هذه دراسة من 22 صفحة، هي كناية عن خمس مقالات نشرت في مجلة "الفينيق" الالكترونية سنة 2017.
أعدتُ تنقيحها ودمجها لتنشر في كتاب واحد خلال سنة 2021، الى جانب دراستين أخريين عن كل من المدرحية والعروبة.
(المقالة الأولى)
إن خطاب سانتياغو الذي ألقاه سعاده بتاريخ 8-5-1940 ليس هو المرجع الوحيد الذي نجد فيه شيئاً من التفصيل والشرح عن الديموقراطية التعبيرية. لكنه الخطاب – المرجع الذي أعلن فيه سعاده عن وجود النظرة الجديدة الى الديمقراطية وفكرتها الجديدة التي تشكل "إنقلاب تجيء به الفلسفة السورية القومية الاجتماعية". هذه الفكرة الجديدة هي فكرة التعبير عن الإرادة العامة بدل تمثيل الإرادة العامة، قال: "إن الديمقراطية الحاضرة قد استغنت بالشكل عن الأساس فتحولت الى نوع من الفوضى لدرجة أن الشعب أخذ يئن من شلل الاشكال التي اخذت على نفسها تمثيل الإرادة العامة، وصار ينتظر إنقلاباً جديداً. وهذا الإنقلاب الجديد هو ما تجيء به الفلسفة السورية القومية الاجتماعية القائلة بالعودة الى الأساس والتعويل على التعبير عن الإرادة العامة بدلاً من تمثيل الإرادة العامة الذي هو شكل ظاهري جامد. فالتفكير السوري القومي الجديد هو إيجاد طريقة جديدة أسمها التعبير عن إرادة الشعب، فهذه الفكرة الجديدة هي اللإكتشاف السوري الجديد الذي ستمشي البشرية بموجبه فيما بعد."
ثم عاد سعاده سنة 1947، أي بعد سبع سنوات، وذكر عبارة "الديمقراطية التعبيرية" كأسم للديموقراطية الجديدة، وذلك في مقالة "نسر الزعامة ووحول توكومان-4، قال: " في سنة 1940 زار الزعيم مدينة سانتياغو لدعوة المواطنين الى النهضة القومية، وصحبه في هذه الرحلة جبران مسوح. فالقى الزعيم محاضرة اشتملت على نظرية من أروع النظريات الاجتماعية السياسية ويصح أن تسمّى هذه النظرية نظرية الديموقراطية التعبيرية، خلافاً للديموقراطية التمثيلية الشائعة في العالم".
لكي نتعرف على هذا الانقلاب الجديد ونفهم كل أبعاد الديموقراطية التعبيرية الجديدة، وجب علينا أن ندرس سعاده في جميع أعماله الأخرى. ذلك لأن فكرة الديموقراطية التعبيرية ليست فكرة مستقلة نجدها مشروحة في مكان معين، بل هي من صميم الفكرة الفلسفية السورية القومية الاجتماعية الشاملة ونظرتها إلى الحياة والكون والفن.
هنا يجب علينا أن نستعمل "منهج الاستقراء"، وهو المنهج (أي الأسلوب) الذي كان يستعمله سعاده في أبحاثه التي تتطلب تحقيقاً وتنقيباً واستنطاقاً للموضوع وتطوره وتاريخه من أجل الوصول إلى الخلاصة واستخراج النتيجة الصحيحة. وللذين لا يعرفون ما يعنيه منهج الاستقراء (...) أقول باختصار شديد أنه يعني أن نجعل التاريخ أو تسلسل الأحداث والوقائع في التاريخ تقرأ لنا (نستقرئها). وهذا يعني طبعاً أن نقرأ نحن فيها ونكتشف ونستخرج منها الحقيقة التي نسعى إليها.
السبب في وجوب استعمال منهج الاستقراء هو أن سعاده لم يتول بنفسه شرح وتفصيل مقولة الديموقراطية التعبيرية التي أعلنها، كما فعل مثلاً في شرح الأساس العلمي للعقيدة في كتابه "نشوء الأمم"، وكما فعل في شرح المبادىء في المحاضرات العشر، وكما فعل في شرح علاقة المحمدية واليسوعية والقومية في سلسلة مقالات "جنون الخلود" التي أصبحت كتاب "الإسلام في رسالتيه". يجب علينا إذاً أن نستقرىء سعاده، أي نتتبعه في أعماله المختلفة المتعددة في كتاباته وخطبه ورسائله وكل ما له علاقة بموضوعنا لنكوّن فكرة متكاملة منسجمة وواضحة، أي لنتوصل إلى فهم الفكرة موضوع البحث، والتي قال عنها سعاده أنها انقلاب تجيء به الفلسفة القومية الاجتماعية.
سأسعى في سياق هذا البحث أن أتجنب إدخال الآراء الشخصية غير المسندة إلى مراجع ونصوص واضحة لسعاده. وأيضاً سأعمل على نفي بعض الآراء الشخصية غير المسندة إلى مراجع ونصوص واضحة لسعاده، والتي قال بها بعض الرفقاء والأمناء الذين كتبوا في هذا الموضوع.
سأعمل على جعل هذه المساهمة صريحة واضحة خالية من المساجلة والمجاملة على السواء، ودون أن أمتنع عن نقد ومخالفة من هم أكثر مني انتاجاً ومساهمات فكرية في هذا الموضوع، مع الحرص على ذكر فضلهم وأسبقيتهم في بعض الأفكار والتوضيحات الواردة في هذا البحث.
سأضع لهذه الدراسة تبويباً وعناوين فرعية، وسأحدد معنى العبارات والمقولات للوصول إلى أكبر قدر ممكن من الوضوح والجلاء. "كل لا وضوح لا يمكن أن يكون أساساً لإيمان صحيح، وكل لا وضوح لا يمكن أن يكون قاعدة لأي حقيقة من جمال أو حق أو خير، فالوضوح – معرفة الأمور والأشياء معرفة صحيحة - هو قاعدة لا بد من اتباعها في أية قضية للفكر الإنساني والحياة الإنسانية". (المحاضرة السادسة)
لا بد من تعريف الديموقراطية بشكل عام قبل الدخول في أنواعها وأشكالها مثل الديموقراطية الشعبية أو التمثيلية أو التعبيرية أو "الإستبداد الديمقراطي" أوغيرها.
1 – أصل الكلمة.
