المدرحية هي فلسفة إجتماعية جديدة تتناول الإنسان، بحقيقته الإجتماعية، والقيم الإنسانية وقضايا الوجود الإنساني وتطوره. وينبثق عن هذه الفلسفة الشاملة "نظرات جديدة في الإجتماع بأشكاله النفسية والإقتصادية والسياسية جميعها"[1]، ويعتبرها سعاده "فلسفة كاملة في الإجتماع والتاريخ"[2] و"نظرة جديدة إلى الحياة والكون والفن" تُشَكِّلُ فتحاً فلسفياً جديداً "ومركز انطلاق نحو سمو إنساني جديد."[3] وفي تعريفه لهذه الفلسفة، يقول سعاده، هي "فلسفةُ التفاعلِ الموحَّدِ الجامعِ لقوى الإنسانيةِ"[4] القائلةِ بتفاعل العوامل المادية- الروحية في كلِّ معركةٍ إنسانيةٍ غايتُها سد الحاجات الحيوية والمطالب المادية والنفسية والإرتقاء بالحياةِ وتجويدُهَا.
وهذه الفلسفة الإجتماعية الكاملة والموجودة "في المبادئ وفي كتابات المعلم وشروحه، في كتبه وخطبه ومحاضراته وأحاديثه وفي قدوته"[5] ، ترى وجود الإنسان من زاوية الحقيقة الإنسانية الكبرى، حقيقة المجتمع الذي هو الوجود الحقيقي والضروري لبقاء الإنسان والتحقيق الأمثل للذات الإنسانية، لا من زاوية الفرد كما رأه السفسطائيون، بأسلوبهم المتهوّر، الذين جعلوا الفرد حكماً و"مقياساً لكل الأشياء" أي ان "كل فرد هو لنفسه مقياس الحقيقة شعوراً ومعرفة، فلا تكون هناك حقيقة واحدة بل حقائق."[6] وهذا الأسلوب نتيجته الوحيدة: الفوضى في المجتمع. والمدرحية لا ترى وجود الإنسان من زاوية فلسفة الشخصانية أي فلسفة الشخصية الفردية الأنانية الفوضوية التي تسيء بسلوكها وأنانيتها للمجتمع. هذه الفلسفة حاول فايز صايغ بثَّ أفكارها في أوساط الحزب، متأثراً بالمفكر الروسي نقولا برديايف الذي رّوجَ لها في كتاب "العبودية والحرية"، معتبراً "ان الفرد منبثقٌ رأساً من الله وليس من النوع الإنساني أو المجتمع الإنساني"[7]، وهو كائن حر وفوضوي ومتمّرد. فشخصيته السلبية لا تتحقق إلا بالتمرد على واجبات المجتمع وعدم الإتحاد فيه وبالتحرر من الاعتماد على الطبيعة والمجتمع والدولة. فالشخصية الفردية الحرّة الخلاّقة، بنظر هذه الفلسفة الفردية، هي القيمة العليا وقضيتها فوق قضية المجتمع ومتقدمة عليها ولا ولاء لها إلا لأنانيتها الفردية.[8]
والمدرحية ترى ايضاً بأن الحياة الإنسانية والإرتقاء الإنساني لا يمكن تفسيرهما بالمبدأ الروحي وحده او بالمبدأ المادي وحده بل بالتفاعل الروحي- المادي المتجانس الذي يحقق مطالب الحياة المادية والنفسية ويرتقي بها.. وكما يؤكد سعاده: "إننا نقول بأن التاريخ والحياة يفسران تفسيراً صحيحاً بمبدأ جامـع. بفلسفة جديدة تقول إنّ المادة والروح هما ضروريان كلاهما للعالم."[9] وفي رسالة وجهها للقوميين الإجتماعيين عام 1947، أكّدَ ان تعاليمه المُحيّية تدعو العالم إلى ترك العقائد الجزئية، الخانقة والجشعة والجامحة، في تفسير التطور الإنساني وإلى الإقلاع عن مقولة اعتبار العالم ضرورة، عالم حروب مهلكة بين القوتين المادية والروحية.. ودعا المكابرون إلى التسليم معه "بأن أساس الارتقاء الإنساني هو أساس روحي – مادي (مدرحي) وأنّ الإنسانية المتفوقة هي التي تدرك هذا الأساس وتشيد صرح مستقبلها عليه. ليس المكابرون بالفلسفة المادية بمستغنين عن الروح وفلسفته ولا المكابرون بالفلسفة الروحية بمستغنين عن المادة وفلسفتها."[10]
فلسفة أصلية
