مفهوم الدولة العلمانية
لا أدري لماذا يصرّ بعض الكتّاب العرب على اعتبار «العلمانية» مناقضة للدين، كما يعيّرها عددٌ من رجال الدين بأنها تدعو إلى «الإلحاد»، بينما الحقيقة أن الدولة العلمانية لا تتناول القضايا الدينية الروحية لا من قريب ولا من بعيد. وهدفها الأساس عدم تدخّل الدولة في المسائل الدينية وإشكالياتها وترك ذلك للشأن الخاص، لأن هذه الدولة تتخذ قراراتها السياسية والاجتماعية بناءً على العلم والمعرفة كما يقدّمها الاختصاصيون في المجالات كافة. وقد ينتمي هؤلاء الاختصاصيون إلى ديانات وأعراق مختلفة، لكنّ ذلك لا يهم البتة لأن المعيار هو المعرفة العلمية، لا الانتماء الديني أو المذهبي. وعلى الذين يرفضون الدولة العلمانية التبصّر في الأمر لأنهم في الحقيقة يرفضون أن تكون العلوم هي معيار التقدّم، بينما نرى أن تقدّم الأمم في العالم الحديث لا يحصل إلا عبر العلوم الوضعية.
إنّ إلصاق تهم لا تمتّ إلى الدولة العلمانية بأي صلة، كوسمها بأنها «متوحّشة» و«فاشية» كما يصفها مازن النجار في مقالته «عنف الاستيطان: من التأسيس إلى الإبادة» («الأخبار»، 17 نيسان 2024)، سيؤدي إلى خسارتنا وتشرذمنا، لأن مبدأ الاستيطان الصهيوني لا علاقة له لا بالعلمانية ولا بالدين، بل بنظرة عنصرية استعلائية إلغائية اتسمت بها الحضارة الغربية منذ بداياتها في طورَيها الديني (الكنيسة الكاثوليكية) وغير الديني، والصهيونية هي ابنة هذا الجانب من الحضارة الغربية. فالدولة العلمانية هي الدولة التي تمارس الحياد التام، وعدم الانحياز تجاه معتقدات مواطنيها، وتمتنع حكوماتها عن فرض أي ممارسات دينية، أو دعم دين في مواجهة آخر، وترى أن هذا الموضوع ليس من صلاحياتها. العلمانية توَجُّهٌ تطبّقه الدولة لكنه ليس سلطة أو نظاماً، فالدولة العلمانية قد يكون نظامها ديكتاتورياً أو أوليغارشياً أو ديموقراطياً، وحين تحوّلت الهند والصين واليابان إلى دول علمانية لم يقل أحد أن سكانها تخلّوا عن البوذية أو الهندوسية.
الميزة الأهم للدولة العلمانية هي انتقال مجتمعها من التقويم على أساس النسب الديني أو العرقي أو الجندري، إلى التقويم على أساس المعرفة والكفاءة، وطالما يرفض مجتمع ما هذا الانتقال فإنه سيظل في حالته المتخلّفة لأن تقدّم المجتمع يرتكز على الكفاءة في إدارة مؤسسات الدولة لا على النسب. لذلك، يُكافأ الفرد بناء على مهاراته المعرفية، وبالتالي، تُبنى التراتبية الحديثة على أساس مؤهلات الفرد العلمية لا الوراثية، ما يؤدي إلى الابداع والابتكار وخلق إنجازات معرفية هائلة.
أسس الدولة العلمانية
من أهم أسس الدولة العلمانية الانفتاح على التطوّر على صعيد المعرفة في مضمار التكنولوجيا، والعمران البشري والاكتشافات العلمية، والاعتماد على المنطق والبرهان لا على ما قاله الأوّلون. فالعقل السلفي الذي يرفض التطوير والتغيير في بلده، يقع في الازدواجية والتناقض حين يلجأ إلى استهلاك كل المنتجات التي تقدّمها الدول العلمانية الحديثة! والعقلية التقليدية التي تتمترس خلف حقائق تراها مطلقة ولا تريد التنازل عنها، ترفض الاعتراف بالحقائق العلمية لأنها تراها حقائق نسبية، بينما الإيجابية هي في نسبيتها بالذات لأنه من الممكن تغييرها حالما تظهر حقائق علمية جديدة يستطيع المجتمع الاستفادة منها. إذ تسعى العلوم، بشكل عام، إلى نشر المعرفة، وتبنّيها، ونقضها، ومناقشتها، والاختلاف معها، ثم الوصول إلى حقائق جديدة.
الدولة العلمانية تعطي الأولوية في القرار والتنفيذ للمنهج العلمي وللبراهين الحسية وللقواعد العلمية، والبناء على التجربة والخبرة، وتقع مسؤولية بناء المعرفة على الفرد وعلى المجتمع المنوط به اتخاذ القرارات، أي إن المواطن/ة هو عنصر فاعل ومشارك في تحديد مصير وطنه، ولا يتّكئ على نخبة خارج إرادته، تقرّر نيابة عنه. وبما أن هدف الدولة العلمانية إرساء ودعم القواعد العلمية الآيلة إلى تحسين حياة مواطنيها المادية، فإنها تعمد إلى التشديد على بناء مدارس عالية الجودة كي يستطيع المواطن القيام بواجباته تجاه وطنه، كما تلعب المدارس دور الموجّه في الأخلاق العامة كي يتفاعل المواطن مع مجموع المواطنين الآخرين، فيشعر بهم ويحترمهم تماماً كما يحترم نفسه. وهذه الغيرية هي التي تجعله يضحّي بنفسه في سبيل خير المجموع حتى لو اختلف عنهم دينياً أو عرقياً. ومن أجل هذه الغاية أُنشئت المدارس الوطنية المجانية والإلزامية في البلدان المتقدّمة، لأن الأمّية والجهل يقودان إلى تراجع المجتمعات على الأصعدة كافة. والغريب في أمر البلدان العربية أن جودة التعليم لا تصبّ في تطوّر مجتمعاتها لأنها ترفض المبدأ العلماني، أي إحلال المعرفة العلمية للفرد بدلاً من نسبه حين تبوئه للسلطة، فيذهب عِلمهم هباء.
إضافة إلى ذلك، تؤمّن الدولة العلمانية حقوقاً للمواطن لا تعطيها أنماطاً دولتية أخرى، ومنها حرية المواطن في اختيار دينه ومستوى معرفته وكفاءته، ويتلاءم هذا الموقف مع مبدأ المساواة الديموقراطي. فلولا حياد الدولة تجاه العرق والدين والجندرة (رجل/امرأة)، لا مجال لتحقيق مبدأ المساواة بين المواطنين والمواطنات. وهذا المبدأ جوهريٌّ، لأنه يؤدي إلى اندماج أفراد المجتمع، واعتبار أنفسهم سواسية أمام القانون، لا غلبة لواحدهم بسبب دينه أو إثنيته أو نسبه.
في المحصّلة، أظهرت التجربة أن الدولة التي ارتكزت على العلم والمعرفة العلميّين تفوّقت على الدول التي اتبعت أنماطاً أخرى، ولذلك تبنّت غالبية دول العالم هذا المسار في الغرب كما في الشرق الأقصى، وحان الوقت للدول العربية أن تتوقّف عن اتهام النموذج العلماني زوراً بأنه ضد الدين وأنه يحرّض على الكفر والإلحاد.
* أستاذة جامعية