إنها كلمة يونانية مركبة من كلمتين: ديمو ـ قراط. ديمو تعني الشعب، وقراط تعني الحكم أو السلطة.
الديموقراطية هي إذاً حكم الشعب أو سلطة الشعب. وهذا يعني أن السلطة في الدولة هي مستمدة من إرادة الشعب، حائزة على ثقته وقبوله ورضاه واختياره، وليست هابطة عليه من خارجه أو مفروضة عليه بإرادة غير إرادته، من نفوذ خارجي أو طغيان محلي، نتيجة قوة ونفوذ مالي أو عسكري أو اقطاعي أو غيره، أو مستمدة أيضاً من أمر إلهي (زعماً) لا يكون للشعب فيه اختيار.
سعاده يعرّفها في كتاب "نشوء الأمم" بأنها "سيادة المتحد وحكمه نفسه". ويعرّفها في مقالة "مرشحو الديموقراطية" بأنها تعني: "الشعب هو صاحب السيادة ومصدر السلطة".
الديموقراطية هي صفة للدولة قبل كل شيء. عندما نتكلم على السيادة وعلى السلطة نكون نتكلم على الدولة. فالديموقراطية إذاً هي خاصة من خصائص الدولة وصفة من صفاتها، وإن تعبير الدولة هو أشمل من تعبير السلطة. الدولة هي شأن ثقافي سياسي اجتماعي (نشوء الأمم – نشوء الدولة)، ليست السلطة فيه سوى الجهاز التشريعي والتنفيذي الذي بيده عنصر القوة الذي تستعمله الدولة لفرض النظام. وإذا أردنا التوسع أكثر لنفهم معنى الدولة عند سعاده، نقرأ في "نشوء الأمم" تحت عنوان "الثقافتان المادية والنفسية" ما يلي: "ولعل الدولة هي أجدر الشؤون والمظاهر الثقافية تمثيلاً للحياة العقلية التي هي من خصائص الاجتماع الإنساني حتى ليمكن القول إن الثقافة الإنسانية والدولة صنوان". وإن كون الدولة شأناً ثقافياً، أجدر الشؤون والمظاهر الثقافية تمثيلاً للحياة العقلية، لا ينفي كونها شأناً سياسياً لأن الثقافة تشمل السياسة (السياسة موضوع ثقافي)، وأيضاً لأن الدولة لا وجود لها إلا في المجتمع المركب ولو تركيباً بسيطاً، ووظيفتها هي العناية بترتيب علاقات أجزاء هذا المجتمع المركب بشكل نظام يعيّن الحقوق والواجبات، وهذا سياسة. وإن كون الدولة شأناً سياسياً لا ينفي كونها شأناً اجتماعياً لأن السياسة لا وجود لها من دون الاجتماع. يقول سعاده عن كل ذلك معرّفاً الدولة ووظيفتها بما يلي: "وبديهي أن الدولة شأن ثقافي بحت، لأن وظيفتها هي العناية بسياسة المجتمع وترتيب علاقات أجزائه في شكل نظام يعين الحقوق والواجبات إما بالعرف والعادة، في الأصل، وإما بالغلبة والاستبداد. فهي إذن شأن من شؤون المجتمع المركب لا وجود لها إلا فيه، ولذلك فهي شأن سياسي بحت، ومع ذلك فهي ليست شأناً لا اجتماعياً، فكما الدولة لا وجود لها إلا في المجتمع كذلك السياسة لا وجود لها بدون الاجتماع".(نشوء الأمم،فصل 6).
إن تعريف سعاده للدولة ووظيفتها يشكل أساساً للنظر في شؤونها، في أنواعها وصفاتها وتطور هذه الأنواع والصفات. وإذا أردنا التفكير في مسألة الديموقراطية التي هي صفة من صفات الدولة، كما قلنا، والتفكير في موضوع انبثاق السلطة أي علاقة الدولة بالمجتمع والمجتمع بالدولة، وجب علينا الارتكاز والانطلاق من فهم معنى الدولة ومعنى المجتمع. لا بد من فهم معنى الدولة ووظيفتها في المجتمع، وفهم معنى الثقافة، الثقافة المادية والثقافة النفسية وعلاقتهما، وفهم معنى السياسة، سياسة المجتمع، السياسة في المجتمع المركب لترتيب علاقات أجزائه في شكل نظام معين، وبالتالي فهم معنى المجتمع واقعاً إنسانياً طبيعياً ينشأ ويتطور بتأثير عوامل مادية وروحية (مدرحية) يجب درسها وفهمها فهماً علمياً يستعمل الحقائق فقط. وهذا معناه أنه يجب علينا الدرس أولاً في كتاب "نشوء الأمم" قبل البحث عن الديموقراطية في كتابات سعاده الأخرى. إن فهم الديموقراطية وأنواعها وأجناسها وألوانها وأشكالها يرتكز على هذا الدرس.
3 - الانتخابات.
الانتخابات لا تختصر وحدها معنى الديموقراطية. لا زلنا في معنى الديموقراطية، وجوهرها أن الشعب هو مصدر السلطة في الدولة. وتحت هذا العنوان تندرج تفاصيل مثل: كيف يكون الشعب هو مصدر السلطة في الدولة، أي ما هي الآلية أو الطريقة لذلك؟ وكيف يعبر الشعب عن اختياره وعن ثقته وقبوله ورضاه عن السلطات التي من المفترض أن تكون منبثقة عنه؟ هل الانتخابات هي الممر الوحيد الإجباري لذلك أم أن الانتخابات هي شكل من أشكال تعبير الشعب عن رأيه وخياره وإرادته من ضمن أشكال أخرى متاحة ومتوافرة؟ وما هي تلك الأشكال الأخرى؟ هل أن كل انتخابات تعني ديموقراطية وهل أن كل ديموقراطية تعني انتخابات؟ هل يمكن ويجوز مطابقة معنيي الديموقراطية والانتخابات، وهل للانتخابات نفسها شروط معينة لكي تكون ديمقراطية، وما هي هذه الشروط وكيف ننفذها؟ ...إلخ. لهذه الأسئلة وغيرها إجابات واضحة ومحددة سنصل إليها، خاصة في القسم الثاني من هذا البحث الذي يختص بموضوع تطبيق الديموقراطية في الحزب والمجتمع. ولكن دعونا نلتزم بالترتيب الذي رسمناه ونبقى الآن في القسم الأول وننتقل إلى الفقرة الثانية منه.