والمدرحية ليست فلسفة غريبة، مستوردة من العالم الخارجي او مقتبسة من فلسفاته العصرية المتنوعة، بل هي فلسفة أصلية نبتت في تربة البيئة السورية بجذور عميقة في التاريخ ونمت شامخة في الحياة تعطي من ثمارها أفكاراً صالحة تغذّي العقول ومناقب سامية تهذّب النفوس. فهي، أولاً، فلسفة منطبقة على خصائص البيئة السورية واستعدادها النفسي والمادي لتقبلها والعمل بها، ومتوافقة مع شخصية المجتمع السوري وخططه النفسية. وهي، ثانياً، فلسفة ناتجة عن التفكير السوري الإبداعي المستقل المرتكز على الإستقلال الروحي والفكري والذي نجد أصوله في نفسية الشعب السوري وفي تراثه الفكري-الثقافي الحضاري منذ بداياته الأولى إبتداءً من الأساطير العميقة "الراقية ذات الصبغة الفلسفية المتناولة قضايا الحياة الروحية والمادية"[11] مروراً بما أنتجه السوريون القدامى من فكر وحكمة وعلم وفنون وفلسفات وشرائع وتصورات للكون والحياة وغيرها من المآثر الثقافية والإنجازات التي سجّلها عظماء سورية ومنهم فلاسفة كبار أمثال طاليس الفينيقي، المعروف بأبي الفلسفة، وزينون الفيلسوف الرواقي، السوري – الفينيقي، الذي أنشأ المدرسة الرواقية التي وضعت "أسس الأخلاق والفضائل والقيم" الجديدة لإنسان جديد عالمي ولمدينة كونية فاضلة حيث البشر فيها إخوة والذي عبَّرَ بنظرته الفلسفية العميقة عن النفسية السورية العملية التي لم تتهرب يوماً من العمل لتحقيق الأفضل في هذا الوجود ولم تلجاً في نهجها إلى ما وراء الوجود، إلى الميتافيزيا، لتحل مشاكل الإنسان وتوقه إلى السيطرة على أسرار الكون. وأمثال الفيلسوف الشاعر المتألق أبي العلاء المعرّي والفيلسوف الأديب جبران خليل جبران والعبقري الدكتور فيليب حتي وغيرهم.
والتفكير السوري الإبداعي الذي سعى في كل مراحل التاريخ إلى الكشف على أسرار الكون وألغازه وإلى إبتكار الإختراعات والفنون الراقية وتسجيل أروع الشرائع والقوانين والفلسفات وغيرها من المنجزات الحضارية.. هذا التفكير الإبداعي تجلّى في إنتاج سعاده وطريقة تفكيره المستقل و"شكّلَ إنقلاباً فكرياً عظيماً وسط شعبنا يعكسُ نفسيتنا السورية الجميلة الفاعلة في الوجود والتي تتمتع بكل مؤهلات الوعي الصحيح والإدراك الشامل لشؤون الحياة والكون والفن والتي "تقدر في ذاتها على المعرفة"[12] و"تمييز القصد وتصور اسمى صور الجمال في الحياة."[13]
وبفضل نبوغه وعبقريته وما تمتع به من ملكات عقلية ومن مهارات الإبداع والتفكير الإيجابي السليم والبعيد عن التقليد والإقتباس، ونتيجة معرفته العميقة بالتاريخ والعلوم الإجتماعية والإنتروبولوجية والجغرافية وإطلاعه الواسع على حضارات إنسانية وعقائد دينية ومذاهب فلسفية متنوعة، إستطاع سعاده ان يصيغَ فلسفته القومية الإجتماعية الجديدة التي تُعتبر إبتكاراً جديداً في التفكير الفلسفي وإستمراراً فلسفياً لخط التفكير السوري القديم وقضاياه ولكن "بفهم جديد للحياة وقضاياها والكون وإمكانياته والفن ومراميه."[14] فنظرة سعاده الجديدة متصلة إتصالاً وثيقاً بالأصل الجوهري، بخط الذات السورية التاريخية وسيرها وبحقائق التفكير السوري القديم ومبادئه وقضاياه، وصادرة عنه، وهذا ما يسميه سعاده، بموصل "الاستمرار الفلسفي" بين السوري القديم والسوري القومي الاجتماعي الجديد[15]. ومبدأ الإستمرار الفلسفي يتجلى بشكل واضح في شرحه للمبدأ الأساسي السابع، الذي يتضمن دعوة صريحة إلى النهوض القومي عبر طريق الإستقلال الفكري-الروحي المنزّه عن التأثيرات الغريبة دون الإنعزال عن التفاعل مع العالم، وفي دعوته الواضحة للإتصال بالذات السورية "وفهم بنيتها وتيارات عواملها ومبادئها المحركة"[16] من خلال الإلتزام بالتاريخ القومي والعودة إلى التراث السوري والحضارة السورية وإلى جوهر الأمة ونفسيتها الحقيقية الظاهرة في إنتاج رجالها الفكري والعملي وفي سيرها وأعمالها ومآثرها الثقافية.[17]
