يجوز أن يتدخل أحداً في حياة الآخر كائناً من كان أباً أو أماً أو أخاً أو من الأقارب. الحياة ملك صاحبها وهو يحياها كما يشاء وكما يرى سعادته فيها.
مثل بسيط أعطيه لنرى أين نحن من سعادة: أعرف أميناً في الحزب رفض تزويج ابنته من رفيق تحبه لأنه من دين آخر شاهراً عليها السلاح لردعها، حارماً قلبين وروحين من الاتحاد في الحب. هذا أميناً وليس رفيقاً عادياً. الحزب لم يتدخل في القضية، وكان من واجب المسؤولين أن يردعوه لأن موقفه يخالف تعاليم سعاده، وأن يجرد من رتبة الأمانة، لا أن يقفوا كشاهد زور وكأن الأمر لا يعنيهم.
هل هكذا يطبق فكر سعاده عملياً، وهل هكذا نعطي الدروس للأجيال اللاحقة؟ أين هي حرية الرأي وحرية الاختيار في نظر هذا الأمين قبل أن نسأل عن رأيه في الاختلاف الديني والمذهبي؟
لنسأل أنفسنا بتجرد هل وصل فكر أنطون سعاده إلى وجدان الناس؟ هل بعد سبعين عاماً على إنشاء الحزب السوري القومي الاجتماعي حققنا انتصاراً حقيقياً في الوجدان الإنساني للأمة؟ هل انتقلنا من الإنسان القديم إلى الإنسان الجديد؟ أين نحن من القيم والمثل العليا والأخلاق؟ كيف نمارس ما نؤمن به وبالأحرى ما قرأناه عند سعاده، أم أن انفصاماً حاداً يسكننا؟ فبين القول والممارسة بعدٌ شاسع!!..
ولنسأل أنفسنا بصدق هل تخلصنا من رواسب العادات والتقاليد الضارة بوحدتنا وتقدمنا؟ هل نزعنا عنا الأمراض النفسية التي تكبلنا وتحرمنا من العيش بحرية وصدق ووضوح مع أنفسنا ومع الآخرين؟ هل تخلينا عن أنانيتنا الذاتية ومصالحنا الضيقة للعمل لمصلحة المجموع، وبناء الأمة الراقية الهادية للأمم؟ لنسأل جميعنا هذه الأسئلة ولنرى أين وصلنا.
يقول سعاده: "لا يظنن أحد أن الجعجعة الباطلة تستر الحقيقة، وكذلك لا يسترها اختلاق الأعذار والتفلسف".
كان بودي أن أتكلم عن التهذيب عند سعاده وعن التواضع، ولكني سأنقل ما قاله هشام شرابي عن سعاده في كتابه "صور الماضي" (صفحة 194): " كان يصر كما يفعل الإسبان على استعمال ضمير الجمع في مخاطبة ضيوفه خاصةً السيدات ويحدد هذه الأسباب في تأدبه المفرط في المناسبات الاجتماعية. كان لطيفاً متواضعاً إلى أبعد حدّ في معاملة الكبار والصغار، وبشكل خاص في معاملة الذين قاموا بحراسته وخدمته".
لنقم بمقارنة حالية في مجتمعنا ولنرى أين هو التواضع وأين هو التهذيب (مَن هو الرجل الحقيقي، جورج بوش أم خاتمي)؟
حتى لا نختم على تشاؤم نقول حسب الواقع أن المرأة في السنوات الأخيرة (عن طريق عملها خارج المنزل واستقلالها الاقتصادي) لم تعد تقبل الخضوع للزوج أو للأب كما في السابق، لأنها تجد لها مأوى في عملها وفي أجرها الذي تناله من هذا العمل. وقد ساعد الاستقلال الاقتصادي المرأة على أن تستقل نفسياً واجتماعياً. لكن معظم الرجال يميلون بحكم تسلطهم الأبوي إلى اختيار المرأة أو الزوجة الخاضعة والمطيعة لخدمته. غير أن هناك دائماً هؤلاء الرجال على قلتهم الذين ارتفعوا بمنهجهم العلمي وتفتحهم الذهني والإنساني، الذين أدركوا أن مصالحهم على اعتبارهم رجالاً لا تكون إلا مع المرأة الجديدة القوية المستقلة الشجاعة الذكية الايجابية الحرة. هذه المرأة هي التي تستطيع أن تفهم معنى الحب الحقيقي ومعنى العمل ومعنى الحياة ومعنى الأبوة ومعنى الأمومة ومعنى الجنس، ومعها يستطيع الرجل المتنور أن يتذوق طعماً للحياة أكثر عمقاً وأكثر لذةً وأكثر إنسانية.
رابطة حرة صادقة أساسها الاختيار والتفاهم. وإذا كانت هذه المرأة لم تقدم لغاية الآن على المشاركة في العمل السياسي أو في موقع لأخذ القرار فلأنها تدرس الأمور كما يجب، وتقارن إمكانياتها الذاتية في ملء هذا الواقع على عكس الرجل الذي يتكل على التسلط وسياسة الترغيب والترهيب، ويتنطح لأي موقع دون مراعاة لإمكانياته العلمية والفكرية والثقافية، ولهذا يصعب التقدم والرقي والخلق والإبداع في ظل تسلطهم.
التغيير قادم بلا ريب ومع المرأة الجديدة، فلنستمع حسب ما قالت الكاتبة الأميركية كاترين ماكنون إلى "صوت المرأة الذي إن قال سيقول ما لم يسمع مثله من قبل".
المهم أن يسمع كل منا رأي الآخر، أن نفكر ونستمع إلى العقل وما يقوله العقل، وأن نكون مستعدين لتقبل نظرة جديدة.
نحن بحاجة إلى قبول الآخر، ورؤية الأشياء من موقع آخر، المهم أن نكتشف ما يجمع بين وجهتي نظر مختلفتين، لا أن نركز على اختلافهما، فننهي الحوار ونعلن استحالة الحوار.
في حالة أمتنا الحاضرة نحن بحاجة إلى كل العقول وكل السواعد لاستعادة الكرامة الذبيحة والعزّ المفقودة".
في: 15/03/2024 لجنة تاريخ الحزب