يعتقد بعضهم أن الديموقراطية هي ثقافة غربية ولدت أواخر القرن الثامن عشر مع وثيقة إعلان الاستقلال للولايات الأميركية، ووثائق "إعلان الحقوق" في بعض الولايات، أو وثيقة "إعلان حقوق الإنسان" في الثورة الفرنسية. لكن سعاده يرى أن "الديموقراطية التي يفخر بها العالم الآن هي من صنع سوري أيضاً، لأن أول فكرة ديموقراطية تعطي الشعب حقوقه في إبداء الرأي في سائر شؤونه ظهرت في سورية، وبلا شك هي الغرسة الأولى في هذا الباب التي أعطت الثمار الكثير للعالم كله. ولا يزال البشر يجاهدون في إيصال هذه الفكرة "حقوق الإنسان" إلى حد الكمال".(خطاب سانتياغو)
هذا ما قاله سعاده سنة 1940، وكان قد كتب مثله في "نشوء الأمم" سنة 1937. ففي كلامه على الدولة السورية المدينية يقول: "في هذه المدينة وضع أساس الحقوق المدنيّة الّتي ارتقت في قرطاضة وبلغت أوجها في رومة. في المدينة السّوريّة البحريّة، الّتي طبعت ثقافتها على البحر المتوسّط كلّه، تحولت الرّابطة القبليّة القديمة إلى الرابطة الاجتماعيّة الواسعة. فزال باكراً ذلك الخضوع الأعمى للملك وزالت عن الملكيّة تلك الصّبغة الإلهيّة الّتي كانت لا تزال ترافق الملك والأسرة المالكة في الإمبراطوريات البرّيّة، وأصبح الملك فيما بعد ينتخب انتخاباً لمدّة الحياة، فكان ذلك أصل الدّيمقراطيّة والجمهوريّة".
وأيضاً: "وباكراً أسس الفينيقيون الملكية الانتخابية وجعلوا الملك منتخباً لمدة الحياة، فسبقوا كل الشعوب والدول التاريخية إلى تأسيس الديموقراطية".(نشوء الأمم، الإثم الكنعاني).
أما في مقالة "ليست سورية في الشرق، إنها أمة مديترانية" فيقول: "إنني ألفت النظر إلى أن سورية هي عنوان الديموقراطية التي أعطتها للعالم منذ قرون عديدة، والتي كانت مثالاً عديم النظير في انتخابها ملوكها على طريقة الاستفتاء الشعبي".
نذكر ذلك هنا الآن لأنه وُجِد في حزب سعادة في بعض المراحل من يقول بوجوب إدخال الديمقراطية وثقافتها الى الحزب، أو إدخال الحزب الى ساحات الديمقراطية. وهذا ما أوحى للبعض أن حزب سعادة بعيد عن الديمقراطية وخالي منها مما يوجب إصلاح الأمر وجعل الحزب حزباً ديمقراطياً!! (انظر مجلة صباح الخير العدد962 تاريخ 6-3-1999 صفحة 37). إن مثَل من أراد إدخال الديمقراطية الى حزب سعادة هو كمثَل ذلك الحاكم في الجزيرة العربية الذي أقنعه التجار الأميركان بأن يستورد الرمال من كاليفورنيا!!
"القومية والديمقراطية هما مبدآن متجانسان". هذا ما يؤكد عليه سعاده في كتابه العلمي نشوء الأمم، (الفصل السادس، الدولة الإقطاعية في الشرق والغرب) ويقول أيضاً: "وما الدولة الديموقراطية سوى دولة الشعب أو دولة الأمة، هي الدولة القومية المنبثقة من إرادة المجتمع الشاعر بوجوده وكيانه".وأيضاً: "القومية لم تقف عند حد القضاء على سلطة الاقطاعيين وتوحيد المرجع في الملك الذي أخذ تفرده في السلطة يتعاظم حتى أصبح شديد الوطاة، بل سارت نحو الهدف الذي يبرر وجودها وهو أن إقرار السيادة مستمدة من الشعب وأن الشعب لم يوجد للدولة بل الدولة للشعب، هذا المبدأ الديموقراطي الذي تقوم عليه القومية، فالدولة الديموقراطية هي دولة قومية حتماً". (ن. أ، الفصل السادس، الدولة الديمقراطية القومية).
الديمقراطية كمبدأ هي إذاً أساس تقوم عليه القومية، ومبدأ الديمقراطية هو غير الأشكال الديموقراطية الفارغة والمضلِّلة المعتمدة في الغرب والتي فضحها سعاده ودعا الى تركها والعودة الى الأساس الديموقراطي الصحيح.
(المقالة الثانية- ما هي الديمقراطية التمثيلية)
الحقيقة أن الديمقراطية أو الديمقراطيات الموجودة في العالم قد انتقدها سعاده إنتقاداً شديداً، كما سنرى، لصالح ديمقراطية جديدة أفضل منها، تقدمها النظرة القومية الإجتماعية الجديدة إلى الحياة وتشكل "إنقلاباً جديداً تجيء به الفلسفة القومية الإجتماعية".، وهذه بعض إشارات سعاده الى ذلك كما يلي:
"إن الديمقراطية من حيث أنها تعني أن الشعب هو صاحب السيادة ومصدر السلطة هي أساس ثابت لا يزعزعه شيء، أما التلاعب بهذه اللفظة حتى تعني الفوضى والرياء والزلفه فأمر يعيب الأمة". (مقالة "مرشحو الديمقراطية").
"إن الديمقراطية اسم تنطوي تحته أشكال عديدة، وكل شكل له خصائص سياسية وإدارية تعطي نتائج تختلف عن التي يعطيها شكل آخر". (مقالة "بحث الديمقراطية عن عقيدة").
"الديمقراطية التي خبرتها الشعوب المتمدنة حتى اليوم لم تتمكن من حلّ الأضاليل الإجتماعية-الإقتصادية التي نشأت مع تقدم عهد الآلة وأرتقاء التخصص في الأعمال وتحديدها". (نفس المصدر).
"
السوريون القوميون يجب أن يعرفوا واجبهم في هذه القضية الخطيرة، وأن العالم بأسره ينتظر منهم تفكيراً جديداً، ولا سيما من الوجهة الديمقراطية التي أصبحت الآن مبهمة، فالسوري القومي يجب أن يعالجها من جديد ويدفعها إلى العالم كاملة... فالسوري المفكر يجب أن يهتم في إنقاذ الديمقراطية من الهلاك، وذلك بأن يزيل ما دخل إليها من الفساد ويدخل إليها تفكيراً جديداً ينطبق على ما وصل إليه الناس من العلم والمعرفة فتصير صالحة لنفع الإنسان وتكفل حقوق الإنسان من كل مهاجمة وتعدٍ". (سانتياغو).