إن نظرة سعاده العملية للوجود المبنية على فهم جديد للحياة وقضاياها لا تعتمد على مبدأ الإستمرار الفلسفي وحده بل على مبدأ الإطراد الفلسفي ايضاً. المبدأ الأول يُوصل التفكير الجديد بالتفكير القديم ولا يلغي الحقائق القديمة او يلقيها في زاوية الإهمال والنسيان، إنما يعدِّل فيها ويبقي على الصالح منها. أما مبدأ الإطراد الفلسفي، فيعني ان النظرة الجديدة هي أعلى درجة وأرقى من مفاهيم السابقين في بحثهم عن الحقيقة. إنها تقدم إضافات جديدة للمفاهيم السابقة لذلك يمكن اعتبارها خطوة جديدة متقدمة نحو الإرتقاء لأن الحياة تسير إلى الأمام في شكل تطوري وتصاعدي وليس إلى الوراء. وهذا المبدأ يعني ان المدرحية تأخذ بفكرة التطور وليس بفكرة التراجع. فالوجود الإنساني (السوري) وجود طبيعيٌّ، حيٌّ، في البيئة السورية الطبيعية وهو حصيلة ناتجة عن التفاعل المادي-النفسي ويسير وفق نسق تطوري ممتد في الزمان، وكل مرحلة من مراحل هذا التطور مرتبطة، بشكل وثيق، بالمراحل التي سبقتها. وقد بيّنَ سعاده صفات هذا الوجود في كتاباته المتعددة، كما وضع الأساس العلمي العام لتكوينه بجميع مظاهره وعوامله الأساسيّة في كتابه "نشوء الأمم" ولم يتمكن من إنهاء كتابه الثاني في بحث "نشوء الأمة السورية" ومحلّها في سياق التّطوّر الإنسانيّ إذ صودرت أوراقه أثناء الاعتقالات الثّانية في صيف 1936 من قبل سلطات الإنتداب الفرنسي، وتعرّض بعد ذلك إلى ملاحقات ودسائس ومتاعب وإغتيال.
ودعا سعاده أبناء شعبه للأخذ بنظرته الجديدة وللعمل بوحي تعاليمها من أجل إشادة تمدن جديد أفضل من التمدن القديم الذي وضع قواعده أجدادنا الأولون وبناء حياة راقية يجدون فيها كل الفرج والجمال وحسن المآل، وقال: "يجب على الأمم الراقية ان تتشبه بنا او تنسج على طرازنا القومي الإجتماعي."[18]
فالسوريون القوميون الاجتماعيون يجاهدون، ولهم عقيدة كلية، تشمل جميع مناحي الحياة الاجتماعية، وترتفع في مثل عليا غير متناهية. إنهم يحاربون، واثقين من أنهم يشيّدون تمدناً جديداً أفضل من التمدُّن القديم الذي وضع قواعده أجدادهم الأولون. فهم، من هذه الناحية الفلسفية، الأساسية، في طليعة الأمم التي تسعى لإيجاد عالم أفضل من الموجود، ولا يحتاجون لأخذ دروس، في هذا الموضوع، من شعب من الشعوب، بل إنهم يشعرون بأنهم يقدرون أن يفيدوا الشعوب الأخرى، في جميع القارات على السواء، بتفكيرهم الجديد، الذي لم يسمح لهم الأدباء المجزرون، والنفعيون، والرجعيون، بالانصراف إلى توسيعه وإعلاء بنائه وكشف مخبآته الرائعة، بما أثاروه عليهم من ضجيج، وما شغلوهم به من عنعنات وترهات ومخرفات، لم يجد القوميون الاجتماعيون بداً من الحفول بها، وصرف بعض الوقت الثمين في محاربة سمومها.[19]
فلسفة الأٍساسيات:
حرَّكَ سعاده قضية الفكر الفلسفي الأساسي ودعا المنتجين فكراً وفناً، من أدباء وشعراء ومثقفين وموسيقيين وطلبة العلم والفلسفة، للأخذ بنظرته الجديدة إلى الحياة والكون والفن ولإنتاج أعمالهم على ضوئها وللتعمق في درسها بأبحاث ثقافية وفلسفية وأدبية وإقتصادية جديدة توضح المسائل والقضايا التي تعالجها وتنقل الفكر من السطحيات ومسائل الإدراك العادي والتفكير الإعتيادي إلى الأساسيات: إلى المرامي السامية من الفكر والشعور وإلى "قضايا الحياة والوجود الأساسية الكبرى وقضايا الحياة العملية."[20] وبرأي سعاده، فإن القضايا الأساسية السامية تشمل قضية الفرد - الإنسان والمجتمع وغرض الوجود الإنساني وقضية الوطن القومي والعمل في سبيله وحفظ سلامته ووحدته وحياته. كما تشمل القيم الإنسانية المجتمعية كالحرية والواجب والنظام والقوة والحق والخير والجمال وغيرها.[21] وفي كتاب توجيهي أرسله سعاده إلى الدكتور شارل مالك بعد أن أهداه هذا الأخير نسخة من خطاب بالإنكليزية ألقاه في كلية البنات في الجامعة الأميركانية بعنوان "معنى الفلسفة"، يقول سعاده:
إنه من الحسن أن يفكر الإدراك العادي بديمكريطس وصكرات وأفلاطون وأرسطو وأغسطين وزينون ونيتشه. ولكني حين أفكر أنا في الفلسفة لا أفكر بهذه الأسماء، بل في الحقائق الأساسية والمرامي النفسية الأخيرة عينها التي فكّر فيها هؤلاء الفلاسفة.[22]
ومن أجل نفض الغبار عن حقيقة النفسية السورية الأصلية ومكنوناتها، دعا سعاده إلى إحياء التراث السوري الروحي- الفكري والكشف عن مآثر هذه النفسية الثقافية وانجازاتها وإلى العودة إلى الجذور .الحضارية وإلى الأساطير السورية الأصلية ذات المغزى الفلسفي في الوجود الإنساني طالباً من الأدباء والشعراء السوريين الإطلاع على هذه "الكنوز الروحية الثمينة" وما يوجد في طبيعة أمتهم من موحيات فلسفية وفنية أصلية "يؤهلهم فهمها لإنشاء أدب فخم، جميل، خالد... يكشف عن عظمة مطامح نفسية هامة وسمو مراميها."[23] وهذا الأدب الذي دعا إليه، "هو أدب الحياة، أي الأدب الذي يفهم حياتنا ويرافقنا في تطوّرنا ويعبّر عن مثلنا العليا وأمانينا المستخرجة من طبيعة شعبنا ومزاجه وتاريخه وكيانه النفسي ومقومات حياته."[24]
وقال:
إلى مقام الآلهة السورية يجب على الأدباء الواعين أن يحجوا ويسيحوا فيعودوا من سياحاتهم، حاملين إلينا أدباً يجعلنا نكتشف حقيقتنا النفسية ضمن قضايا الحياة الكبرى التي تناولها تفكيرنا من قبل في أساطيرنا، التي لها منزلة في الفكر والشعور الإنسانيين، تسمو على كل ما عرف ويعرف من قضايا الفكر والشعور.[25]
وأضاف:
الآن أخاطب، أنا، جميع شعراء سورية قائلاً: تعالوا نرفع لهذه الأمة التي تتخبط في الظلمات مشعالاً فيه نور حقيقتنا وأمل إرادتنا وصحة حياتنا. تعالوا نشيد لأمتنا قصوراً من الحب والحكمة والجمال والأمل بمواد تاريخ أمتنا السورية ومواهبها وفلسفات أساطيرها وتعاليمها المتناولة قضايا الحياة الإنسانية الكبرى..[26]
الفلسفة المدرحية وما قدّمته من حافز روحي، فتحت آفاقاً جديدة للفكر وأحدثت تغييراً "في مجرى الحياة ومظاهرها، وفي أغراضها القريبة والأخيرة"[27]، وأطلقت تياراً ثقافياً - معرفياً، فاعلاً في ميادين الأدب، والشعر، والموسيقى، وسائر فروع الفن، ومعبراً عن مكنونات النفس السورية التي كانت مكبوتة ومحجوزة وعن سمو تفكيرها ومقاصدها النبيلة. كما أيقظت هذه الفلسفة وجدان ألوف الأحداث والطلبة وحرّكت عوامل الحياة والإرتقاء في فئات كثيرة من الشعب وفي أوساط أهل العلم والأدب والفنون، و"صيّرت العلوم الميتة علوماً حية، فاكتست العظام لحماً ونبضت عروقها بدم الحياة الحار.." [28]
والفلسفة المدرحية تتضمن مبادىء مناقبية نجد فيها أبجدية الحياة الجديدة وقيمها السامية.. وهل تسمو الحياة بدون المبادىء السامية؟ لقد تساءل سعاده في سجّلِ مذكراته اليومية قبل تأسيسه للحزب: "ما هي قيمة الحياة بدون مبدأ؟ وما هي الحياة بدون مثل منشود؟"[29] وبعد تأسيسه للحزب وفي معرض شرحه للعقلية الأخلاقية الجديدة يقول: "إن الحياة الإنسانية بلا مبادىء يتمسك بها الإنسان، ويبني بها شخصه ومعنى وجوده، هي باطلة.."[30] لذلك تسعى الحركة القومية الإجتماعية ان تغرس هذه التعاليم والقيم السامية في النفوس لتنبت حباً عظيماً للأرض وللمجتمع، لأنه بدون الولاء للمجتمع وبدون التفكير بخيره ومصالحه وبدون التعاون الإجتماعي لا ترتقي الحياة الإجتماعية ولا ينعم المجتمع بأكمله بالحياة الراقية الجميلة. إن التعاون الإجتماعي، يقول سعاده، "هو الطريقة الأساسية لحفظ حياة المجتمع وشخصيته وتأهليه للتقدم في مراقي العمران والتمدن."[31] والحركة القومية الإجتماعية التي قامت على أساس فكرة فلسفية أساسية، يقول زعيم النهضة: "هي الحركة التي استمدت وجودها من الأرض والشعب بكل ملله وطوائفه – وهي الحركة التي سارت بالمحبة للأرض والشعب – للشعب كله بجميع فئاته.."[32]
