عندما قرّر معاوية، والي الشام، غزو قبرص، سنة 28 هـ / 649 م، كتب إلى الخليفة عمر بن الخطاب، في المدينة، يستأذنه الانطلاق في حملته، وإذ رفض الخليفة طلبه مبرّراً رفضه بوجود البحر «بيننا وبين قبرص» وما يشكّل البحر مِن مخاطر على العرب المسلمين المشاركين في الحملة، حيث كان العرب يخافون ركوب البحر. ردّ عليه معاوية متحدّياً قائلاً له: «كيف لا أحتلّها وأكاد أسمع صياح الديكة فيها مِن اللاذقية؟». وكان لمعاوية ما أراد!عام 1937، وفي كتاب «التعاليم القومية الاجتماعية» الذي يحدّد فيه أنطون سعادة، مؤسّس الحزب السوري القومي الاجتماعي، «الوطن السوري»، يُكمل توضيح الحدود الشمالية–الغربية لهذا الوطن التي تشمل جزيرة قبرص التي هي «جزء من الوطن السوري في الماء». والمقصود، هنا، بعبارة «الماء»: «البحر السوري» أو البحر الأبيض المتوسط. وقد أكّد سعادة على هذا التصريح حتّى لا يبقى أي شكّ في ما يعنيه بـ«البحر السوري في الغرب». ويتوسّع سعادة في شرح رأيه في قبرص وهويتها السورية فيقول: «أمّا جزيرة قبرص فترون موقعها في حضن خليج الإسكندرونة (المحتل من تركيا) وذراعها ممتدّ نحو هذا الخليج السوري، فكأنها تقول: مِن هذه الأرض أنا وإليها أنتمي. إنّ هذه الجزيرة تكاد تكون ملتصقة بالشاطئ السوري، فهي، كما قلت في شرح المبادئ (مبادئ الحزب) قطعةٌ مِن الأرض السورية في الماء». إنّ تكوينها الجيولوجي مِن تكوين هذه الأرض (السورية)، وموقعها الجغرافي يجعلها تابعة لها، ومركزها الاستراتيجي يكسبها أهمية عظيمة لسلامة الوطن السوري. وهي كانت في القديم في قبضة السوريين فنزلها الكنعانيون وتوطّنوها وبقاياهم لا تزال فيها، وفيها ولد الفيلسوف السوري زينون صاحب المدرسة الرواقية.
في العشرين مِن تموز 1974، وجّه هنري حاماتي، وكان يومها يشغل مسؤولية عميد الإذاعة في الحزب القومي، رسالةً إلى العقيد معمر القذافي مرفقة بمقترحٍ سياسي بمناسبة الأحداث الجارية في قبرص، في أثر الانقلاب العسكري اليوناني الذي أطاح بمكاريوس واحتلال تركيا القسم الشمالي مِن الجزيرة. انطلق حاماتي في مقترحه مِن مبدأ أنّ للسوريين والعرب حقوقاً طبيعية وتاريخية ومصالح استراتيجية في الجزيرة، بوصفها «قطعة مِن أرضنا في البحر»، كما يقول سعادة. هذا المبدأ يُسقط كل اعتبار حقوقي للأكثرية اليونانية-التركية في الجزيرة، ويعتبر انحسار السوريين والعرب عن الجزيرة كان حصيلة «الجزر» القومي الذي منيَ به تاريخ أمّتنا أثناء سقوطها تحت ضغط الفتوحات الاستعمارية. أمّا المقترح الذي يرفعه حاماتي، باسم الحزب، إلى القذافي، فيهدف إلى تخطيط مدٍّ قومي إلى الجزيرة يُعيد ربطها بالحياة السورية والعربية، اقتصادياً وسكانياً وثقافياً وإعلامياً وسياسياً، وذلك عبْر مراحل متعدّدة، وفق خطّة دقيقة شرحها بالتفصيل في مقترحه.
وفي 19 حزيران الجاري، وفي الاحتفال التأبيني الذي أقامه حزب الله تكريماً للشهيد طالب عبدالله (أبو طالب)، تناول السيّد حسن نصرالله في خطابه قبرص: موقعاً وجزيرة وحكومة وعضواً في الاتحاد الأوروبي وطبعاً علاقتها المتميزة مع الكيان الصهيوني، كأنّ السيّد أراد أنْ يذكّر القبارصة، حكومة وشعباً، بأنهم جزءٌ مِن شعوب شرقي المتوسط، وليس غربيّه، وأنهم يحملون طباع هذه الشعوب وثقافتها ومزاجها. لذلك، فإن سلوك دولتهم، اليوم، تجاه محيطهم الأقرب، في شرقي المتوسط، يتعارض مع سلوكيتهم القديمة التي كانت تفيض، على محيطهم، بالحب والخير والجمال! وتوجّه السيد نصرالله، في خطابه، إلى الحكومة القبرصية محذّراً إيّاها، بلغة شديدة اللهجة، مِن السماح للعدو الصهيوني باستخدام أراضيها أو أجوائها أو بحرها للاعتداء على لبنان. إنّ تهديد نصرالله للحكومة القبرصية هو، في الواقع، تهديد للاتحاد الأوروبي كلّه وليس فقط لقبرص التي هي دولة عضو فيه.
هذه الإضاءات الجيوسياسية حول قبرص، بموقعها الاستراتيجي الخطير بالنسبة إلى سورية، تؤكّد للراهن والمستقبل، ما سجّله تاريخ بلادنا- ومنذ آلاف السنين- أنّ هذه الجزيرة هي حصن سورية في البحر!