"إن الديمقراطية الحاضرة قد إستغنت بالشكل عن الأساس، فتحولت إلى نوع من الفوضى لدرجة أن الشعب أخذ يئن من شلل الأشكال التي أخذت على نفسها تمثيل الإرادة العامة وصار ينتظر انقلاباً جديداً. وهذا الإنقلاب الجديد هو ما تجيء به الفلسفة القومية الإجتماعية القائلة بالعودة إلى الأساس والتعويل على التعبير عن الإرادة العامة بدلاً من تمثيل الإرادة العامة، الذي هو شكل ظاهري جامد". (نفس المصدر).
"سورية القومية تضع أمام العالم اليوم فكرة التعبير عن الإرادة العامة بدلاً من فكرة تمثيل الإرادة العامة التي لم تعد تصلح للأعمال الأساسية لحياة جديدة."
"
فالتفكير السوري القومي الجديد هو إيجاد طريقة جديدة اسمها – التعبير عن إرادة الشعب – وقد يكون التعبير بواسطة الفرد أو بواسطة الجماعة حسبما يتفق أن يوجد."
"فهذه الفكرة الجديدة، أي التعبير عن إرادة الشعب، هي الاكتشاف السوري الجديد الذي ستمشي البشرية بموجبه فيما بعد، هو دستورنا في سورية الذي نعمل به لنجعل البلاد دائماً كما تريد الأمة."
"التمثيل أهون من التعبير، لأن التمثيل شيء جامد يتعلق بما قد حصل أما التعبير فغرضه الإنشاء وإدراك شيء جديد. هذا هو الخلل الإجتماعي الذي يريد التفكير السوري الحديث أن يصلحه، تفهّم إرادة الشعب وإعطاؤها وسائل التنفيذ الموافقة."
"إننا نشق طريقاً جديداً نختاره نحن لأنفسنا ونعتمد عليه في تفكيرنا الخاص، وسوف يكون هذا الطريق من جملة الإنتاج الذي يأخذه الناس عنّا. أن التفكير الحاضر دخل طور الشيخوخة في العالم كله، والبشرية بأسرها تنتظر تفكيراً جديداً تنال به سعادتها وراحتها وحريتها، وهذه البضاعة الجديدة سيخرج أكثرها وأفضلها من سورية بلاد العبقرية والنبوغ". (نفس المصدر).
بعد هذا الكلام الصريح والفصيح لسعاده، وُجِد في الحزب من يستمر في مجادلته ومعاندته ويقول له: لا، إنك لم تأت بشيء جديد وإن ديموقراطيتك هي نفسها الديموقراطية التمثيلية !!
أيجوز بعد هذا الكلام الصريح والفصيح لسعاده أن نتردد في التسليم بأن طريقاً جديداً وبضاعة جديدة وفكرة جديدة وفلسفة جديدة وانقلاباً جديداً في مفهوم الديموقراطية قد حدث فعلاً، ونستمر في عدم التصديق ونقول مرّة إن ديموقراطية سعاده هي نوع من الديموقراطية التمثيلية، ونخترع لها إسماً هو الديموقراطية التمثيلية التعبيرية (عبود عبود)، ومرّة أخرى ىإن ديموقراطية سعاده هي تعبيرية مركزياً وتمثيلية محلياً!؟ (هنري حاماتي)، أو حتى أن ديمقراطية سعاده هي نفسها الديمقراطية التمثيلية (توفيق مهنا)!!
ملاحظة: أن خطاب سانتياغو ليس "مجرد خطاب" يمكن أن يسترسل صاحبه ويأخذه الحماس والإثارة وتجاوب الجماهير... فيبالغ. سعاده ليس من هذا النوع، فضلاً عن ذلك فأن ذلك الخطاب لم يسجله أحد عندما ألقي في 8 نيسان 1940. لقد إستعاد سعاده أفكاره الرئيسة وكتبه بنفسه ونشره في جريدة "سورية الجديدة" – سان باولو – العدد 67 تاريخ 25 نيسان 1940، أي بعد أسبوعين من إلقائه، دون جماهير ودون إثارة ودون مبالغة.
إن كل نص من النصوص الواردة فوق يتضمن فكرتين إثنتين: نقد للديمقراطية التمثيلية الشائعة في العالم اليوم، ثم ذكر البديل الجديد. نحن لا زلنا لحد الآن ندرس الفكرة الأولى، فكرة النقد، وسنركز عليها قبل الإنتقال إلى الفكرة الثانية الموجودة في هذه النصوص، فكرة البديل الجديد، فكرة التعبير عن الإرادة العامة، "الإنقلاب الذي تجيء به الفلسفة القومية الإجتماعية".
سعاده وصف الأشكال الديمقراطية الحاضرة بنعوت قبيحة، ودعا العالم كله لتغييرها والإنقلاب عليها، وذلك بعبارات لا تحتمل تأويلاً مثل:" أصبحت مبهمة"، "إنقاذ الديمقراطية من الهلاك"، "إزالة ما دخل إليها من الفساد"، "الخلل الاجتماعي"، "الديمقراطية الحاضرة استغنت بالشكل عن الأساس"، "تحولت إلى نوع من الفوضى"، "الشعب أخذ يأن من شلل الأشكال التي أخذت على نفسها تمثيل الإرادة العامة"، "تمثيل الإرادة العامة هو شكل ظاهري جامد"، "التفكير الحالي دخل طور الشيخوخة"، "لم تتمكن من حل الأضاليل الإجتماعية الإقتصادية"....
كما أصبح واضحاً أيضاً أن سعاده أتى بنظرة جديدة وشكل جديد ليحل محل النظرة القديمة والشكل القديم، وذلك أيضاً بعبارات واضحة لا تحمل تأويلاً مثل: "بضاعة جديدة"، "طريقاً جديداً"، "تفكيراً جديداً"، "طريقة جديدة"، "فكرة جديدة"، "إنقلاباً جديداً"، "معالجة جديدة".