وفي بحثه المنشور في الزوبعة عام 1942 بعنوان "العقيدة السورية القومية الإجتماعية وبحث الديمقراطيين عن عقيدة" علَّقَ سعاده على بعض الكتّاب الخنفشاريين الذين أظهروا "سفسطة إنكارية" واعتبروا "أنه ليس عندنا «سوى آراء وأحلام تلمع هنا وهناك» فيلقون بالدروس علينا بوجوب التشبه «بالأمم الراقية»، التي تُعنى بالأمور الجوهرية، ولا تحفل بالقشور، نظيرنا نحن السوريين."[33] ويضيف:
"إنّ أمما كثيرة، قوية، كانت أمامنا أشواطاً ومراحل في التفكير الاجتماعي ــــ الاقتصادي، وكان ذلك في عهد مضى، أما الآن فإن نهضتنا القومية الاجتماعية قد جعلتنا في مقدمة الأمم الثقافية المتمدنة من هذا القبيل. فنحن لا نفتقر إلى قواعد اجتماعية ــــ اقتصادية من الخارج. بل نحن نقدر أن نساعد غيرنا ونعطي من تفكيرنا."[34]
ما كان يؤلم سعاده هو الجهل المنتشر في المجتمع والذي لم يقتصر على العامة من الناس بل طال بعض الكتّاب والأدباء الذين فقدوا الثقة بالنفس ولم يهتموا بدراسة ما يجري في شعبنا من تطور فكري رائع، بل تعّودوا ان يطلبوا منا أن «نتشبه بالأمم الراقية» وننسج على طرازها. يقول سعاده:
هو الجهل، وموت الروح، وانعدام الطموح والمثل العليا، وفقد الثقة بالنفس والجنس، عند الأدباء المجزرين الذين ولدوا في عصر مظلم ولم ترَ أنفسهم النور قط. ولذلك، لا يرجى منهم أن يروا، ببصائرهم العمياء، الألوان والظلال، والخطوط، والأشياء، والقيم، والطرق، وأشكال الحياة ومعانيها، والمثل العليا، التي اعتنقتها النفوس التي ولدت في النور وسارت في النور.[35]
وما كان يؤلم سعاده ايضاً هو حالة اليأس والخوف المسيطرة على النفوس بحكم الظروف الروحية النفسية السائدة في المجتمع نتيجة فقدان الثقة بالنفس وبمواهب الشعب وإمكانياته والإستسلام للخنوع. هذه الحالة، التي اعتبرها سعاده أكبر نكبة أصيبت بها الأمة، أدت إلى نشوء "طائفة من المأجورين للإرادات الأجنبية"[36] ينشرون الخوف و"يقنعون الناس بأن الخوف أفضل طريق للحياة"[37] و"يغذون الأفكار بسموم فقدان الثقة بمستقبل الأمة والتسليم للأعمال الخارجية والحالة الراهنة. فإذا النفسية العامة في الأمة نفسية خوف وجبن وتهيّب وتهرّب وترجرج في المناقب والأخلاق.."[38] لكن سعاده يؤكد بأن سورية الناهضة بالفلسفة القومية الإجتماعية الجديدة هي غير سورية القديمة "المسترسلة إلى أوهام فاقدي الروح القومية وعديمي الثقة بالنفس."[39] ان السوريين القوميين الإجتماعيين قد حرروا أنفسهم، بفضل مبادىء القومية الإجتماعية، من الأوهام التي قعدت بهم عن طلب ما هو جدير بهم. لقد تحولوا بمعرفتهم الجديدة إلى مصارعين أحرار، واعين معنى وجودهم وحياتهم ومصالحهم في الحياة وضرورة تحسين هذه الحياة وتجويدها، وعاملين بكل تضحية وتفانٍ لإنتصار الفضائل الجميلة والمناقب الراقية والمثل العليا العظيمة لأمتهم. وبفضل النهضة القومية التي أخرجتهم من الظلـمة والجهل والضلال والشك والفوضى الى النـور والمعرفة والهُدى واليقين والنظام، فهم يصارعون بإرادتهم الحرة ومناقبهم الصافية ويبذلون الجهود والتضحيات ويعطون بسخاء وبطولة لإيقاظ الوجدان المجتمعي وتوليد الوعي القومي الصحيح في مجتمعهم المفكّك والواهن فيتحول هذا المجتمع بأسره إلى مجتمع إنساني، موحّد، وقوي، وحرٌّ، وواعٍ، ومناقبي، مجتمع خلاّق وناهض بأبنائه الأحرار وسائر لتحقيق مقاصده الكبرى في الحياة، مجتمع نموذجيٌ، راقٍ، وقدوة لغيره من المجتمعات الإنسانية وقادر ان يكون بعبقرية أبنائه وإبداعهم معلماً وهادياً للأمم .