وهذا الشيء الجديد هو: التعبير عن الإرادة العامة بدلاً من تمثيل الإرادة العامة. وهو الإكتشاف السوري الجديد الذي ستمشي البشرية بموجبه فيما بعد، وهو دستورنا في سورية الذي نعمل به لنجعل البلاد دائماً كما تريد الأمة.
إذاً التعبير عن الإرادة العامة بدلاً من تمثيلها. فما هو التمثيل، وما هو التعبير/ وما الفرق بينهما، وما العلة في التمثيل، وما
الجيد في التعبير، ولماذا؟
هذا هو الموضوع الرئيس الذي سندرسه جيداً. هذه هي المسألة التي إذا ما صارت واضحة إنجلت النظرة الفلسفية الجديدة جلاءً تاماً، وهذا ما سنشرحه فيما يلي.
نحن نعتقد أنه لا يمكننا فهم الديموقراطية التعبيرية قبل أن نفهم جيداً، وأولاً، معنى الديموقراطية التمثيلية. نلاحظ أن كثيرين ممن كتبوا في هذا الموضوع أساءوا فهم معنى الديموقراطية التمثيلية وساووا بينها وبين الانتخابات، وكأن كل انتخابات هي ديموقراطية تمثيلية، وهذا غير صحيح. قالوا مثلاً إن في دستور سعاده ديموقراطية تمثيلية بدليل الانتخابات المنصوص عنها في قانون الطوارئ منذ سنة 1937، وأيضاً أنتخابات المجلس الأعلى والرئيس، فضلاً عن إنتخابات لجان المديريات. إن وجود الانتخابات في دستور سعاده هو دليل ديمقراطية، نعم، ولكنه ليس دليل ديمقراطية تمثيلية. سنبيّن هنا في هذه الدراسة أن الإنتخابات ممكن أن تكون تمثيلية وممكن أن لا تكون تمثيلية، ومن أجل معرفة وفهم متى تكون الانتخابات تمثيلية، ومتى لا تكون، دعونا نتعرّف على أهم خصائص الديمقراطية التمثيلية كما يلي:
إن عملية تمثيل الإرادة العامة عبر الانتخابات نسميها ديموقراطية تمثيلية عندما تنتج سلطة أو قيادة في الدولة هي نسخة طبق الأصل عن المجتمع وأحواله وأوضاعه. هي مثله، على صورته ومثاله، تحمل صفاته، تتمثل فيها فئاته، خاصة الأقوى منها والأكثر عدداً، قواه الوضعية المسيطرة المهيمنة التي تقوده اجتماعياً واقتصادياً، فتقوده سياسياً. وعندما نقول "فئات" نعنى "مصالح" لأن الفئات تتمايز في مصالحها، كل فئة تسعى لمصالحها وتمثيل الفئات المتعددة المختلفة يعني تمثيل مصالحها المتعددة والمختلفة.
إنها سلطة ديموقراطية لأن الشعب نفسه أوصلها وجاء بها، هو إقترع وصوت لها وانتخبها، هي منه ومثله. وهي سلطة فيها أيضاً نوع من العدالة عندما تعني العدالة عدالة التمثيل.
ألسنا منصفين مع الديموقراطية التمثيلية؟ ها نحن قلنا عنها ديموقراطية وعادلة، تمثل مجتمعها تمثيلاً عادلاً وحقيقياً، هي منه ومثله. إنها فعلاً ديموقراطية، وهي بالطبع أفضل من الطغيان والقهر والإستبداد والاستعباد والجور و... فلماذا رفضها سعاده
إذاً ولماذا انقلب عليها ولماذا جاء بما هو "بديل" عنها؟
للوصول الى جواب يجب أن نشاهد ديموقراطية تمثيلية نموذجية وانتخابات حرة ونزيهة وعادلة ومتوازنة وشفافة.... إلى آخر الأوصاف المتداولة عادة في مواسم الانتخابات. إننا في قلب ديموقراطية تمثيلية نموذجية في لبنان، كمثال، فماذا نرى؟ نرى ما يلي:
بما أن الشعب تنخره الطائفية وقد تحولت مذاهبه الدينية إلى أحزاب سياسية وأديانه إلى جبهات داخلية حامية، فسينتخب هذا الشعب نواباً طائفيين ويصنع مجلساً نيابياً أعضاؤه يسعى كل منهم حسب إنتمائه الطائفي إلى تأمين حقوق ومصالح طائفته. فالشيعي منهم يعمل لتأمين مصالح وحقوق الشيعة، والدرزي منهم سيطالب بحقوق الدروز، والماروني سيعمل ويطالب بحقوق الموارنة إلخ... وستزول من الحكم صورة الحقوق العامة الواحدة والمصالح الواحدة للمجتمع الواحد والأمة الواحدة. أليست الأمة هي جماعة تحيا حياة موحدة المصالح وموحدة المصير...
وبما أن الشعب لم يتحرر من الإقطاع ونفوذ العائلات ومن صورة الولاة والرعايا، فسينتخب إقطاعيين وزعماء عائلات وعشائر. وهؤلاء سيعززون في الحكم مصالح ونفوذ العائلات وحقوق وحصص العائلات والإقطاعات والولاة... وستزول من الحكم صورة الحقوق العامة الواحدة والمصالح الواحدة للمجتمع الواحد والأمة الواحدة.( نسمع أن فلان هو ابن عيلة، وكأن علتان ليس ابن عيلة، وأن هذه العائلة عريقة وكأن غيرها ليست عائلة عريقة... ).
وبما أن الشعب منهك وكاد أن يفقد معنى الحرية والعز والكرامة لأن ليس له ضمانة من دولة واحدة هي كلها له، وهي له كله بالتساوي، فإنه يصبح بضاعة يشتريها أصحاب الرأسمال الفردي المتحالف مع الرأسمال الأجنبي، وسينتخب هؤلاء الشارين ليصيروا رؤساء وحكومات تعزز هيمنة هذا الرأسمال وتحميه وتسن له القوانين التي يريدها ويرتاح إليها دونما النظر إلى... الحقوق العامة الواحدة والمصالح الواحدة للمجتمع الواحد والأمة الواحدة.
وبما أن الشعب هكذا فسينتخب أشخاصاً على صورته ومثاله في أوضح صورة للديموقراطية التمثيلية وأعدل صورة.
في الديموقراطية التمثيلية إذاً سوف تكون الدولة وأحوالها صورة طبق الأصل عن المجتمع وأحواله. وسوف تنعكس فيها كل انقساماته ومشاكله وأوضاعه، ولن تكون الدولة منفلتة ومتحررة من متاعب وأثقال المجتمع وبالتالي لن تكون قادرة على معالجة هذه المتاعب وهذه الأثقال، ولن تكون قادرة على تأمين المصالح الرئيسية الواحدة للمجتمع أو حماية حقوق المواطنية الواحدة. هل لمجلس تشريعي مؤلف من إقطاعيين وطائفيين وزعماء عائلات وعشائر وأصحاب شركات عالمية غير وطنية ينتظر منه "تكييف" حياة المجتمع وتغيير أوضاعه إلى الأحسن، وإنشاء شيء جديد صالح فيه يؤدي إلى إلغاء امتيازات هؤلاء الإقطاعيين والطائفيين أنفسهم؟
أم أن هذا المجلس سيكون مرتبطاً بمراكز القوى الوضعية في المجتمع وتابعاً لها وخادماً لمصالحها و"حقوقها" ومنافعها الذاتية المتناقضة مع المصلحة العامة للشعب؟ إنه سيكون ضامناً لبقاء هذه القوى ومعززاً لوجودها وبقاء المجتمع خاضعاً لها.
إنه نظام ديموقراطي هذا الذي نسميه النظام البرلماني التمثيلي الذي رأينا نموذجاً عنه فوق. إنه يمثل الإرادة العامة، يمثل الناس، هم أوصلوا سلطته وانتخبوها وأنتجوها. ولكن الشعب، وكما قال سعاده بالضبط، أصبح يئن من شلل الأشكال التي أخذت على نفسها تمثيل الإرادة العامة. وإننا نسمع هذا الأنين كل يوم، والمصيبة أن الشعب لا يجيد غير الأنين. هذه الديموقراطية لم تتمكن من حلّ الأضاليل الاجتماعية الاقتصادية كما قال سعاده. هذا النظام البرلماني "لا سلطة له على التكييف" كما ذكر سعاده في الخطاب المنهاجي الأول سنة 1935.
لاحظ تعبير "شلل الأشكال" الذي استعمله سعاده. لقد وصف الشكل الديموقراطي التمثيلي بالشلل لأن هذا الشكل عاجز عن الفعل والحركة التي يريد منها سعاده تكييف اوضاع المجتمع، أي تغييرها إلى الأحسن والأفضل . إن تمثيل الإرادة العامة يقف عند التمثيل، ولا يتخطاه إلى تحقيق وتنفيذ الإرادة العامة التي هي، بالضبط، تأمين المصلحة العامة الواحدة للمجتمع الواحد "الموحد الحياة الموحد المصالح الموحد المصير".
هناك أسباب كافية إذاً لرفض سعاده هذا النوع من الديموقراطية وإعلانه أنها لم تعد تصلح للأعمال الأساسية لحياة جديدة.
يجب الإنتباه هنا أن نقد سعاده الشديد للديموقراطية التمثيلية لا يعني أبداً أنه ضد الانتخابات بالمطلق، بل يعني بالتحديد أنه ضد الانتخابات التمثيلية، أي تمثيل مصالح مختلفة ومتصارعة في مجتمع منقسم على ذاته وفيه أقليات وأكثريات ثابتة ومغلقة على أساس عرقي أو طائفي أو طبقي. هذا هو معنى الديموقراطية التمثيلية: تمثيل المصالح المختلفة المتضاربة والمتصارعة ضمن المجتمع الواحد، في الدولة، لينتقل اختلاف مصالح الأكثريات والأقليات من نطاق المجتمع إلى نطاق الدولة وسلطاتها. فتصبح الدولة على صورة المجتمع ومثاله في انقساماته وتعدد مصالح فئاته، بدل أن تكون الدولة عنوان وحدة مصالح الشعب أو الأمة حيث الأمة هي جماعة موحدة المصالح موحدة المصير موحدة العوامل المادية النفسية ...
لا تجوز المساواة والمطابقة بين الديموقراطية التمثيلية والانتخابات لأنه ليست كل انتخابات هي انتخابات تمثيلية، فليست كل هيئة إنتخابية هي هيئة منقسمة على أساس مصالح مختلفة، أي تتنازعها مصالح فئوية مختلفة. المشكلة ليست في الانتخابات بل في تطبيق الانتخابات على مجتمع فيه انقسامات وفيه أقليات وأكثريات ثابتة ومغلقة ستنتج حتماً سلطات فيها أيضاً انقسامات وصراعات وشلل وعجز عن رؤية وحدة مصالح الشعب ووحدة حقوقه، وفيها شلل وعجز عن فعل شيء لتأمين تلك المصالح وحماية تلك الحقوق .
رب قائل: ليست كل المجتمعات تعاني من إنقسامات اجتماعية حادة مثل الطائفية أو غيرها، والأسباب التي دعت سعاده لرفض تمثيل الإرادة العامة ليست موجودة في كل المجتمعات، فضلاً عن أن مجتمعنا نحن نفسه يمكن له أن يتحرر يوماً من إنقساماته وأوضاعه الموصوفة ، فتنتفي عندئذ الأسباب والمحاذير التي تدعو إلى تبديل فكرة تمثيل الإرادة العامة بفكرة التعبير عنها.
حسناً، لنتمثل مجتمعاً خالياً من الإنقسامات الاجتماعية الحادة الموصوفة أنفاً، مجتمعاً قومياً شاعراً بوحدة حياته ووحدة مصالحه في الحياة، ولنطبق مبدأ تمثيل الإرادة العامة فيه، في دولته. إن مجتمعاً من هذا النوع سيبقى يحتضن قوى اجتماعية- اقتصادية مسيطرة، قوية، قائدة اجتماعياً واقتصادياً، وأن الديموقراطية التمثيلية دائماً تنتج سلطة تمثل الفئات الاجتماعية الاقتصادية الأكثر قدرة مالية وإعلامية ودعائية، وهذه سوف تعمل على صيانة امتيازاتها وحقوقها بالدرجة الأولى. هذه السلطة سوف تفهم من المصالح العامة ما يعني مصالحها هي قبل أي شيء آخر،أي مصالح الفئة التي تمثلها.