فلسفة الغايات الخالدة:
والتفكير الجديد الذي بدأته النهضة القومية الإجتماعية ليس تفكيراً وقتياً يخدم غايات خصوصية أو حالات ظرفية بل هو تفكير راقٍ يعكس إدراكاً عالياً للقضايا الاجتماعية ــــ الإقتصادية في العالم ويعنى بالأمور الجوهرية والغايات الخالدة والمرامي السامية من الفكر وهذه المرامي لا نهاية لها. في خطابه في الأول من آذار عام 1949، يقول سعاده: " في سيرنا في طريق النهوض، وفي عملنا بالقواعد الأساسية لهذه الحركة، نشعر أنّ الحياة التي نحياها هي حياة لا نهاية لها، لأنها مربوطة بالغايات العظيمة التي هي، كنفوسنا العظيمة: لا نهاية لها!.."[40] والتفكير الجديد يعنى، أيضاً، بالأبقاء على أفضل القيم والمثل العليا وبتحقيق الارتقاء والبحبوحة والعدل الإجتماعي ــــ الإقتصادي. يقول سعاده:
"إنّ تفكيرنا الاجتماعي ــــ الاقتصادي لم يعد من ذلك النوع الصوفي الذي يمثّله الأدباء المجزرون، الذين يرون المذاهب والعقائد الاجتماعية مجرّد «أزياء وقتية»، مهما تألم من بعضها ملايين الناس.. إنّ تفكيرنا الاجتماعي ــــ الاقتصادي لم يعد على مستوى تلك السفسطة التي بدأ أدباء الجمود والفناء على حشو أدمغة السواد منا بها."[41]
هذا التطور الفكري الرائع في حياتنا الفكرية وفي تفكيرنا الإجتماعي – الإقتصادي وصفه سعاده بالإنقلاب الفكري العظيم الذي "لم تشهد أمة من أمم العالم أروع منه ولا أسمى."[42] وهذا الإنقلاب الذي حصل بتخطيط مبدع يعتبر نتاجاً لا بل إبداعاً للأمة السورية متجلّياً بعقل أنطون سعاده وشخصيته الإجتماعية العبقرية التي تمثّلُ يقظة الأمة وحيويتها وتعبِّرُ عن حقيقتها وجوهرها وعن أمانيها ومقاصدها السامية في الحياة وهو القائل بكل وضوح، في ختام كتابه الأخير "الصراع الفكري في الأدب السوري": "إنّ ما دفعني إلى إعطاء هذا التوجيه هو محبة الحقيقة الأساسية التي وصل إليها تفكيري ودرسي وأوصلني إليها فهمي، الذي أنا مديون به كله لأمتي وحقيقتها النفسية".[43] وفي خطابه في حفلة الأول من آذار عام 1949 يقول:
" كل ما فينا من خير وطموح وعظمة ليس شيئاً من خصوصيات الأنانيات الصغيرة المحدودة، التي لا يمكن أن تبني عظمة أو تتسع لعظمة وطموح، بل هو من صميم العظمة الواسعة، اللامتناهية، المستمرة التي هي عظمة المجتمع عظمة الأمة السورية التي نحن أبناؤها وموطدو حقيقتها وعظمتها."[44]
وهذا الإنقلاب الفكري كانت نتيجته ولادة الفلسفة المدرحية التي أتت بنظرة جديدة جامعة للمذاهب الفلسفية الإنسانية المتنافرة، وطامحة، بإرتكازها إلى العقل والعلم والمعرفة الهادية والوعي القومي الصحيح، إلى إقامة الحياة المثلى وتحقيق غايات إنسانية، لا غيبية، وإشادة عالم جديد أفضل وأجود من الموجود.
فلسفة إرتقاء الثقافة
الفلسفات الجزئية المتنافرة والأحادية التفسير (من شيوعية وماركسية جامحة وإشتراكية ونازية وفاشية ورأسمالية خانقة وشخصانية أنانية وفوضوية) تصادمت مع بعضها وحاولت السيطرة على شؤون العالم وثرواته ولم تنتج إلا النِزاعات الدولية والحروب العالمية والإقليمية والإلغائية المُدّمِرة والأزمات الإقتصادية والسياسية والإجتماعية والإضطرابات وحوادث العنف والشغب وأدت إلى إفقار الشعوب وإخضاعها في نظام عالمي طبقي وإلى تخبطها ضمن مجتمعاتها - بين طبقات ساحقة ومُرهِقة وطبقات محرومة ومسحوقة مادياً ونفسياً - ومعاناتها من مشاكل الفقر والبؤس والبطالة والمجاعة والقمع والإستغلال واللامساوة وإنتشار