لذلك قال سعاده إن "الديموقراطية التي خبرتها الشعوب المتمدنة حتى اليوم لم تتمكن من حلّ الأضاليل الاجتماعية الاقتصادية التي نشأت مع تقدم عهد الآلة وارتقاء التخصص في الأعمال وتحديدها". فالأضاليل التي تكلم عنها سعاده ليست موجودة فقط في المجتمعات التي تعاني من انقسامات اجتماعية حادة كمجتمعنا، بل يقول إنها موجودة في الديموقراطيات التي خبرتها المجتمعات المتمدنة أيضاً .ففي هذه المجتمعات نشاهد أن الاقليات المسيطرة اقتصادياً ومالياً، وبالتالي دعائياً، هي التي تقود المجتمع سياسياً في حين أن أكثرية الشعب لا حول لها ولا قوة إلا بالثورات المتفرقة بعد فقد القدرة على الاحتمال.
جميل جداً أن يذهب بائع الجرائد في نيويورك أو عامل التنظيفات في بلديتها ليختار رئيس الولايات المتحدة الأميركية وأن يقول لنفسه أو تقول له هذه الديموقراطية: أرأيت، إن حقك مقدس، إن حقك في إختيار الرئيس لا يقل عن حق أي مليونير أو أي أستاذ جامعة أو عالم ذرة أو رائد فضاء في هذا الموضوع. إن صوتك يساوي أي صوت آخر لأي مواطن أميركي! جميل جداً هذا الشكل، بغض النظر عن مدى العدالة في هذه المساواة، لكنه شكل خادع ومضلل. فلا بائع الجرائد ولا عامل التنظيفات ولا أي مواطن أميركي عادي قد ساهم في اختيار المرشحين. إن المرشحين قد اختيروا في مكان آخر وأن جهات أخرى قد اختارتهم وما على عامة الشعب إلا التصويت لواحد منهم.
الشكل هو إنتخابات وبرامج ودعايات وإذاعات واستطلاعات رأي وصناديق إقتراع ومواعيد تصويت وفرز نتائج، أما أساس الديموقراطية الحقيقية فهو غير ذلك، إنه "سيادة الشعب وحكمه لنفسه"، إنه إيجاد سلطة يمكنها تفّهم إرادة الشعب ولديها وسائل التنفيذ الموافقة. إن الديموقراطية الحاضرة قد أستغنت بالشكل عن الأساس فتحولت إلى نوع من الفوضى لدرجة أن الشعب أخذ يئن... إن السوريين القوميين يجب أن يعرفوا واجبهم في هذه القضية الخطيرة، وأن العالم بأسره ينتظر منهم تفكيراً جديداً.
إذا عرفنا أن سعاده ينظر إلى الحياة نظرة جديدة، ينظر إلى الإنسان نظرة جديدة، الإنسان-المجتمع، المجتمع هو الحقيقة الإنسانية الكاملة، والقيم الإنسانية العليا هي قيم اجتماعية، وجوهر المجتمع هو وحدة المصالح ووحدة المصير... نعرف أن مفهوم المصلحة العامة والحقوق العامة والإرادة العامة أصبح يتخطى بكثير مفهوم مصلحة وحقوق وإرادة الفئة المسيطرة اجتماعياً واقتصادياً.
إن نظرة سعاده إلى الحياة والإنسان والمصلحة العامة والإرادة العامة والحقوق والواجبات والسلطة والدولة لا تقبل بما يسمى اختلاف مصالح الأقلية والأكثرية. إن الاختلافات السياسية في المجتمع هي شأن طبيعي وإن الانقسامات السياسية وتشكُل أكثريات وأقليات على أساس سياسي تتغير وتتبدل في سياق صراع الأفكار والبرامج والعقائد هو شيء طبيعي ومقبول. لكن ما هو غير مقبول هو الانقسامات الثابتة والمغلقة التي تهدد وحدة المجتمع ووحدة مصالحه ومصيره. عندما نقول أن سعاده لا يعترف بأقليات وأكثريات بل بمجتمع واحد وأمة "موحدة الحياة موحدة المصالح موحدة المصير" فأننا لا نتكلم هنا عن أكثرية رأي وأقلية رأي. ليس عن الاكثرية والأقلية السياسية التي يمكن أن تتغير بين هذه الانتخابات والتي تليها، بل عن أقليات وأكثريات ثابتة ثبات المصالح التي كانت أساسها، عن مجتمعات وهويات تدّعي استقلالا كيانياً على حساب وحدة المجتمع القومي الذي تنتمي إليه والتي هي جزء منه. سعادة يرفض ما يسميه "تضارب اللإتجاهات الأساسية" ولا يرفض تكوين الإتجاهات السياسية في المجتمع الواحد. يقول: "متى تضاربت الإتجاهات الاساسية في أمة من الأمم واختلفت العقائد والعوامل الثقافية، ولّد هذا التضارب وهذا الإختلاف رأياً عاماً مبلبلاً منقسماً لا يتمكن من الإجماع على قضية عامة، وزعزع الوجدان القومي الصحيح ومنع ما يسمى في العلوم السياسيةن الإرادة العامة" (مقالة الرأي العام تاريخ13-11-1937).
المجتمع القومي سيبقى يحتضن توجهات سياسية مختلفة، والحقوق السياسية ستبقى مصانة. إن حق التصويت وبالتالي الحق في التمثيل السياسي للأحزاب السياسية هو أحد الحقوق الاساسية التي يقوم عليها "المجتمع الحر المتضامن" حسب تعبير سعاده. لا خوف من الانقسامات السياسية، وإن تمثيل الأحزاب السياسية وبرامجها، في الدولة، هو شأن طبيعي. ولا يجب المغالاة والقول أن سعاده وديمقراطيته تهدفان الى إلغاء التمثيل السياسي. إن الديمقراطية التعبيرية البديلة عن التمثيلية لا تعني إلغاء التمثيل السياسي. أن سعاده لا يدعو الى القمع بل الى الحرية، يقول: " التصويت الموقوت هو أحد الحقوق الأساسية التي يمارس الشعب بواسطتها سيادته في الدولة البرلمانية الانتخابية. وهذا الحق هو في الحقيقة تكميلي لحق طويل عريض يبدأ في الحريات الأساسية التي يقوم عليها المجتمع الحر المتضامن. وأن من ضروريات السيادة بواسطة التصويت الشعبي العام أن يكون المجتمع حاصلاً على تربية قومية صحيحة توجه الفرد نحو النظر في مصلحة المجموع دائما". (من مقالة تشبيه)
يجب الإنتباه إذاً أن سعاده لم يقل بوجوب إبدال أو إلغاء التمثيل السياسي، بل قال بوجوب أبدال مبدأ تمثيل الإرادة العامة بمبدأ التعبير عن الإرادة العامة. الفرق كبير بين تمثيل الاحزاب السياسية من جهة وتمثيل الإرادة العامة من جهة أخرى. هنا يتكرر السؤال: ما معنى تمثيل الإرادة العامة الذي أراد سعادة الإنقلاب عليه؟ وما الفرق بينه وبين التعبير عن الإرادة العامة؟
في هذه المسالة سعاده كان واضحاً جداً لكنه كان مختصِراً كثيراً، ولإختصاره اسباب كثيرة وجيهة لا تخفى على المطلعين على تاريخ صراع سعادة وحربه على جبهات متعددة في وقت واحد. لعل في اختصاره يكمن سبب سوء تأويله. لقد أفصح لنا، لكن بإختصار، عما يعنيه بتمثيل الإرادة وما يعنيه بالتعبير عن الإرادة. كان ذلك في جملة صغيرة في سياق خطاب سانتياغو حيث قال: "التمثيل أهون من التعبير، لأن التمثيل شيء جامد يتعلق بما قد حصل، أما التعبير فغرضه الإنشاء وإدراك شيء جديد". هذا هو الخلل الاجتماعي الذي يريد التفكير السوري أن يصلحه: تفهّم إرادة الشعب وإعطاؤها وسائل التنفيذ الموافقة".