الإرهاب المنظّم والجرائم المنظمة والمخدرات والأمراض والأوبئة والتلوّث البيئي والأسلحة النووية والبيولوجية والجرثومية الفتّاكة وبروز مشكلات الأقليات الأثنية والطائفية المعقّدة والمتقوقعة وغيرها من المشاكل والأزمات العالمية والمجتمعية التي لا يمكن تعدادها.. وآزاء فشل هذه الفلسفات الخصوصية المتنافرة، أو كما يسميها سعاده: "الفلسفات الأنانية التي تحيا بالتخريب"[45]، وفشل أنظمتها وديمقراطياتها بحلِّ التناقضات الداخلية – النعرات العنصرية والعصبيات الطائفية والطبقية والإقطاعية والعشائرية والعائلية - وكل الأضاليل الإجتماعية ــــ الإقتصادية التي نشأت في المجتمعات.. وآزاء فشلها بحلِّ مشكلة الإستعمار الإستيطاني وحقوق الشعوب في سيادتها على نفسها.. برز سعاده بفكره الإبداعي المستقل معلناً رفضه للصراعات المهلكة ومؤكداً انها صراعات مميتة ومؤدّية إلى الهلاك و"إنّ المجتمع السوري لا يمكنه أن ينتظر وأن يقف جامداً تجاه مشاكل المجتمع والإنسانية.."[46] وبالتالي فإنه لا إنقاذ من هذه الصراعات إلا بإعتماد مبدأ التفاعل المتجانس المحيي القائم على الإنفتاح على ثقافات العالم وعلى قبول وإحترام وجود المجتمعات وحرياتها وخصوصياتها: ""لا يمكننا أن نقف مكتوفي الأيدي بينما العالم يكاد يهلك في صراع مميت بين مبدأ الترجمة المادية للحياة البشرية ومبدأ الترجمة الروحية للأعمال الإنسانية."[47] لذا فإنّ الحركة السورية القومية
"ترفض الإقرار باتخاذ قاعدة الصراع بين المبدأ المادي والمبدأ الروحي أساساً للحياة والأعمال الإنسانية. ولا تقف الحركة السورية القومية عند هذا الحد، بل هي تعلن للعالم مبدأ الأساس المادي ــــ الروحي للحياة الإنسانية، ووجوب تحويل الصراع المميت إلى تفاعل متجانس يحيــي ويعمر، ويرفع الثقافة ويُسيّر الحياة نحو أرفع مستوى."[48]
وبتفكيره الجديد ونظرته الشاملة إلى الحياة والكون والفن، يؤكد سعاده على دور التفكير السوري الإبداعي الحضاري بترقية الثقافة وبتسيير الحياة نحو أرفع مستوى معلناً: "إنّ الحركة السورية القومية لم تأتِ سورية فقط بالمبادىء المحيية، بل أتت العالم بالقاعدة التي يمكن عليها استمرار العمران وارتقاء الثقافة."[49] وهذه القاعدة تقدمها الفلسفة المدرحية الجديدة "القادرة على التأسيس أو البناء لحياة أسعد حالاً وأبقى مآلاً."[50] وهذه القاعدة ترتكز على العلم والمعرفة الصحيحة وعلى وجدان الإنسان – المجتمع وعقله الواعي، المتحرر، الذي يتيح له أن يمزقَ الحجب ويكتشفَ نواميس الحياة الإجتماعية وأن يخرجَ من ظلمات التخلف والجهل والإنحطاط ومن عالم الأوهام والخوارق وفوضى النظريات الغامضة والمفاهيم المبلبلة في تعيين الحقائق إلى حالة الوضوح والجلاء واليقين، حالة التفكير الصحيح والوصول إلى معرفة الحقيقة الإنسانية التي تؤدي إلى وضع الحلول الناجعة لمشكلات المجتمع الإنساني وخطط النهوض الراقية التي تطلق المواهب الخيّرة والعقول النيّرة التي تفعل في الوجود ثقافة وإنتاجاً وخيراً وتعميراً ورقياً والتي تنتج المعارف الجديدة في شتى الميادين فتساهم في إغناء فكر الإنسانية وتدعو الشعوب لنبذ التخصام والتصادم والإقتتال ولتجنب الحروب والكوارث والويلات وإعتماد ثقافة التفاعل الحضاري: تفاعل الثقافات والمعارف والتجارب والخبرات من أجل إشادة عالم حضاري جديد يقوم على ثقافة الخير والحق والعدل والتعاون والتواصل والتفاهم والسلام بين الأمم وإحترام حرياتها وسيادتها.
فلسفة التفاعل:
إن مستقبل الإنسانية ورقّيها مرهون بالفلسفة المدرحية المُنعِشة وبما تقدمه من نظرات جديدة في الإجتماع والسياسة والإقتصاد والفن وفي غيرها من المجالات لأنها فلسفة خيِّرة ومُنعشة وصالحة لتقدم الحياة الإنسانية وعمرانِهَا.. يقول سعاده: "أن هذا العالم يحتاج اليوم إلى فلسفة جديدة تنقذه من تخبط هذه الفلسفات وضلالها. وهذه الفلسفة الجديدة التي يحتاج إليها العالم - فلسفة التفاعل الموحد الجامع القوى الانسانية - هي الفلسفة التي تقدمها نهضتكم".[51]
ويضيف:
إني أقول إنّ النظام الجديد للعالم لا يمكن أن يقوم على قاعدة الحرب الدائمة بين الروح والمادة ـ بين المبدأ الروحي والمبدأ المادي ـ بين نفي الروح المادة ونفي المادة الروح، بل على قاعدة التفاعل الروحي - المادي تفاعلاً متجانساً، على ضرورة المادة للروح وضرورة الروح للمادة، على أساس مادي ـــ روحي يجمع ناحيتي الحياة الإنسانية. بهذا المبدأ ـ بهذه الفلسفة ـ فلسفة القومية الاجتماعية ـ تتقدم النهضة السورية القومية الاجتماعية إلى العالم واثقة أنه يجد فيها الحل الصحيح لمشاكل حياته الجديدة المعقدة، والأساس الوحيد لإنشاء نظام جديد تطمئن إليه الجماعات الإنسانية كلها وترى فيه إمكانيات الاستقرار السلمي واطّراد الإرتقاء في سلّم الحياة الجيدة.[52]
وهذه الفلسفة، التي نجد فيها تعبيراً عن حاجات إنسانية عامة ورؤى لقضايا إجتماعية وإقتصادية، لا تقوم على التفسير الآحادي بل على مبدأ جامع هو مبدأ التفاعل المادي - الروحي الطبيعي في حياة الشعوب.. فالجماعة المتفاعلة مع بيئتها الجغرافية في وحدة الحياة والمصالح تُنتج ثقافتها العمرانية وتتطّور حياتها وفاقاً لتطور التفاعل بينها وبين البيئة الطبيعية بدافع حاجاتها في الحياة.. ويقول سعاده في كتابه "نشوء الأمم": "لا يمكننا أن ندرس الثقافة ومراتبها ونتابع تطورها إلا في سياق التفاعل، أي في تتبع أعمال الإنسان على مسرح الطبيعة."[53] فالبيئة الطبيعية هي هامة لحياة الإنسان وهي مسرح أعماله ونشاطه وسعيه لبلوغ حاجاته وبقاء ذريته وهي التي تقدم له الموارد والإمكانيات والمواد الخام لإستغلالها وإرضاء شعوره بالحاجة. فهو يؤثر في البيئة ويكيفها لتوافق حاجاته الحيوية ويتأثر بها في الوقت ذاته ويكييف حاجاته وفقاً لتكوينها الطبيعي وخصائصها.
والجماعة تكتسب شخصيتها من نوعية مزيجها السلالي ومن نوعية البيئة التي تفاعلت ضمنها العناصر التاريخية المكّونة لهذا المزيج. فالبيئة – الأرض بخصائصها (حدودها وطبغرافيتها)، وظروفها الطبيعية هي قوام شخصية الجماعة يضاف إليها مؤهلات الجماعة واستعدادها للإستفادة من طبيعة الأرض وإمكانياتها وشعورها بإرتباطها الوثيق بالأرض التي تملكها ..
وشخصية الجماعة الخاصة، المكتسبة من البيئة نتيجة التفاعل الطبيعي القائم على التعاون والإشتراك الوثيق في أسباب الحياة لفترة طويلة من الزمن، تتجلى بوحدة الجماعة النفسية، بثقافتها وبنظرتها الواحدة إلى الحياة والكون والفن. إن الإشتراك في الحياة الواحدة يوّلد نضوج الجماعة ووعيها لشخصيتها ومميزاتها ولوجودها المجتمعي وهو ما يعرف بالوجدان الإجتماعي او القومي، أي الشعور بوحدة الحياة والوجود ووحدة المصير وضرورة الإتحاد لتأمين المصالح المشتركة في حياة الجماعة، او المجتمع، ويجعل وجود هذه الجماعة وجوداً إجتماعياً متماسكاً.
إن مبدأ التفاعل الجامع هو المحرّك الذي يقود تطور البشرية وارتقائها في ثقافاتها المادية والثقافية. الثقافة النفسية بما تشمله من ظواهر الحياة العقلية تقوم على الأساس المادي، أي على الثقافة المادية وتجاريها. فالحياة العقلية، يقول سعاده، "لا يمكن أن تأخذ مجراها إلا حيث تستتبّ لها الأسباب والمقومات. ولذلك نجد التّطوّر الثّقافيّ بجميع مظاهره يرتقي ويسبق غيره حيث أسباب الحياة أوفر وأرقى ممّا في سواه.."[54] إن الثورة السورية الثقافية التي تمثلت بطورها الأول: ثقافة التجارة التي قام بها الكنعانيّون (الفينقيّون)، وهي عامل إقتصادي-عقلي ساهم في تفاعل الثقافات وإكتشافها وفي نشوء علاقات تجارية وصناعات عديدة، ومن ثم بإستنباط الأحرف الهجائيّة، التي قادت "العالم في طريق المعرفة والعلم وتفوّق القوى العقليّة على صعوبات الطّبيعة"[55]، هذه الثورة السورية وضعت أساساً متيناً للثقافة الإنسانية وفتحت طريقاً جديداً للإرتقاء "انتهى إلى عصر الآلة الصّناعيّة الّذي هو عصر التّمدن الحديث."[56] وكما يقول سعاده:
يتبع