إذاً، ما يريد سعاده أن تعنيه عبارة "التعبير عن الإرادة العامة" هو تنفيذ هذه الإرادة، أي تحقيق المصلحة التي هي وراءها حيث لا إرادة دون مصلحة. هو الإنشاء والإدراك (الوصول) لشيء جديد وما يتطلبه ذلك من وسائل تنفيذ، وليس مجرد البيان الجميل والكلام الحسن والشرح الجيد لما يريده الشعب. البيان الجميل والكلام الحسن والشرح الجيد لما يريده الشعب هو مجرد نقل صورة واضحة ورسم لوحة ممتازة عن الارادة العامة، هو تمثيلها بأمانة ودقة ووضوح ولكن هو أيضاً الإكتفاء بذلك دون القدرة على فعل شيء وتغيير شيء وتحقيق شيء وتنفيذ شيء من هذه الإرادة. يجب فهم العبارة كاملة: التعبير عن الإرادة، وليس تفكيكها لكلمتي التعبير والإرادة. كلمة تعبير وحدها تعني البيان والشرح والتوضيح، لكن متى قُرِنت بكلمة الإرادة يصبح معناها التنفيذ والتحقيق! التعبير عن الإرادة هو تحقيقها وتنفيذها. هكذا يكون تمثيل الإرادة العامة هو أهون من التعبير عنها، هو شيء جامد يتعلّق بما قد حصل، أي يتعلق بوصف هذه الإرادة كما هي دون توفر الإمكانات والقوى و"وسائل التنفيذ الموافقة" التي تحقق هذه الإرادة وتجعلها نافذة. إن تمثيل الإرادة العامة هو أشبه بالتعبير عن رأي الناس وليس التعبير عن إرادتهم. التعبير عن الرأي هو غير التعبير عن الإرادة. التعبير عن الإرادة هو تحقيقها وتنفيذها، أما التعبير عن الرأي (تمثيل الإرادة) فهو نقلها وشرحها وبيانها فقط دون القدرة على تحقيقها وتنفيذها.
هذا ما سنتوسع فيه ونشرحه في المقالة الثالثة التالية من هذا البحث.
(المقالة الثالثة- ما هي الديمقراطية التعبيرية)
استعرضنا في ما سبق شيئاً من الأسباب العامة التي جعلت سعاده يقول إن الديموقراطية الحالية والتفكير الحالي قد دخلا في طور الشيخوخة. بقي هناك سبب خاص ينطبق علينا نحن في سورية وفي المجتمعات التي تشبهنا من ناحية حاجتنا وحاجتها للنهوض والتغلّب على انقساماتنا العمودية، لاستعادة هويتنا القومية وتركيز وعينا لوحدة حياتنا ووحدة مصالحنا في هذه الحياة، حاجتنا للتطور الاقتصادي- الاجتماعي والخروج من تحت الاحتلال والسيطرة الأجنبية، وتوحيد وطننا وبسط سيادتنا على أنفسنا وعلى موارد حياتنا في وطننا الواحد. وهذه كلها أهداف كبرى لا تتحقق "بالتطور الطبيعي" بل تحتاج الى نهضات كبرى مبنية على أساس فلسفة جديدة ونظرة جديدة الى الحياة.
وأن ذلك يحتاج لقيادات قادرة على تحقيق أهداف كبرى، باستطاعتها إنجاز نقلات نوعية باتجاه الأهداف الكبرى، عندها القوة المادية والروحية التي تمكنها من الفعل والتكييف والتغيير والتطوير.
إن ذلك يحتاج "لعقيدة صحيحة وقيادة صالحة" (سعاده) والقيادة الصالحة يجب أن تتوافر فيها "الشروط المؤهلة للقيادة" (حاماتي). وهذه الشروط تتخطى بكثير، بما لا يقاس، مجرد أن تأتي بها أكثرية الشعب، أن تأتي بالانتخاب – الإقتراع – التصويت، وتنال أكثرية المقترعين.
إن ذلك يحتاج بكل تأكيد لقيادة تحوز على ثقة الشعب وتأييده ورضاه وقبوله، أكان ذلك عن طريق الانتخاب أم عن غير طريق الانتخاب. لكن الأهم أن تحوز على المؤهلات والقدرات والصفات والامكانيات التي تجعلها قادرة على الفعل والتكييف والتغيير والتطوير و"إنشاء شيء جديد". وقد لخّص سعاده ذلك بهذا القول: "إن الأمم كلها تريد الخير والفلاح ولكن المشكل هو في ايجاد التعبير الصالح عن هذه الإرادة. فالإرادة العامة إذا لم تجد التعبير الصحيح في فكرة واضحة وقيادة صالحة تصبح عرضة لأن تقع فريسة المآرب التمثيلية" (من خطاب سانتياغو 1940).
لقد قلنا في نهاية المقالة السابقة أن الديموقراطية التمثيلية، حتى لو كانت خالية من الخداع والدعاية والأضاليل والمؤثرات المادية والإعلامية، تنتج دائماً سلطة تمثيلية تمثل مجتمعها كما